قضايا

فصل الخطاب في التعريف بالآداب

شأننا مع الأدب الإسباني هو شأن الإسبان أنفسهم مع نهر الغواديانا، الذي يضربون به المثل في اختفاء الشيء ثمّ ظهوره بعد لأيٍ وأين. بل شأن ذاك المسافر الذي داعب الكرى عينيه فنام ثمّ صحا بعد شوط بعيد من الطريق، فإذا الوقتُ غير الوقت وإذا المشاهدُ غير المشاهد.

تؤرّخ بدايات الأدب الإسباني في القرن الثاني عشر الميلادي، ولكنّ قارئنا لا يصحو إلاّ في القرن السابع عشر على هرج دون كيشوت ومرجه، يصارع طواحين الهواء ويحارب، بمفرده أو بصحبة حامل درعه سانتشو بانثا، كلّ من أو كلّ ما توهم أنّه عدو لدود أو قاطع طريق أشر.

ويعود القارئ إلى إغفاءة لا يصحو منها إلاّ بعد ثلاثة قرون على صوت نيران تطلق ومنظر دم يراق: دم لوركا، شاعر غرناطة الحالم.

وهكذا حكم على الأدب الإسباني أن يظل ممثّلا باسمين لا ثالث لهما: دون كيشوت ولوركا، وحكم على قارئنا ألا يصحو إلا في محطتين: محطّة القرن السابع عشر ومحطة القرن العشرين. وما أبعد هذا عن ذاك، وما أكثر ما سُبق به الأوّل وما أكثر ما لُحق بالثاني، وما أكثر ما جرى بين الاثنين من مدادٍ ومن زمن. لا أنكر أنّ القارئ العربي بدأ يسمع بأكثر من ذينك الاسمين إذا " ذاع صيت " ألبيرتي وغارثيا ماركيث وبارغاس يوسا وحفنة قليلة من أدباء يكتبون بالأسبانية على امتداد قارة كاملة فضلا عن بلد أوربي ذي أدب عريق، لكنّ الهدف ما زال بعيدا والشوط ما زال في بدايته المتعثرة المتبعثرة.

مناسبة هذه الحديث ليست هي الأدب الإسباني، بل هي آداب العالم في مجملها. كم نعرف عن الأدب الفرنسي والروسي والإيطالي والبرتغالي؟ وكم نعرف عن آداب أوربا الشرقية؟ وماذا عن آداب الشرق غير العربي؟ مجرّد أسماء مبعثرة هنا وهناك لكاتب أو شاعر، ومجرد قصيدة يتيمة أو قصّة في غير سياقها ولا تسلسلها. هل يعلم من لم يتخصص بالأدب الأسباني أنّ في أسبانيا آدابا غير الأدب الإسباني؟ بأنّ هناك أدبا كاتلانيا مكتوبا باللغة الكتلانية وباسكيا مسطرا باللغة الباسكية وغاليثيا مدونا باللغة الغاليثية؟ ولا شكّ أنّ ما يقال عن " آداب " أسبانيا ينطبق على آداب فرنسيةٍ وإيطاليةٍ وإنكليزيةٍ كتبت بغير لغات فيكتور هيجو ولومبيدوزا وشكسبير.

لا بدّ من عمل منظم. ولا بدّ من مؤسسات تنبري لقيادة حركة تأليف وترجمة منظمة ومنسقة ومدروسة، تتولى تنسيق هذا الجهد الفردي المبعثر المكرر والعقيم بسبب ضعف قوة دفعه وهشاشه عظامه وغياب الأوركسترا التي تقوده.

أمنيتي أن يبدأ كلّ منّا ضمن دائرة اختصاصة ولغته بالتعريف بأدب الأمة التي درس أدبها ولغتها وتخصص فيهما، وأن يقصر جهده على ذلك الأدب على سبيل الدراسة أو الترجمة المنظمة التي تراعي تسلسلا معينة ونظاما بعينه. أمّا أن نترجم هنا ولا نترجم هناك، أو نترجم الإسبانية عن الهندية أو الإنكليزية عن الدنماركية فهذا عندي ترف وإمضاء وقت أعترف أنّه ممتع في ترجمة أشياء تروق لنا وتستهوي قلوبنا وتشبع رغبتنا في اللعب بالكلمات وتطويع عربيتنا واختبار مخزوننا من المفردات والأخيلة، لكنّها، هكذا، لن تطمر الهوّة ولن تلبي الغرض الأهم والغاية الأبعد ألا وهي القيام بمسح أدبي ينتهي بردم الحفر الكثيرة وملئ الفراغات الهائلة التي يعاني منها هذا الجانب من ثقافتنا.    

 

د. بسّام البزّاز      

 

في المثقف اليوم