قضايا

عَن التَّأِليهِ الإنسانيِّ

sahar shobbarابتداع الآلهة مقولةٌ قديمةٌ خَلَل تأريخ البشرية، لكن لعبادتِها دروباً ما تَدَعُها مواكِبُ التحديث مستأثِرةً باتجاهٍ واحدٍ، فلو وَقَعَ ذلك لَما بُعِثَ إلهٌ من جديد. وليس أدلُّ من قولِ ديدرو الشاعر المسرحي الفرنسي " آهٍ يا إلهي : الزمن الحاضِر زمنُ تابوت الرب، فالويل لِمَن يَمْسِكُه" على توالي بعثات شُكول الآلهة وأرواحها في العصر الحديث. خَالَتْ بصِيرةُ هذا الرجلِ جثةً يلفُّها عن الهَتْكِ هيكلٌ خشبيٌّ، وإن كان جُثو الجباه ممثلةً بما تواري من عقولٍ عليه لن يحكمَ رائحةَ العَفَنِ التي مَلَأتْ أنوفَ المتنسكين، كأنَّها هراوةُ هرقل تُصيب كلَّ مقتَرِبٍ من الهيكل أو التابوت المقدس. التابوتُ العتيدُ دوماً لِـــأن يتحلَّق النائحون حوله، ويطوَّف العابدون في حَرِم خوائِه، وهم فِتيةٌ ونساء وشيوخٌ ... آمنوا بروحٍ خُلِقتْ باطلةً، ورصفوا سلوكهم الجمعي في نِظام حلوكِها! الويلُ لِمن يُطفِأ شمعة الصلوات على تلك الروح، الويل لـــ: ديدرو وأضرابِهِ المنصتين لنداء العقل، والعازفين عن ولوج أُرَفِ المسوخ، والضاربينَ على رؤوس الأصنام .

إيهِ صاحبي تَبَرَّمتَ بطولِ الحديث، يسألني: هذا الذي تَعْنينَ مِمَن خُلِقَ؟ وقوة إغوائه المسوخَ أنَّى تفجرَتْ؟ وإرادة غَشيِه الأبصار لِمَ حُرِرَتْ؟ عساه أن يكونَ مخلوقاً من ماءٍ دافقٍ وكفى!! كانَ أولاً بأوليّة إرادة تملّتها نفوسٌ دون سواها، وآخِراً برغبةِ إنسانٍ قلَّبته يد الجَنَفِ والخَبْطِ حتى أَهدرَ تأملُ الإنسان العقلي الغايةَ من وجودهِ، والرغبة والإرادة أمّارتانِ بكلِّ طيشٍ إذا لم يدركهما تأمل وتبصّر.

كلُّ معبودٍ إذاً عَبَدناه أزلاً ثُم سرمداً من صُنعِ رغائبنا وإراداتنا ومنازعِنا. الويلُ لِمن يعتضُّ لحم الرغبة الطريّ كالتأريخ، إذ ينضج لتقتاتَ عقلياتٌ .. على الرخيّ من نسيجه، والليّ من مَفْصِلِهِ، والدَبِق من أَدمتِهِ. فأيُّ نحوض تُشابه هذا المقدسَ الذي أَضلَّتْه ألسنة النار والفساد حتى بَقِيّ نيئاً. أَخَذَت نوقُ صالح تُمرع النفوس في أفانين قُدسها، وتُخصب بِذار الوارثين ثمراً صِرنا من جناةِ مُرَّهِ اليومَ، وحُصّاد زُعافِه في البيتِ والشارع، والمسجد ، والمدرسة، والتلفاز، والكتاب، ورواد مظان تقديمه حيث تكمن المعتقدات وتوجد السِلع، وتُنشر الأيقونات، وتُترسَّم الرموز والشخصيات، وتُلمع السياسة، فإذا أشكالُ الوعي بما ذُكِرَ كلُّها تفقد استقلالها الذاتي ـ كما يرى مؤلِّف كتاب المصطنَع والاصطناع ـ .

