قضايا
ثورة العقل
الكون مخلوقٌ عجيب؛ ولا ينفكّ أولو الألباب يتأمّلون باستمرار لعظيم شأنه ودقّة تفصيلاته بسعته اللّامتناهية وروعة مكنوناته وترابط أشياءه الكثيرة لموضع دهشة وتفكّر. فكلّ دقيقة من دقائقه وكل تغيّر من تغيّراته يشكّلان فعلاً عظيماً. وعند مباغتته بالتّأمل سيأخذك إلى سلسلة من المسبّبات عظيمة الحدوث الّتي تخلص إلى مُبدع عظيم استطاع بقدرته المطلقة أن يخلق شيئاً يوازي بعظمته صنيع الكون، ألا وهو العقل الّذي هو ابداع آخر يثير عنصر الدّهشة. فهذا المستودع الصّغير قد تجهّز بنظامٍ مُترابطٍ يمنحه امتيازات يستطيع من خلالها الإحاطة بمكوّنات هذا الكون العظيم الشّاسع! فقد تجهّز بالخيال الواسع وقوّة الإدراك والتّعقّب وربط الأحداث والنّتائج ويبتدع الأشياء من عناصر وموجودات مؤهّلة لأن تكون نظاماً ذا منفعة، إمّا لنفعه بدّنياً وإمّا لتزيد من علمه وبحثه المستمرّ في موجودات هذا الكون.
إنّ هذه المستودعات الفكريّة الصّغيرة قد استودعت لمخلوقات أخرى وهي الحيوانات ولكن بمستويات مختلفة. فقد صُنّفت على أساس مستويات بدءاً بالأساسيّات العُليا فما دون. ولكنّ المستودعات الملحوقة بهذه المخلوقات لا تستطيع أن تصل لمعشار ما يحتويه العقل البشريّ لأنّها محدودة التّفكير بالمستوى البيئيّ الّذي يحدّدها وفقاً للنّظام الطّبيعي الخاص بها وهي غير قادرة على التّطور والتّواصل والابتداع والاختراع. فقد التزمت بأنظمتها وتحدّدت بها وتقيّدت بفطرتها واستعملتها على أكمل وجه. لذا فالفعل العقليّ لبني البشر قد تمكّن من استخراج كُلّ الأشياء المتاحة للتّغيير ولا يزال يبتدع ويصنع وهو مؤهّلٌ للارتفاع بمستوى إبداعه وإنتاجه.
غالباً مايجذبنا التّطوّر التّكنولوجي الهائل في الوقت الحاضر، أو بشكلٍ أدقّ لعلّنا نظلمُ هذا المُقتنى الثّمين، أي العقل، بالسّطحيّة! فقد يُذهلنا عازفٌ رائع وجمال آلته ولا ننذهل لدقّة صنعها لتُعطي مخرجاً بهذه الرّوعة، أو ننبهر لمُقتنى سيّارة حديثة الطّراز أو جهاز لابتوب متطوّر ولا ننذهل لصانع هذه المُقتنيات ومجهّزها بأنظمتها المتطوّرة وغيرها من الأمثلة العديدة. وكلّما تطوّرت الأجهزة أعطت شيئاً إبداعياً إضافيّاً يخدم الإنسان ويزيد من مساحة سلطته. ولو قارنّا هذا الخلق الإنسانيّ للأشياء بما يمتلكه الإنسان لابتداع هذه الأشياء نلاحظ أنّ العقل هو نفسه منذ الأجيال البدائيّة الأولى حتّى يومنا هذا، لم تتغيّر تركيبته الخلقيّة. لكنّه في حالة تطوّر فكريّ مستمرّ يخترق الأزمنة ويصل إلى البُعد اللّانهائي من الابداع!
وهذا الأمر بحدّ ذاته يحتاج إلى تفكّر وتأمّل للصّانع العظيم والمُبدء المُبتدع الأول للعقل !
إنّ السّطحيّة هي من أخذت العديد من الاُمم وبالأخصّ العربيّة منها إلى زاوية التّأخّر الحضاريّ. ومفهوم التّأخّر الحضاريّ هنا يتضمّن التّأخّر الفكريّ أو تجميده لابتداع أو صُنع شيئ ما، كأن يكون منتجاً تكنولوجياً أو غيره من المنتجات الحضاريّة الّتي تدلّ على تقدّم البلد فكريّاً وحضاريّاً دون الاعتماد على الغير في الإنتاج. بينما اغتنام الفكر الحرّ وتسخيره للانطلاق إلى اُفق الاختراع هو من جعل الغرب في خانة الإنسان المُخترع المتطوّر فكريّاً وحضاريّاً، بينما اشتغل عقل الآخر بالتّناحر الطّائفي والتّعصّب الفكريّ واضطهاد الأفكار المعارضة هو من جعله في حيّز الإنسان الجامد فكرياً.
إنّ التّجميد الفكريّ سببه ابتعاد التّفكّر بالمسبّبات الأساسيّة والأقوى للموجودات. استطاع الغرب أن يبحث ويجد مُركّزاً على الانفتاح الفكريّ الّذي من شأنه أن يُركّز على استثمار كلّ الدّقائق الوجوديّة والتّوصّل إلى غايات لاصطناع الأشياء والنّتيجة كانت التّكنولوجيا الحديثة والعمران المتقدّم الّذي توصّل إليه . لذا فالفعل العقليّ لبني البشر قد تمكّن من استخراج كُلّ الأشياء المتاحة للتّغيير ولا يزال يبتدع ويصنع . والسّؤال الّذي يفرض نفسه، كيف ستكون الحياة، وما السّعادة القصوى الّتي كان سيتوصّل إليها الإنسان إذا ما استغلّ الإيمان المطلق بخالق هذا العقل ومبتدعه، إلى جانب ما أنزله من قوانين وأحكام سماويّة تتناسب وطاقة هذا الخلق العظيم. وتوانى عن مخالفتها وأطلق الفكر حُرّاً واشتغل بالبحث والتّدقيق في أمور الكون لابتداع الأشياء واختلاق التّطوّر.
الفئتان مُذنبتان، لكنّ الجاني الأوّل هو المتزوّد الواعي بالأحكام السّماويّة الّذي تركها جانباً ليشتغل بالإقصاء الفكري وإسالة الدماء.
بقلم سجى حامد الجزائري