قضايا

أسبانيا ولغاتُها والأمريكتان من صنع طارق بن زياد

من مفارقات التاريخ والسياسة واللغة أنّ الفتح العربي لشبه الجزيرة الأيبرية في القرن الأول الهجري/ الثامن الميلادي هو ما أسهم أولا في نشوء الممالك المسيحية العديدة، ثمّ في تشكّل اللهجات الخاصة بتلك الممالك. تلك الممالك لم تلبث أن اختُصرت لتكوّن ما يعرف اليوم بأسبانيا والبرتغال، أمّا اللهجات فلم تلبث أن أصبحت لغاتٍ مستقلّة بعد أن كانت لغة لاتينية واحدة. أمّا كيف حدث هذا فكان قدرا مقدرا.

معروف أنّ الفتح العربي انطلق من الجنوب واندفع شمالا مع تمدّد نحو الشرق والغرب، لكنّه لم يصل إلى كلّ صقع من أصقاع شبه الجزيرة، بل بلغ حدود ما عُرف بالثغر الأعلى الأندلسي حيث المناطق الشمالية الجبليّة الوعرة وحيث الأطراف الشمالية وسطا (ليون وبلاد الباسك وأستورياس وكانتابريا) وشرقا (كاتالونيا وأراغون) وغربا (غاليثيا أو جليقية).

انشغل المسلمون بترسيخ مواطئ أقدامهم بينما انشغل ساكنو البلاد الأصليون بلعق جراحهم ولملمة شتاتهم ومناوشة أعدائهم قبل الشروع في بناء دويلاتهم وممالكهم كلّ من مكانه وموضعه لأسباب تتصل بنفوذ أسر حاكمة وأمراء حرب في كلّ إقليم، فضلا عن طبيعة تلك المناطق الشمالية الممتدة من أقصى ركن في شرق شبه الجزيرة على البحر المتوسط إلى آخر زاوية في الغرب على المحيط الأطلسي، مرورا بالساحل الصخري على البحر الكانتبري.

لقد عملت هذه الظروف السياسية والجغرافيّة ذاتها على أن تستقلّ الممالك وتتعدد. كما عملت على أن تنغلق اللغة اللاتينية العامية على نفسها وتتشرنق داخل كلّ واحدة من تلك الممالك لتدخل مرحلة من التفاعل الداخلي الذي أنتج، مع الوقت ومع العزلة ومع الخلفية اللغوية والإتنية والأنثروبولوجيّة لكلّ مملكة، لهجة خاصة بها، راحت مع المزيد من الوقت تكتسب ما يقرّبها شيئا فشيئا من مستوى اللغة. وهذا هو ما حدث في سياق تاريخي آخر مع الفرنسية والإيطالية والرومانية، وهي البقية الباقية من اللغات المعروفة باللغات الرومانيةRománicas  أو اللاتينية الجديدةNeoclatinas

كان الباسك ( البشكنس، كما سماهم العرب) ولغتهم حالة منعزلة. فالباسكية لا تمت بصلة إلى اللاتينية. بينما تنطبق ظاهرة تحلل اللاتينية وتطورها على لهجات الشرق (كاتالونيا) والوسط (قشتالة) والغرب (غاليثيا).

برزت من بين تلك الممالك الثلاث واحدةٌ هي مملكة قشتالة Castilla قوّةً عسكريةً ونفوذا سياسيا. فشرعت من قلب الشمال بالتوسع قليلا نحو الأطراف وكثيرا نحو الجنوب، حيث المملكة الرابعة العدوّة: مملكة الإسلام، مخلّفة كاتالونيا في الطرف الشرقي وغاليثيا في الطرف الغربي.

كانت المحطة الكبرى في تعاظم نفوذ قشتالة ولغتها هو استيلاءها على طليطلة من المسلمين عام 1085. وطليطلة كانت قلب شبه الجزيرة جغرافيا وملتقى الديانات الثلاث. فأصبحت عاصمة المملكة القوية ومركز حركة الاسترداد، التي راحت تقضم حواضر الأندلس تباعا. وكان لقشتالة في عهد ملكها ألفونسو العاشر، الذي عرف بالعالم، ما كان للدولة العباسية في عهد المأمون. ازدهار سياسي وعلمي وثقافي. وكان من إنجازات ذلك الملك المثقف أن رفع لهجة مملكته مرتبةً وجعلها لغة رسميّة في الدواوين والمعاملات.

أمّا دولة العرب، التي دخلت واحدة متحدة لتكرّس تشتت سكان شبه الجزيرة، فقد بدأت تتشتت هي أمام توحّد هؤلاء واندفاعهم القوي لاسترداد ما فقدوه من أرض قبل ثلاثة قرون مضت.

انقلبت الآية وانعكس المشهد.

وكانت المحطة الفاصلة الأخيرة في تاريخ أسبانيا ولغتها، بل وفي تاريخ العالم ومستقبله زواجَ إيسابيل، ملكة قشتالة القوية، وفرناندو، ملك أراغون الأقل شأنا، المعروفين تاريخيا بالملكين الكاثوليكيين. وأدّى ذلك الاتحاد بين الجسدين الملكيين إلى اتحاد سياسي وعسكري بين المملكتين. وأدّى هذان الاتحادان إلى اندفاع الجيوش متحدة جنوبا جنوبا جنوبا صوب غرناطة، آخر معاقل المسلمين، لتسقطها ولتنهي ثمانية قرون من السيطرة العربية الإسلامية على مقدرات شبه الجزيرة الأيبيريّة.

كان عام 1492 هو عام سقوط غرناطة وهو عام وضع أول كتاب لقواعد اللغة القشتالية أو الأسبانية وهو عام اكتشاف الأمريكيتين.

لا مجال للحديث عن صدفة أو مصادفة. بل هو تسلسل منطقي كانت حركته الأولى هو عبور طارق بن زياد من العدوة الدنيا إلى العدوة القصوى. هذا إذا لم نشأ أن نعيد نقطة البداية إلى نشأة الخليقة والكون.   

 

د. بسّام البزّاز

 

في المثقف اليوم