يا لقَدَركَ الأعمى، أنتَ مثلُ ديدرو لن يستريحَ مما خَالَه صباحَ مساءَ، ونِدُّ صمت الكافرين بالأربابِ. وهل تُجدي الصيحاتُ؟ لا تَلبثُ الريحُ العاتية مهما عَصَفتْ أن تهدأ، فتذرَّ الطلولَ أيقونةً نقف عليها عابدينَ من جديد! قالَ صاحبي: للآلهة نكهةٌ " فاشيةٌ يمكنها أن تأرجَ لتكونَ ساحرةً أخاذةً في وحشيتها المصفاة، وقد جَمَّلتها الرجعة الماضوية". آهٍ آهٍ جُرح شيرون فيَّ. ليتَّ الموتَ يُلئمُه، أو تأفلُ الأصنام في مرحلة الفوضى العقلية والحمى التبعية ، مرحلة التداعي التأريخي والصدع الحداثي، مرحلة " احتضار المرجعيات الأساسية، احتضار الواقع والعقلاني" الذي يصبغ حيواتنا بألوانٍ قاتمةٍ سوف تتراكم في الأذهان العربية مستقبلاً.

بواعثُ جرح شيرون الخالد (عن أسباب التَّألِيه الإنساني):

في الحيِّ فرحٌ وسرور يبتدر كلَّ من يقطنُه إلا الماكث على مَقصَد الرحيل من مَهد صرخة الميلاد، وحِجر النشأة! أَبعد سنين سَرَيْنَ تسألُ عن ما أَينعت سَلْسَلاً سائغاً للوُرِّاد تلك المدينة؟

التربةُ خضراء فيها تُنبِت بُرَّ الحياة والفهم والعيش، لكن حَبَّة البُرِّ بارِقةٌ إلهاً تَتَبَرَّره نفسُك، هل من مَفَر للإنسانِ وهو في طور بدائيته يدور؟ هل من مُغيثٍ له وهو يموجُ في عُباب ما بعد الحداثية الفائقة؟ السؤال هنا لا يجدي إجابة تطلقها زفرةُ الإنسان الذي كفَّ عن تخليق ضروب من المُؤلَّهات، ولو كانت آثارها أن تعيش ذاته في بحبوحة الجحيم! ذلك الإنسان نفسُه يعبدُ إله الشَّر في خيالِه ونفسِهِ، والدم عينه ما كان جارياً في جسده إلا لِتصبّه طائفةٌ من أقرانِهِ في أفقِ الإراقة والهَدرِ . إذاً، الدمُ معبود مقدسٌ إن سُفِكَ، وإن حُقِن، وذو الدم يألفُ السبيلَ إلى التأريخ، كما يعرفُ السيّارةَ في ثغورهِ، والمنيفةَ على الذحول عند شقوقِهِ، أما كعبتُه فلا بأس أن تكون على صورة الجهل العابث بالعقول، حتى العقول التي دَلفت إلى العلمِ! إلا أنكَ ستعترض سبيل هذه الفكرة، ذو الدم إنسانٌ دانَ لآلهة الجمال والخير والحق. أنا مع اعتراضك إذا عُدْتَ أدراج فَهمكَ إلى أنَّ مُكثنا في أضرحة الخير ... سويعاتٍ نزيرة يهوي بالنفسِ إلى أعماق الحسابِ لتمتحَ العذاب من جوفِ إلهٍ أو مثالٍ نحتته أنامل الوعي الجمعي. كم تمتلئ نفسك غمّاً إذا حجبْتَها عن عملٍ تنشده طبيعتُها الغَرور! وكم يفعم هواها سروراً إذا مزَّقت تلك الحُجب!

