قضايا

العنصرية أو البنية المارقة.. ردة ولا أوباما لها

العربي إدناصرلم تكن ثورة سبارتاكوس نزاعا مع القيد الذي يضعه السيد في يد عبده، إنما كانت بالأساس انتفاضة ضد فصل الإنسان عن أخيه الإنسان، تحت عناوين مفبركة تبغي زرع الشقاق في مواطن الوفاق.

مات سبارتاكوس ولم تمت العبودية، بل صارت مقننة أحيانا ومختارة أحيانا أخرى، وظلت الفوارق تنسف العلاقات بين الناس وهم في أصل نشأتهم إلى الألفة والوحدة أقرب.

تقدم الزمن وتقدمت الحضارة وبلغت التكنولوجيا والتقنية أوجها، وطور الإنسان الآلة وذلل الحديد وعبد الجبال، لكنه لم يستطع أن ينفذ إلى ثقب أسود في لا وعيه الآخذ في الاتساع، ويوشك أن يرون على قلبه النابض بالسخف.

عمليات أعقد على العقل الرياضي من عمليات الجبر في الدرس اللوغاريتمي، إنه الذهول عن الحقيقة التي لا يدانيها إلا قدسية الحرية وجمالية الإرادة في الكائن البشري، التي هي فضيلة لا يدركها إلا من عاش في أكناف سليبتها وضرتها "العبودية والعنصرية"، وهي محجوبة عن مغتصبيها حيث أقعدهم الكبْر عن الإقرار بها، أو تمادى بهم الزمن الغدار عن موافقة حالها.

إنها سيرة ذاتية غير موضوعية تنكسر فيها شروط الأنا الأعلى في الأنانية المفرطة للأنا الدنيا، في امتحان عسير لمحك الضمير في مجانبة المصلحة الخاصة ما إن سرحت في منطقة نفوذ الآخر، التي تبقى ملكا مشاعا لقنص ما تبقى من الكرامة، وممارسة غواية الدوس على الاسم الجريح "الحرية" دون إحساس بالذنب.

ما أبشع هذه الممارسة إذا كانت تحت أعين الدولة وتحت أنظار مؤسسات حقوق الإنسان، التي تلجم أفواهها حين يكون الجلاد عصيا على الترويض، ويملك سلطة الحلال والحرام بالتشهي ويكيل بها بالميز والتفضيل.

كم هو بئيس أن يغدو الحر مجالا للهتك والفتك، وهو يرمق شعاع الشمس يشمل الخلائق ويبلغ الآفاق، فيما تقصر سماحة الإنسان عن تقبل قرينه في الحي والمعمل والإدارة، بل وفي المدرسة ودار العبادة.

في كتابه الذي يؤرخ لانطلاقة مسار نضاله ويحمل عنوان حياته قبل مؤلفه "أحلام من أبي قصة عرق وإرث"، يسطر الرئيس الأمريكي ذو البشرة السوداء باراك أوباما: "أؤمن أن قصة عائلتي ومحاولاتي لفهم تلك القصة، قد تخاطب بصورة ما صدوع العنصرية التي كانت سمة التجربة الأمريكية، وأيضا حالة الهوية غير الثابتة ... التي تمثل سمة حياتنا العنصرية" ، وبعد فوزه بأغلبية الأصوات بترشيح الحزب الديمقراطي لمقعد في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية "إلينوي"، أمام مرشحين معروفين وهو يحمل اسما مضحكا لا يملك سندا شعبيا ولا ماديا، يسجل أوباما بفخر: "وقد عبر معظم المعلقين المعروفين عن دهشتهم وأملهم الحقيقي في أن يشير انتصاري إلى تغير كبير في سياساتنا العنصرية" .

ولكن الواقع لا يرتفع فالطبع يغلب التطبع كما يقال، ولذلك شتان ما بين الطموح والواقع، مما يجعل أوباما وعائلته يقرون ويعون: "الفرق بين بريق تقارير وسائل الإعلام، وحقائق الحياة العادية الفوضوية كما نعيشها في الواقع" .

ومادام الواقع لا يتحرك بمنطق القطيعة بل بمنطق الاسترجاع، فإن التداخل بين الأزمنة هو الذي يحكم الذاكرة والسلوك البشري، وهو إحساس أو وعي انقدح في ذهنية باراك وجعله يستشهد بمقولة فوكنر: "إن الماضي لا يموت أبدا ولا يدفن تحت الثرى، بل إنه حتى ليس ماضيا" .

فماضي الانتهاكات وحاضرها معا حافل بوقائع تثبت بأكثر من دليل على عودة الآلة العنصرية في الواقع الأمريكي، بمختلف مكوناته أفرادا ومؤسسات، ويدلل على صعوبة طي ملف العنصرية بشكل حاسم، مع كل ما حققته أمريكا على الصعيد الحقوقي والسياسي، وما قضية "براون" ضد مجلس التعليم وتواتر مشاهد التعنيف ضد السود من قبل الشرطة والهزء الذي طال كنية الرئيس الجديد، إلا شواهد على رسوخ قدم العنصرية في أمريكا وفي غير أمريكا.

