قضايا

الاعجاز الزماني والتعبير عن المستقبل بصيغة الماضي

إن القرآن الكريم هو المعجزة الربانية التي عدت ابرز دلائل النبوة، وكل آية من آياته تتضمن حقيقة لا بد أن نكتشفها بشرط أن نتدبرها ونتأملها ونتفكر فيها.

ويعتبر الفعل الماضي معجزا من حيث مدلوله في القران الكريم، حيث قد يحذف منه زمنه الذي مضى ليدل على حدث مستقبلي. فهو فعل ماضي من حيث الصيغة ولكنه من حبث المعنى يدل على المستقبل الذي لم يحدث بعد. ومن هنا فتعبير القرآن الكريم بالماضي عن المستقبل يعني القطع بتحقق وقوعه، فهو أمر واقع لا محالة. كقـوله تعالى: ﴿ إذا زلزلت الأرض زلزالها ﴾ الزلزلة :1، فهذا الحدث سيقع حتما يوم القيامة وهو غيب مستقبل.

ومن ثم فإن المستقبل في علمه تعالى ماض، فهو تعالى الخالق المطلق، ومن ثم فهو غير محدود بالزمكان، هو الذي لا يتغير ﴿ليس كمثله شيء﴾ الشورى: 11، لأن الزمان هو أحد مخلوقاته، وكل ما حدث وسيحدث بالنسبة لله تعالى وقع وانتهى في علمه ودون في ام الكتاب. فالله تعالى كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، وتنفيذ ما في اللوح من أحكام تضمنتها مرهون بمشيئته تعالى، وكل ذلك عن علمه بما في اللوح من حساب وتقدير: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾ الحديد:22.

وهكذا فالمستقبل بالنسبة لله تعالى ماض، والله تعالى عندما يتكلم عن يوم القيامة مثلا يتكلم بفعل ماضي ليأمر به المستقبل وهذا يدل على ان الأمر الذي يذكره بمنزلة الأمر الماضي فهو واقع دون شك، وكأنه قد وقع، وهذا واضح في قوله تعالى: ﴿حملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة﴾ الحاقة:13، وقوله تعالى:﴿ ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث الى ربهم ينسلون﴾, يس:51. وقوله تعالى ﴿ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض﴾ (الزمر: 68 ، وقوله تعالى ﴿وانشقت السماء فهي يومئذ واهيه ﴾ الحاقة :16، وقوله تعالى ﴿برزت ال جحيم للغاوين﴾ الشعراء:91، وقوله تعالى ﴿وجاء ربك والملك صفا صفا﴾ الفجر:22 . هنا يتكلم الله تعالى عن أمر لم يحدث بعد انما سيحدث بالمستقبل وبفعل ماضي وكأنه واقع حال وبالنسبة لله تعالى ليس هناك ماض وحاضر ومستقبل كل شيء حدث وحصل وانتهى وكل شيء موجود في علمه وكل شيء مدون في ام الكتاب، وهو الخبير العليم الذي خلق الشيء من لا شيء وخلق كل شيء من العدم وخلق العدم من لا شيء . وهنا نسأل لماذا يتكلم الله تعالى عن المستقبل بفعل ماضي ؟

لأن الماضي والحاضر والمستقبل مخلوقات الله، والزمان أحد مخلوقاته إذن كيف يحكم المخلوق على الخالق بالماضي والحاضر والمستقبل . لو حكم الزمان على الخالق وهذا محال. فالمستقبل بالنسبة لله تعالى كالماضي بالنسبة لنا ، فالله تعالى ليس مثلنا ينتظر يوم القيامة، سبحانه وتعالى، إنه يرى كل شيء وكل الأحداث هو خالقها، هو خالق الزمن وخالق الأيام وخالق المستقبل، ولذلك فهو يرى كل شيء، فأراد أن يؤكد هذه الحقيقة فجاء الحديث عن يوم القيامة بصيغة الماضي.

وهكذا نجد ان القرآن الكريم هو كتاب الحقائق المطلقة، ولذلك فهو يتحدث عن أشياء مطلقة، فالزمن بالنسبة لنا نحن البشر ينقسم إلى ماض ومستقبل، أما بالنسبة لله تعالى وهو خالق الزمن فلا وجود للتقسيمات الزمانية للماضي أو المستقبل، بل إن الله تعالى يرى الماضي والمستقبل رؤية مطلقة فهو خالقهما في سياق الزمن الالهي المطلق. وهذا ايظا دليل على أن يوم القيامة له قوانينه التي تختلف عن قوانين الدنيا، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ إبراهيم: 48. اما علمنا فجزئي وليس كلي مطلق لأن من يملك العلم الكلي والمطلق هو الله سبحانه وتعالى فالله تعالى لا يجري عليه إي شيء هو الخالق الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض وإلى باقي الكواكب والنجوم والافلاك وسائر المجرات بعيونها المضلمة وثقوبها السوداء التي يتلاشى عند حدودها الزمان والمكان، خلق كل شيء بمقادير وموازين ثابته. قال تعالى:﴿ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر وكل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم ﴾ فاطر:13.... يجريان لوقت معلوم ومحدود عنده لا قبل لنا فيه ولا دراية، كقوله تعالى ﴿الشمس والقمر بحسبان ﴾ الرحمان: 5 . وقوله تعالى ﴿ إنا كل شيء خلقناه بقدر﴾ القمر:49. فكل شيء خلق بمقدار محدود ومعلوم وموزون، وخلق الإنسان من شيء لا يكاد يذكر: ﴿هل آتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا﴾ الانسان:1. قد مضى على الأنسان وقت طويل من الزمان قبل ان تنفخ فيه الروح لم يكن شئيا يذكر ولا يعرف له أثر.

وما الحياة الدنيا إلا تصوير لما خطه قلم القدر، نعيش فيها لوقت معلوم في أصعب اختبار، وكل شيء حدث وانتهى في علمه تعالى . بهذا التفصيل اتضح لنا كيف ان الله تعالى يرى هذه الأزمنة الثلاثة بنفس اللحظة، ولذلك وجدنا القرآن يتحدث عن المستقبل بصيغة الماضي.

إننا نحن البشر ننتظر حتى تحدث هذه الأشياء، ولكن الله تعالى لا ينتظر بل يرى كل شيء وقد وقع حقيقة، وهذا بين في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ النمل: 65. أحاط علمه تعالى إحاطة كاملة، ﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ﴾ الأنعام:59. وتأتي الآيات الكثيرة في كتاب الله، لتذكر بأن الله تعالى عالم بالعباد، وآجالهم، وأرزاقهم، وأحوالهم، وشقائهم، وسعادتهم، ومن يكون منهم من أهل الجنة، ومن يكون منهم من أهل النار، قبل أن يخلقهم ويخلق السموات والأرض، فهو تعالى عليم بما كان وما هو كائن وما سيكون، ولا يخفى عليه خافية في الأَرض ولا في السماء، احاط علمه بجميع الاشياء بما في ذلك سياقاتها الزمانية والمكانية

 

أ. م. د. سامي محمود ابراهيم

 

في المثقف اليوم