قضايا

بازاجليا.. الطبيب الذي دمر المصحات النفسية

530 بازاجلياالسرياليون، أولئك الذين عاثوا في الحياة شغباً، بتوقهم للحرية بأوسع معانيها، بنفورهم الشديد من كل قانون وقاعدة وضعت يوماً لتفيد الإنسان، ثم صارت أشبه بحبل مشنقة يحرمه من تنفس هواء الحرية، إنهم هم من تناولوا في إحدى بياناتهم، المثيرة للجدل، في العام 1925 موضوعة مفصلية في حياة الإنسان المعاصر، كانت مندرجة في بيان موجه أصلاً لمدراء المصحات النفسية، كتبوه بلغة مباشرة، وفي غاية النبل والإنسانية، والذكاء الاجتماعي بكل جدارة. جاء في البيان قولهم: "غداً صباحاً، حين تزورون المرضى وتحاولون أن تتواصلوا مع هؤلاء البشر دون الاستعانة بأي معجم، تذكروا واعرفوا إنكم حين تقارنون أنفسكم بهم فأنتم ستبدون أرفع منزلة منهم، ولكن بناحية واحدة: النفوذ". إن السرياليين، برسالتهم هذه، يذكرون أطباء النفس إن المرضى النفسيين هم أولاً، وقبل أي شيء آخر، (بشر)، بل أن الأطباء الذين سمحوا لأنفسهم أن يمارسوا النفوذ على حرية المرضى هم الأدنى منزلة؛ لأنهم فضلوا التفرد بذلك (النفوذ) الظالم.

لم تحصل استجابة كبيرة لهذا البيان، فبالرغم من إن اندريه بريتون نفسه - أبرز مؤسسي السوريالية - كان طبيباً نفسياً إلا أن السورياليين لم يُؤخذوا على محمل الجد من قبل الأطباء، هذا إن لم يكونوا محل سخرية وتندر. وبقيت تلك الرسالة مهملة منذ منتصف عشرينات القرن العشرين حتى منتصف الستينات، حين جرى إحيائها من قبل أحد مدراء المصحات النفسية في ايطاليا، وهو فرانكو بازاجليا (1924-1980) الطبيب النفسي الايطالي الذي كان يعمل مع كادر صغير نسبياً - يضم زوجته - في إدارة إحدى المصحات.

أراد بازاجليا أن يقوم ببعض الإصلاحات، فأمر بالتخلص من القيود المستخدمة لتحديد حركة المرضى، وبالتخلص من الجدران والبوابات العالية للمصحة ومن القضبان التي تشبه قضبان السجون، ثم طلب من المرضى أن يعقدوا اجتماعات دورية يديرونها بأنفسهم، ويكون الحضور إليها بلا إكراه. كانت تلك الاجتماعات مخصصة لمناقشة أوضاعهم، وحال خدمات المصحة النفسية، كونهم هم المستفيدون من تلك الخدمات أصلاً، وبذلك نشأ ما سمي وقتها بـ (الطب النفسي الديمقراطي). ثم راحت أفكار بازاجليا تتطور شيئاً فشيئاً، إلى الحد الذي سمح فيه للمرضى بالخروج من المصحة في بعض الأحيان. ولنا أن نتصور أهمية هذا الفعل الأخير إن أخذنا بعين الاعتبار أن بعض المرضى كان قد قضى خمسين سنة داخل جدران المصحة بشكل دائم. وهنا كتب بازاجليا موضحاً كيف إن بعض المرضى انتابتهم الحيرة، للوهلة الأولى، بعد أن تيقنوا من أن في إمكانهم مغادرة المصحة النفسية بعد سنين من الرقود فيها، وها هو يقول حرفياً: "لقد دمرت المصحات حياتهم" وصار بازاجليا ينادي بإغلاق المصحات النفسية بشكلها القديم، وإستبدالها بردهات نفسية صغيرة ضمن المستشفيات العامة.

بازاجليا الثوري بطبعه - هو عضو في الحزب الشيوعي الإيطالي - ظل يحاول أن يسمع صوته فشارك في مؤتمر للطب النفسي في بريطانيا عام 1965، وقدم ورقة بحثية بعنوان مثير هو: (تدمير المصحة النفسية) ونجح وقتها في إثارة النقاش بين المختصين، ونشر كتاباً بعنوان (نكران المصحة) عام 1968 ليتكلم عن أفكاره وتجاربه.

بالطبع أن كثيرين قد عارضوا تلك الأفكار، إذ كيف يجوز في العرف الطبي الشائع والمتعارف عليه ترك المريض النفسي بلا قيود، أفلا يشكل ذلك صعوبة في السيطرة عليه؟ ألن يكون هناك أخطار تنتج عن خروج المرضى من المصحة؟ أخطار على الناس، وعلى المرضى أيضاً، بل إن تلك الفكرة في أن يعمل المرضى النفسيون اجتماعات يناقشون فيها حال المصحة تبدو فكرة غير واقعية بالمرة، إن لم تكن كوميدية أصلاً.

