قضايا

التربية الأخلاقية في المناهج المدرسية..

تماضر مرشد آل جعفرفي بحث قدمته للمشاركة في أحد المؤتمرات الخاصة بالمناهج التربوية تحدثت عن التربية الأخلاقية وأهميتها في الوضع الراهن فكان ما قدمت به حديثي:

أدت الصراعات السياسية باسم الأديان مصحوبًأ بالتطور العلمي والتكنلوجي في عالمنا اليوم إلى جعل الإنسان آلة صماء تعمل للإنتاج بلا مشاعر تسحق أمامها العاجزين عن العمل، كما أنها جعلت المجتمع يتناسى أن الضابط للعلوم والصناعات هو الأخلاق التي أوصت بها جميع الأديان والفلسفات، إذ ليس من الأخلاق صناعة آلات الدمار، أضف إليه انتشار الكآبة والهم التي أصبحت من أمراض العصر لتخلي المجتمع عن أخلاقياته، لذا تطلب لفت النظر إلى أهمية الأخلاق ودور الفلسفة الأخلاقية في معالجة آفات المجتمعات لاسيما بعد آثار الحروب والتي شُنت باسم الأديان مما أفقد المجتمعات عامة ثقتها بكل مفاهيم الأديان، ومعلوم لنا أن هدف الإسلام هو إيصال الإنسان كفرد, وكأمة إلى السعادة الحقيقية, بكل ما لهذه الكلمات من معنى، لذا توجب علينا أن نبدأ بالإصلاح من قاعدة أخلاقية وفق ما قدمته لنا الرؤية الإسلامية: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

من هنا يجب لفت انتباه وزارة التربية إلى إعادة النظر في مناهج التربية الإسلامية وتقديمها كتربية أخلاقية إصلاحية وفق المفهوم القرآني للأخلاق، أو بالتفسير الأخلاقي للقرآن الكريم مما يجعل التلاميذ جميعا أمام مربي الأخلاق لمعالجة ما في النفوس من تخوفٍ من الدراسة (الإسلامية) والتي شوهت معالمها وغايتها الصراعات السياسية.

أسندت رؤياي بآراء المفكرين ومن تحدثوا عن فلسفة الأخلاق ثم اتخذت القرآن دليلًا ومصدرًا أساس لأخلاق المسلم: ﴿وأنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفِرَّقَ بِكُم عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمُ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ﴾(الأنعام:153)، انطلاقًا من الآية الكريمة كان التوجه الإسلامي في الأخلاق نحو المصدر الإلهي: القرآن الكريم.

في عقيدتنا القرآن الكريم ناسخا للكتب السماوية ووصاياها التي تفرقت بين كتب القديسين لذلك كان جامعا للقانون الأخلاقي كله، وقد ذكر صاحب كتاب الدستور الأخلاقي في القرآن: الأوامر الأخلاقية في القرآن الكريم تتحدد في بيان الواجب، فإذا نظرنا إلى النظرية الأخلاقية للقرآن في مجموعها لأمكن وصفها بأنها "تركيب لتراكيب"، فهي لا تلبي فقط كل المطالب الشرعية، والأخلاقية، والاجتماعية، والدينية، ولكن نجدها، في كل خطوة، وقد تغلغل فيها بعمق روح التوفيق بين شتى النزعات, فهي متحررة ونظامية، عقلية وصوفية، لينة وصلبة، واقعية ومثالية، محافظة وتقدمية -كل ذلك في آن(1).

وبناءًا على ذلك جاء التعريف المميز للأخلاق الإسلامية: بأنها مجموعة الأقوال والأفعال التي يجب أن تقوم على أصول وقواعد وفضائل مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة والشريعة الإسلامية من خلال القرآن الكريم وبما بلغنا به رسولنا الكريم محمد(صلى الله عليه وسلم).

مما ترتب عليه فإنَّ الأخلاق في الإسلام ليست جزءًا من الدين بل هي جوهره وروحه لما وصف الله تعالى رسولنا صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم آية:4،وتجميل لكل ما يتعلق بالعقائد والعبادات والمعاملات بحيث يشمل الخلق كل جوانب السلوك الإنساني وهو أعظم ما أُعطي العبد من النعم،يقول الرافعي: لو أنني سُئلت عن أجمل فلسفة في الدين الإسلامي كلها في لفظين لقلت: إنها ثبات الأخلاق وتكمن أهمية الأخلاق أن القرآن قدم التزكية التي هي الأخلاق قبل العلم(2): قال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (سورة البقرة آية: 151).

ردة فعل الحاضرين:

مما لفت نظري ردة فعل أساتذة جامعيين ومدرسين ذوي شهادات عليا من المكلفين بتدريس (التربية الإسلامية وعلوم القرآن)، والتي ظهر فيها اعتراض شديد على تعبير (التربية الأخلاقية) ردا أثار استغرابي، وكأن (الأخلاق) استفزتهم! فكانت حجتهم:

- لم نتخوف من (التربية الإسلامية)!!!