فمن جنوب إفريقيا بلاد نيلسون مانديلا إلى أمريكا بلاد لينكولن أبراهام، تقطع العنصرية المسافات عابرة للقارات، ومتجاوزة الحدود بدون جواز سفر، لتجني الكرامة الإنسانية عبر الأماكن المختلفة وتحني الرؤوس رغم إنباتها في تراب الحرية.

وتستفحل ظاهرة العنصرية في أمريكا وتتسرب إلى خطوطها الحمراء، وتمس جهازا في الدولة من المفترض أن ينأى بنفسه عن الخلافات المجتمعية، بل هو في الأصل مؤمن على سلامة المجتمع البدنية والمادية والمعنوية، حين يتصرف بعض رجال الأمن بسلوكات مشينة تهين كرامة المواطن كيفما كان، وتجلي عن واقع الميز في فئات المجتمع على أساس اللون والبشرة والعرق، فيغدو الشرطي فردا مكرسا لخدمة نسله وعرقه السامي ضد من دونه من السود، الذين تتهاوى عليهم هراواتهم وتنالهم ألسنتهم الحداد بالسوء، فهذا الطيش أفضى إلى تعزيز اللامساواة في الدولة ولو أنه ذو نوازع فردية، لكنه حينما يقع في أجهزة حساسة فإنه يغدو سلوكا خطيرا ماسا بهيبة الدولة، ومحفزا على الكراهية بين المواطنين، ويفقد مؤسسات الدولة مصداقيتها، ويهدد السلم والنظام العام.

فأمريكا التي تمثل رأس الحضارة المادية المعاصرة، أوشكت على الإفلاس إن هي تمادت في وأد الكائن البشري واستبقت على مظاهر الاحتقار له، باسم موافقة لون العرق الأبيض السامي، أو لمطابقة نمط العيش الأمريكي.

وحتى رئيسها الحالي الذي ناضل من أجل معركة الكرامة والمساواة وهو في رئاسة الدولة، لم يستطع أن يقطع الطريق أمام زحف العنصرية والإهانة التي تطال فريقا من الناس وهم أقران لغيرهم، لا يمسهم الفزع الأكبر إلا لأنهم مختلفون في ثقافتهم ومميزون في تقاليدهم، التي لا ترضى أن تذوب في السيل الجارف للأغلبية.

لكنه ليست العنصرية فقط فارقا في اللون ولسواد البشرة من بياضها، بل إنها وصفة جاهزة تنطبق على عدة حالات مرضية تكشف عن العلة في الحالة المشخصة، فمن عنصرية اللون إلى عنصرية المذهب إلى عنصرية الطائفة إلى عنصرية الحزب، تتقلب أوضاع العرب والمسلمين في ما يشبه انقلابا في المفاهيم الأولى التي أسست لمجتمع المدينة المنورة، وتنكرا لواقعة الإخاء بين المهاجرين والأنصار، ولمبدأ المساواة بين المسلمين عربا كانوا أو عجما أو فقراء أو مساكين أو رجالا أو نساء...

فحينما يسل الدواعش سيوفهم لقطع رؤوس الأسرى أمام أجهزة الكاميرا، وتحد الشفرات لقطع الأوداج لا لجرم مرتكب، إنما لعدم وجود الضحية في موقع الأنا الطائفية والمذهبية، ومعناه بالتبع الخروج من الدين الذي يغلف سلوك المذهب ويضفي عليه الهالة الاجتماعية والطقس الكهنوتي.

فتصنيف الناس على أساس الانتماء للمذهب رديف طبيعي للعنصرية المقيتة، التي تدفع السالك في المذهب إلى دحر المخالف في المعتقد المذهبي وهتك ستره أمام الأشهاد، بدعوى افتقاده للطهرانية التي لا تتأتي إلا باعتناق تلك المذهبية والانخراط في جيشها العرمرم.

وهذه العقلية الاصطفائية لا تخبو عند حدود السلوك الدواعشي، بل تقفز إلى صراع تاريخي بين السنة والشيعة لتشن حرب المواقع في اليمن والبحرين والعراق، لتعلن عن عنصرية طائفية طاحنة، تمجد الأحلاف وتشنع الأخلاف، وتقيم الحروب باسم الجماعة المباركة ضد الأخرى بأسماء قدحية معروفة لكلا الطرفين.

فيرمى الإنسان بنار الطائفة قبل أن تتلقه نار البارود، أو إن المشعل يوقد باسم المذهب والطائفة قبل اسم الله، إمعانا في إعلان الطريقة ورفع شأنها في النوازل وعند المحن.

إنها إذن ردة ولا أوباما لها، في وضع يتبجح العالم فيه بإعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وتأسيس المحكمة الدولية بلاهاي، دون أن يستطيع مواطن أن يرفع رأسه معلنا عن ذاته، ولا تناله مطارق العقيدة والمذهب والعرق، وكأنها سماء ثانية قدر له أن تظلله، أو أنها أرض أخرى محكوم عليه أن تقله وهو عنهما مستغن.

 

د. العربي إدناصر - كاتب وباحث من المغرب

 

في المثقف اليوم