بقي نقاش هذه الأمور منحصراً بين المختصين فقط، فأراد بازاجليا وفريقه أن يُسمعوا أكبر عدد من الناس ما يريدون قوله، وأن يهزوا المشاعر بشكل أقوى فقاموا بدعوة مصورَين فوتوغرافيين لالتقاط صور للمرضى داخل ثلاث مصحات في ايطاليا ليوضحوا معاناة المرضى، وبالفعل صدرت تلك الصور في كتاب أسموه (أن تموت بسبب طبقتك الاجتماعية) نشر عام 1969 وكتب بازاجليا وزوجته تعليقات على الصور، وضمنوه كذلك بعض النصوص الأخرى في السياق ذاته. ثمة ملاحظة كتبها بازاجليا وزوجته على غلاف الكتاب، تحت عنوانه المثير، تقول ترجمتها: 

"إن المريض الذي يؤتمن في المصحة النفسية من أجل علاجه ينتهي إلى أن تنزع الإنسانية منه، وبالنهاية لا يعود موجوداً. إن القوانين تبتلعه فيذوب وجوده، إنه حالة قد انتهى أمرها تماماً. لقد جرى وصمه بطريقة يتعذر إلغاؤها، ولا يستطيع المريض بعد ذلك أن يمحي هذه العلامات التي تسمه، بوصفه (شيئاً) غير إنساني، ولم يعد المريض يستغيث، فانه فقد الأمل في الاستجابة".

 يكتب احد المصورين انه وزميلته حين دخلا في البدء للمصحة وأرادا تصوير المرضى قيل لهم إن عليهم أن يأخذوا الإذن من المرضى، وأن يشرحوا لهم سبب التصوير، فأحسا بالغرابة، فكيف للمريض النفسي أن يفهم طلبك في تصويره؟ لكن المصورين فوجئا أن المرضى يفهمون تماماً ما يقولانه لهم، بل ويساعدونهما فوق ذلك.

رفض بازاجليا الظهور في الصور، قائلاً انه لا يحب أن يبدو بـ(مظهر أبوي)، وشرع بالاتصال بمصحات أخرى، واستطاع إقناع إدارة مصحتين أخريتين لإجراء التصوير فيهما. وبعد أن تم التصوير، أقيم معرض لهذه الصور المأخوذة في المصحات الثلاث عام 1968، ثم راح هذا المعرض يتجول في المدن الإيطالية، قبل أن ينشر كتاب (أن تموت بسبب طبقتك الاجتماعية) في العام التالي بطبعته الأولى محتوياً على أغلب الصور مع نصوص مختارة.

لم تظهر في الكتاب الصور التي تمثل الإصلاحات التي قام بها بازاجليا، فقد ركز في التصوير على إبراز بؤس المرضى، وفقر الخدمات الموجهة لهم. لقد أريد لهذا الكتاب أن يكون صادماً وأن يظهر الانتهاكات التي كان مسموحاً باستمرارها لفترة طويلة. على أن بعضهم قد وجه انتقادات لهذا الكتاب، فحواها انه قد ركز على تصوير أسوء مظاهر المرضى النفسيين لخدمة أهداف من أنتجوه وليشكل دعاية لهم لا أكثر.

تكتب المصوًرة المشاركة في الكتاب عن تجربتها تلك قائلة: "أثناء العمل شعرت لأول مرة في حياتي بمحدودية كامرتي، فقد كان من المستحيل أن أوثق بشكل جيد تلك الحركات المكررة بشكل وسواسي، تلك الأصوات، تلك الصرخات.. لكن في الوقت نفسه فإن تأثير الصورة الجامدة هو أكثر من تأثير الصور المتحركة التي نشاهدها كل يوم من غير أن ندركها من على الشاشة الصغيرة".

كان النص الذي صاحب الصور في الكتاب مليئاً بأفكار بازاجليا الذي تأثر بمفكري الستينيات، ولا سيما بميشيل فوكو، وإرفن جوفمان، وفرانز فانون. فقد كتب بازاجليا في كتابه هذا عن معمار المستشفى وعن الاقفال والقضبان، والمرضى بصفتهم جزءا من (أثاث) المستشفى التي (يحكمها) الأطباء والممرضون. واحتوى على نصوص أخرى مثل رسالة السورياليين إلى مدراء المصحات، وختم الكتاب بنص استقالة الطبيب النفسي الفرنسي فرانز فانون من المصحة التي كان يعمل فيها في الجزائر إبان فترة الاحتلال الفرنسي احتجاجاً على سوء الخدمات. 

ولم تكن صفحات الكتاب مرقمة، ولم يكن له حقوق طبع في طبعاته الأولى، وكأن مؤلفيه يرفضون بذلك أي سلطة. كان كتاباً رافضاً غاضباً بامتياز، لسان حاله يقول: توقفوا!! هذا يجب أن ينتهي!! هذا غير مقبول!!

