قضايا

التعليم في تونس بين إكراهات الواقع واستشراف المستقبل

lotfi alsanosiيقول الإمبراطور الصيني صان تسو: "المعرفة هي القوة التي تمكن العاقل من أن يسود والقائد الخيرّ من أن يهاجم بلا مخاطر وأن ينتصر بلا إراقة دماء وأن ينجز ما يعجز عنه الآخرون"

لا يختلف إثنان على أن التّعليم في عُمومه يكتسي أهميّة خاصة بالنّسبة لكل المُجتمعات على اعتبار أنه يعدّ مدخل حقيقي للتنمية وتأهيل العنصر البشري، ولعل النقاش الوطني المفتوح في بلادنا هذه الايام حول المنظومة التعليمية يترجم مدى أهميّة هذا الملف في المرحلة الراهنة من أجل تدارك جميع المعيقات التي جعلت جامعاتنا خارج التصنيفات العالمية ، وفي هذا الإطار تشكلت العديد من المبادرات المجتمعية الرامية إلى المشاركة الفعلية في هذا الحراك والذي يأخذ شكل الورشات المجتمعية من أجل الوصول إلى تحديد المعيقات التي تقف وراء تحقيق الهدف الرئيسي والمتمثل أساسا في الرفع من مستوى مردودية وجودة التعليم وتعميمه ، وجعل المدرسة أداة للإندماج الإجتماعي من خلال محاربة الهدر المدرسي وربط المؤسسة بالمحيط الاقتصادي والإجتماعي والسوسيوثقاقي، وإعادة النظر في هيكلة البنية التحتية المدرسية، والنهوض بالمستوى التربوي والبيداغوجي للأطُر التعليمية ...

ولإعطـاء هـذا التـوجـه بعـده الـوطنـي والإستـراتيجـي، فـإن منظمـات المجتمـع المـدنـي مـدعـوة اليـوم فـي إطـار الـديمقـراطيـة التشـاركيـة التـي أقـرهـا دستـور الجمهورية الثانية للمسـاهمـة الفعليـة فـي إعـداد وتنفيـذ السيـاسـات والاستـراتيجيـات والبـرامـج والمخططـات المتعلقـة بإصلاح المنظومة، ولن يمثل ذلك كما يراد للبعض أن يقدموه على أنه تأزيم للوضع وإنما استشرافا للمستقبل الذي تتطلع إليه أجيال الغد الحامل لفرص المعرفة والدخول الي مجتمع الحداثة والتقدم، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإتفاق حول تشخيص العوائق التي تحول دون تحصيل منظومة تعليمية منتظرة لن يكون صعبا بقدر ما تتمثل الصعوبة في الإتفاق حـول أفضـل المقـاربـات الـواجـب اعتمـادهـا من أجل تفعيل برنامج إصلاح متكامل واقعي وفعال.

بقراءة فاحصة للواقع التعليمي نلحظ ومن الوهلة الأولى غياب إستراتيجيات وخطط واضحة للتعليم بشكل عام ونظيره العالي وهو ما شكل عائقا أدى إلى التدهور الأكاديمي الذي لا تخطئه العين،فالدور الذي تلعبه جامعات اليوم في الإسهام في التنمية وتطوير المعرفة يوصف بـالدّور الناعم، فبرغم أن جامعاتنا لا تتيح تصنيع الطائرات والسيارات بشكل كامل بما فيها المحركات، ولا الأجهزة الإلكترونية المتقدمة إلا أنها تقوم في الآن نفسه بتقديم الغِطاء المعرفي النّظري والتطبيقي والذي يسهم في التمكين من ذلك.

إن التقدم العلمي وتوطين التكنولوجيا ليست من أولويات العالمين العربي والأفريقي، فالتقديرات الأولية تشير إلى أن حجم الإنفاق في مجال التعليم في العالم العربي حتى عام 2015 يصل إلى 154 مليار دولار ، بما يعني أن حتى الحدّ الأدنى المطلوب غير متوفر من أجل التواصل مع الثورة المعلوماتية وتوطين العلم في مجتمعانا العربية والإفريقية، وهو ما يعني غياب تام لإرادة جدية ورؤية شاملة قادرة على تجسير الفجوة العلمية بين العالم الغربي والدول النامية، هذه الفجوة القائمة أساسا على ما يطلق عليه بالرباعية التكنولوجية الحاسمة،أي تكنولوجيا المعلومات والإتصالات، التكنولوجية الحيوية والنانوية، وتكنولوجيا المواد الجديدة والتي تعد وبدون أدنى شك المحرك الرئيسي للثورة التكنولوجية المرتقبة مع بداية سنة 2020.

اليوم وبعد ما يقارب ستة عقود من إستقلال تونس لا تزال معاهدنا وجامعاتنا تشكو من نقص في التجهيزات والبنى التحتية إضافة إلى تدنّى مستوى المناهج والقوانين الإدارية المنظمة للعملية التعليمية، فالتعليم يدار بطرق أقرب ما يكون إلى إدارة المال والإستثمار التجاري، وأهم ما ميّز مرحلة الإصلاح المزعوم خلال عشرية التسعينات والعشرية الأولى من القرن الحالي وبعدما تمّ بيْن عشيّة وضحاها إقرار منظُومة "إ.م. د" هو الإنفصال شبه التام بين التعليم وسوق الشغل وعدم تكافؤ فرص التعليم وتعدد مساراته ، كما أن المرحلة الراهنة تشهد عزوفا للمدرّسين بوجه عام عن المساهمة في حركة الإصلاح والتجديد التربوي واللّجوء وبطريقة ملحوظة إلى الهجرة إضافة إلى عدم فاعلية البحث العلمي و تخصص المبعوثين للدراسة في الخارج في مجالات علمية لا تتماهى والحاجات الملحّة لمجتمعاتنا، نهيك عن تدني مستوى الخريجين وعدم مواءمتهم لمتطلبات سوق العمل وحاجات المجتمع، مؤسساتنا ولمدة سنوات سقطت في منزلق التقليد والمحاكاة والقفز إلى نهايات العلوم دون وجود أرضية يرتكز عليها للإستفادة من هذه النهايات ودون أن يكون لذلك صلة بالواقع الإجتماعي.

إن العملية التعليمية لا بد لها من حركة تثوير مستمرة قادرة على قراءة التحولات التي تعيشها الشعوب على مستوى القيم والأفكار من أجل ضمان انفتاح المنظومة التربوية والتعليمة على مختلف الثقافات حتى يكون لنا جيل كوني متميز بقدرته على الحوار والمناقشة والإبداع والفاعلية والنقد، ملتصقا بالتحولات الفكرية والتكنولوجية المتسارعة والحاسمة التي تحملها الموجة الثالثة حسب تعبير “توفلر” أي عولمة اقتصاد المعرفة، لا بد لكل الفاعلين في هذا المجال أن يتفقوا على الهدف الرئيس ألا وهو تهيّئ الفرد القادر عل الكتابة والقراءة، ولا نعنى هنا قراءة النصوص بل قراءة العالم، واكتساب القدرة على الإنصات والفهم وإرادة التأثير فيها وهو ما يفترض تربية جيل قادر على التعلم المستمر و التّحليل واستيعاب الزخم الهائل من المعلومات المتوفرة أينما حلّ وارتحل وتركيز مؤسسات تعليمية وجامعات لا تعتمد في تكوينها على المعارف والنظريات فحسب.

في المثقف اليوم