ما أشدَّ أن نعيَ الفهمَ بما هو انفتاح الوجود على العالم بكلِّ مباهجه، وما أشدَّ أن يُخلِّي الفهم بينه وبين نزعة الانغلاق على المساوئ! أو لسنا نتخذُ الفناء غرضاً لمصائرنا! فلِمَ نُبليّ الذي لا يزول من المعاني والأفكار والقيم، ونُحيي الذي لا يُحيا من الغضب والوحشية والبغضاء؟ هَبْ أنني رضيتُ بك إنساناً مؤلِّهاً لألوانِ من الآلهة الرماد، لكنني لا أرتضي عدم مواراتِك لسوءات تلك الآلهة، ولتكن موارتك مجانفةً العصبةَ لِما ألَّهتَ، والنبذةَ لِما ألَّهه غيرك. وأعلم أنَّ من تواري سوءاتهم سيبقون عراة الألوهة الإنسانية. الألوهة التي ما احتيجت إلى عبيدٍ ثقبت أنوفهم نتانة قيح تكوّن في مُدن الرجعية، الألوهة التي يشبُّ أربابها على غير خوف مظلمٍ، وضيمٍ معتمٍ. فقد يُنضج الضيمُ إنساناً يحترز كيانه من شميم مشتوى القرابين حيث وهبتَ لآلهتكَ، ويكتمن لُبّه عما اصفّر من صلواتكِ وتراتيلك، ويَسْتَمِر مع ملائكة شأنها التسبيح لجمال الطبيعة والفنِ. ربما عِبتَ على الإنسانِ هذا سلوكه في الحياة، فرميته بتقليد الغربِ. أجل، إنساننا هذا عربيٌّ لم تستعذب مسمعه مفرداتٌ من قبيل: الأصاغر، والأصغرون، ولم تُطرِّ نفسه لوحة سجود وهجود، ولن يمسّ جبينه غبارٌ أثارته يد الآلهة فوقنا.

ـ صاحبي ينادي: أعطِ القارئ السائل جُنحاً مما طَرْتِ في هذا القولِ عليه، لِمَ أَرْغَدْنا العيش بما يتدبّره سوانا لنا، وباركَنا طفلَ التَّأليه  في خَلد كلّ بني آدم؟

ـ صوتٌ يتعهد بالكتمان: إنَّ الإنسان الحديث ليولدَ في حالِ الجهلِ، وليوضع على مرعى الصمت حيث يرتضع الذهن ما ليس بُدٌّ من الضلال حليباً، ويتصل النسلُ بأجدادٍ وآباءٍ جُذّ شطنُ توخينا لهم؛ وليربينه النساء اللواتي اعتصر روح أثدائهن أفعوان الرّباني، وشيخ القبيلة، وجائع النفس، أو كِفْلَهم، فكانت حاجاتهم تلك تجارةً لن تبورَ يحرسها الله وعبيده منذ أُتلِع فجرُ الخليقة.  وماذا غير أن تطأَ قدمُ الإنسان الحديث وهاد الماضي التي خَفَّتت في نواحيها أعلام الّتفكر، وانطفأت في جنباتها سُرج التبصر بالحقيقة. ولكثرما أَلفى حادث التَّأليه في النفس الإنسانية بحثاً عما ينتحل وجودها من غموضٍ، ويقتسر كنهها من خفاء، ولطالما قدَّست الروح البشرية أرواحاً من عدمِ نُفِثت، ومن خواء رأي دُفِقت.

أيها الإنسان الحديثُ يلزمُكَ أن تجتلي مذهب الذات القائلة: إنَّ الإله إسقاط الإنسان على نفسه ما ترفض طبيعتها، والعلاقةَ به إحساسٌ بشري بالاعتمادية. أيّتها النفس المطمئنة بإيمان سرابيِّ إياكِ أن تنفري نفورَ المِعزَى من وَعْوُعَة الأَسَدِ، إذ التمس فضولُكِ قبساً من نبذِ أي مؤلَّهٍ، وإياكِ أن تَقنطي قنوطَ الثَّكلى، إذ عَسُر انتزاع الألوهة من روح العالَم.

 

د. سحر شبر

 

في المثقف اليوم