- لم تريدين اختزال القرآن بالأخلاق فقط!!!

وغيرها من الردود الغير منطقية والتي تنم عن جهلهم بالمفهوم الأخلاقي القرآني.

قضية هامة:

لما تعرض المركز التجاري في أمريكا للاعتداء من قِبل إراهبيين نسبوا أنفسهم للإسلام ثارت ضغائن الأمريكيين فوقف حينها (الرئيس الأمريكي بوش) مخاطبا شعبه: من اعتدى على مسلم فإنه يعتدي على الدولة الأمريكية، فلم يتعرض أي مسلم في أمريكا وأوربا حينها للأذى احتراما للقانون الأخلاقي الذي انضبطت به الدولة، بينما قُتِل مآت المسلمين في العراق ومن الطائفتين الشيعية والسنية بعدما تفجر مرقد العسكري في سامراء ثم تبعته أحداث 2014، فأين الوازع (الإسلامي) الذي يمنع هذا القتل عن الناس؟!

القانون الديني إن لم يكن منضبطا بقوانين أخلاقية فلن ينتبه إليه أحد، كما يجب أن لا ننسى أن أهم سبب في هذه الفوضى التي استفاد منها المتأسلمون والرافضون لوجود (المنهج الأخلاقي) هو:

- أن سيئاتهم مغفورة بالكفارات التي يشرعونها لأنفسهم بتفاسيرهم وأهوائهم، بينما لا يجدون في الأخلاق كفارة ذنب!

- الإسلام وبحسب مفاهيمهم الخاطئة يمكن أن يكون حزبا وتنظيما مقاتلا، بينما لا يجد دعاة الأخلاق حزبا أخلاقيا يدعوهم للتقاتل.

- الدين وللأسف الشديد أصبح تجارة مربحة جدا، بينما لا تنفع الأخلاق للتجارة المادية فيها.

وفي معرض الرد على جملة من المفاهيم الخاطئة لمفردة (الأخلاق في القرآن) أورد مايلي:

مما ورد في أعظم صفات النبي الكريم سيدنا محمد(صلى الله عليه وسلم) قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)) سورة القلم، فلما سُئلت السيدة عائشة عن خلقه قالت: (كان خلقه القرآن) أو (كان قرآنا يمشي على الأرض)، وعلى ذلك نستطيع القول: إن الأخلاق القرآنية منظومة كاملة متكاملة.

أساس دعوة القرآن الكريم (دستور الأمة)، هي عبادة الله واتخاذ الإسلام منهاجا للتعبد إلا أنه لم يجبر أحدا فقال من باب الخطاب الأخلاقي في احترام آراء الناس: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256))سورة البقرة، فإن الآية الكريمة وجهت الدعوة بأمرين: أولهما حرية الرأي وثانيهما بيان الخطأ والصواب وما يترتب عليه التزام أخلاقي من قبل الشارع.

ثم وفي أدب الحوار والتعايش مع المخالفين لنا في الرأي ألزمتنا تعاليم القرآن الكريم بأن نتعايش بسلام معهم فقال: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)) سورة الممتحنة. فحتى في القتال بين الأقوام جعل مانعا أخلاقيا عن الذين لايشتركون في القتال.

بينما وجدنا المعترضين على المنهج الأخلاقي كونه مادة تدرس يسبون ويشتمون من خالفهم الرأي، فطعن الناس بالصحابة وآل البيت وأزواج النبي وتبادل الناس الشتائم وهم (متأسلمون).

في القضاء جعل الأخلاق ميزان الحساب بالعدل فقال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.

فجعل الشارع الجزاء أخلاقيا فيه انتصار للنفس الإنسانية ثم عفو وصفح كي لا تنتشر الثارات والضغائن، ذلك ضابط أخلاقي لا تتوارث فيه المجتمعات الثارات التاريخية.

وفي القصاص: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178).

وفي الأخلاق الأسرية: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)).

فجعل من الأخلاق أن لا ينسى الناس يوما كانوا فيه على مودة وصفاء فلا تنتشر الكراهية بعد الانفصال عن بعضهم.

كما رعى الإسلامم حقوق الجيران من المسلمين وغيرهم ووصيته الأخلاقية بالوالدين والأخوة والعاجزين بل ووصى نبينا الكريم بالإحسان عند ذبح الأغنام فجعل لها قواعدا وقوانين لا تُسيء للمجتمع الإنساني ولا تُؤلم الحيوانات.

وإن استرسلت فلن تكفيني مئة ورقة أثبت فيها أن القرآن أخلاق لا ينفصل عنها ولا تنفصل عنه.

 

م.د/ تماضر مرشد آل جعفر  بغداد

...................

1- محمد بن عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن، ص 686.

2- مصطفى صادق الرافعي: وحي القلم، ج2، ص62.

 

في المثقف اليوم