استخدمت التناقضات في الصور بذكاء واضح لتقوي من الرسالة المراد إيصالها، ففي إحدى الصور يظهر بوستر جراح القلب الشهير (كريستيان بارنارد) على الحائط مبتسماً عاقداً يديه على صدره، وقد برزت عبارة (اليدان المعجزتان) في إشارة إلى عمليات زراعة القلب التي كان هو رائدها، وتحت البوستر تجد ثلاث نساء حليقات الرأس ترتدي اثنتان منهما معاطف شبيهة بالبطانيات. يبدو أن ما تريد تلك الصورة قوله هو إن الطب الحديث بمعجزاته المثيرة لم يفعل شيئاً من اجل مساعدة هذه النسوة.

وتظهر التناقضات على مستوى آخر في الكتاب، ففي إحدى الصفحات نطالع صورة شباب أغنياء في حفل ما حول منضدة من الرخام ولوحات غالية الثمن معلقة على الجدران، بينما في الصفحة المقابلة لها نجد صورة مرضى في مصحة ممددين على الأرض حليقي الرؤوس، وبزي موحد. وصارت الصورة التي تمثل مريضاً حليق الشعر ماسكاً رأسه بين يديه رمزاً شهيراً لهذه الحركة الإصلاحية.

 وتمثلت أبرز أهداف هذه الحركة الإصلاحية في الطب النفسي في إدامة التواصل بين المريض والكادر الصحي بلا جدران وسلاسل، وأن تدمر الهرمية الصلبة للأدوار في المصحات النفسية، وأن ينهوا الصفة العقابية والقمعية للمصحة، واستطاعت هذه الحركة، بنشاطات روادها وبانضمام كوادر أخرى لهم، أن تؤثر في الرأي العام؛ فبعد تسع سنين تقريباً من ظهور كتاب (أن تموت بسبب طبقتك الاجتماعية) - أي في عام 1978- أقر البرلمان الإيطالي قانون الصحة النفسية والذي لم يكن من الممكن أن يأخذ له اسماً أفضل مما ظهر عليه، فكان أن عرف القانون باسم (قانون بازاجليا)، ومن بين ما نص عليه هذا القانون أن يجري التخلص من المصحات النفسية بشكل تدريجي، وأن يتم استبدالها بردهات الطب النفسي الأصغر حجماً التي تفتتح في المستشفيات العامة، وذلك بالضبط ما سعى له بازاجليا وجماعته، وأن يتم إجراء ذلك بخطوات تدريجية، بأن يمنع إدخال مرضى جدد لهذه المصحات، بشرط أن لا يتم إخراج المرضى من المصحات القديمة على نحو قسري، فقد احترمت رغبة بعض المرضى بأن يبقون راقدين فيها، فعولجوا فيها حتى العام 1998، حين أغلقت آخر مصحة نفسية في إيطاليا.

 بعد سنتين من تاريخ إقرار القانون الذي سمي باسمه، توفي فرانكو بازاجليا عن عمر 66 سنة، وبقيت زوجته التي صاحبته في رحلة الكفاح الطويلة تعمل في الميدان ذاته، بل أنها ترشحت للانتخابات البرلمانية في ايطاليا عن اليسار المستقل، وانتخبت عضواً في البرلمان لدورتين انتخابيتين (1984-1991)، وأثناء خدمتها البرلمانية ظلت تلح على ضرورة الاهتمام بالصحة النفسية، وبخدماتها وبأخلاقيات الطب وممارسته.

توفيت اونجارو عام 2005، لكن الايطاليين استمروا ليومنا هذا يفتخرون بان وطنهم  كان رائداً في إصلاح الطب النفسي، مشيدين بذكرى بازاجليا وزوجته وقوانين البرلمان التي حسنت من حال الخدمات النفسية.

بعد كل ما تقدم، لم يكن من المستغرب أن تلتفت السينما الإيطالية لهذا الطبيب النفسي العبقري، بشجاعته المهنية ونبله الإنساني، فخلدت حركته الإصلاحية بأفلام منها فلم (الظل الآخر) عام 2000، وفلم (يوماً ما كان هناك مدينة للمجانين) عام 2010، وحتى اللحظة لا تزال الصحافة الأوربية تشيد بقصة إصرار بازاجليا ومن معه.

ما هو عدد العرب الذين يجيدون الإيطالية ليتسنى لهم متابعة تلك الأفلام غير المترجمة للعربية للأسف، وإذا كان هذا حال الأفلام، فما بالك بالمشروع الأساس لـبازاجليا، المتمثل في كتبه التي تمت الإشارة إليها؟

متى ينهض أحد منا ليترجمها، أو حتى ليعرفنا بالكتب المهمة التي ألفتها زوجته أيضاً؟ لا أظن هذا اليوم قريباً؛ ذلك أن ما هو أبسط من هذا بكثير يبدو صعب المنال، فمن سيبحث في محركات البحث باللغة العربية في شبكة الانترنت لن يجد عن بازاجليا امرا كبير القيمة بحجم ما قدمه هذا الرجل الاستثنائي، في حين تعج مواقعنا الإلكترونية بهذر لا ينتهي.

 

سامي عادل البدري

 

في المثقف اليوم