قضايا

السلطة بين الضرورة والتحسين

هناك صيحات صاخبة، ودويّ وضجيج.. وهذه الصيحات تدعو وتطالب باسقاط كل سلطة، سواء كانت سلطة نص اوسلطة معرفية، اوسلطة دينيّة، اوسلطة حكوميّة، اوسلطة اب في اسرة، او سلطة توجيه، او اية سلطة حتى لو كانت معنوية او ادبية .

يريدوننا ان نعيش في عالم لاسلطة فيه، ولاوصاية من احد عليه، ولاهيمنة من اية جهة .

فهل السلطة امر تحسينيّ تكميليّ يمكن الاستغناء عنه، ام انها ضرورة اذا تخلى المجتمع عنها سار الى هلاكه المحتوم .

الضرورة والحاجة والتحسين

وانا اتحدث عن ضرورة السلطة، وانها امر لابد منه، وبدونها يغرق المجتمع بالفوضى التي تؤدي الى هلاكة، والمجتمع مثل الفرد، له حياة وموت، طفولة وشباب وكهولة، وتقدم وتاخر، ومرض وصحة، لابد لي، وانا اطرح عنوان: (السلطة بين الضرورة والتحسين) من انّ استعير مصطلحات الاصولييّن في ترتيبهم للاولويات، والتفريق بين الضروري منها، والحاجّي، والتحسيني.

الضرورة عند الفقهاء يراد منها الحفاظ على الحياة، ودفع الهلاك عن النفس، كمن اشرف على الهلاك وليس امامه الا الميتة . الضرورة تبيح له ان يأكل من الميتة ليدفع الهلاك عن نفسه ويبقيَ على حياته . اما الحاجة فلا تدفع هلاكا، وانما تدفع حرجا ومشقة، فالجائع الذي امضّه الجوع، وجوعه لايسبب له هلاكا لنفسه، ولاتلفا لعضو من اعضائه، يستطيع ان يصبر على الطعام ولكن بحرج ومشقة . هذه الحالة يصطلح عليها الفقهاء بالحاجة . واما الامر التحسيني، فهو لايدفع ضرورة، ولايزيل حرجا، وانما هو امر تكميلي تستكمل به النفس، وبامكانها ان تستغني عنه، وهذه الحالة تدخل في دائرة التحسينيات.

فهل السلطة، ونظم الاجتماع البشري، يدخلان في دائرة الضرورة التي لايمكن الاستغناء عنها، ام تدخل في دائرة الحاجة، ام هي امر تحسيني يمكن الاستغناء عنه؟

ضرورة السلطة

السلطة عنصر اساس من عناصر الدولة، ولايمكن للدولة ان تقوم وتستقر من دون سلطة سياسية، لان البديل عن السلطة هو الفوضى والهرج والمرج . يقول الامام علي (ع) في ضرورة الامرة والسلطة السياسية:

(لابد للناس من امير بر اوفاجر، يعمل في امرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الاجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل...) .

السلطة مسألة ضرورية وليست امرا تكميليا تحسينيا، يمكن الاستغناء عنه .وقد قال جميع المسلمين بوجوبها سواء بالعقل اوبالشرع حاشا النجدات من الخوارج الذين لم يقولوا بحاجة الناس الى سلطة تسوسهم، فيما لو كانوا بمستوى يؤهلهم لرفع اختلافاتهم .

وهذا الراي قال به ابن باجة، فقد جاء في (تدبير المتوحد)، ص 62، ان ابن باجة يرى ان مدينته الفاضلة، ليس بها قضاة ؛ لان اهلها تسودهم المحبة .

نزعة الانسان للسلطة نزعة متأصلة

وهذه النزعة المتاصلة للسلطة، هي نزعة عميقة في اعماق النفس الانسانيّة، وهي تولد مع الانسان، من خلال غريزة حب التملك والسيطرة، وقد تنبه هوبز لتلك النزعة بقوله:

(البشر جميعا تتملكهم رغبة لاتهدا في ان تكون لهم السلطة تلو الاخرى، ولاتتوقف تلك الرغبة الا بالموت ....). (باري هندس: خطابات السلطة من هوبز الى فوكو، ص 69-70) .

والماركسيّة عاكست منطق الاشياء، ومنطق الفطرة بزعمها، ان العالم سيستغني عن السلطة، حين تصل البشرية المرحلة الاخيرة من التاريخ (مرحلة الشيوعية) .

والغاء السلطة يجد مبرراته في بعض الفرضيات والنظريات العلمية، كنظرية الانفجار الكبير، التي تصور ان لاسلطة تدبر امر الكون بل تشكل الكون من انفجار عظيم وفوضى كونيّة ادت الى تشكل هذا النظام الكوني المذهل . ونظرية دارون التي الغت وجود سلطة للحياة وقوة مدبرة اتقنت ترتيب الكائنات الحيّة، بافتراض ان الحياة انطلقت من فوضى وعشوائية، خالية عن الهدفية والقصد ؛ لتكوّن هذا النظام المتقن للكائنات الحيّة

ومافكرة الفوضى الخلاقة الا صدى لهذه الافتراضات ؛ فالفوضى الخلاقة من اسمها تدعو الى اسقاط الانطمة، لتخلق الفوضى التي اطلقوا عليها خلاّقة، انظمة ارقى تنظيما، واكثر امنا واستقرارا.

السلطة والتسلط

السلطة ضرورة من الضرورات، وليست امرا تحسينيا تجميلا يمكننا الاستغناء عنه . والمفكرون الاوربيون ادركوا هذه المسالة ولكن كانت لديهم مخاوف وهواجس من ان تتحول السلطة الى تسلط واستبداد، وقهر وقمع .

فنظرية العقد الاجتماعي هي محاولة لكبح تغول السلطة وتحولها الى قمع وقهر وتسلط، وكذلك الامر مع الفيلسوف الامريكي جون ديوي الذي دعا الى الديمقراطية لحل اشكالية حرية الافراد مع سلطة الدولة عن طريق الديمقراطيّة التي حلّت مشكلة التداول العنفي الدموي على السلطة وابدلته بتداول سلمي خال من العنف والدماء.

الاشكاليّة ليست في السلطة، فهي ضرورة، ولكن الاشكالية في تمدد السلطة وتغولها وتحولها الى اداة قمع وقهر .

 

زعيم الخيرالله

 

 

في المثقف اليوم