قضايا

موقف الإصلاحيًة الاسلامية من العلمانية

علي رسول الربيعياستجاب الإصلاحيون الإسلاميون لفكرة العلمانية التي طرحها الفكر السياسي الأوربي الحديث  ابان القرن التاسع عشر مباشرة أو مداورة. فلم يجد الأفغاني نفسه، في خضم تبريره لنمط من العلمانية في الاسلام، مستجيبا مباشرة لفكرة العلمانية ولكن من خلال دعوته لنظام سياسي برلماني (شورى) على نوذج برلمان الثورة الفرنسية  (المخزومي محمد  (1980): خاطرات جمال الدين الأفغاني، ط1، بيروت، دار الحقيقة، 120-123). فنمط العلمانية التي دعا اليها  الأفغاني لم تكن ضد الدين أو عزله عن الشأن العام، فقد شدد الأفغاني مثلا في رسالته " الرد على الدهريين"، بأن الدين هو  أساس المدنية والحضارة، وعليه فإن نقض الدين لا يعني شيئا سوى تقويض أسس المدنية وسلامة الاجتماع السياسي "إذ لا ريب في أن الدين مطلقا هو سلك النظام الاجتماعي، ولن يستحكم أساس للتمدن بدون الدين البتة". (عبده، الثائر  جمال الدين الأفغاني، القاهرة، دار الهلال (بدون تاريخ)، ص 119)  فكان الإفغاني، وعموم الإصلاحيين يريدون توسيع نطاق الشأن الدنيوي  وتضييق مجال الدين، أيً تقديم المصلحة الدنيوية على النص الديني عند تعارضهما.(العظمة، عزيز(1992): العلمانية من منظور مختلف، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 166)

ومن وجهة النظر هذه  رأى محمد عبده أن أصداء الإسلام ماثلة في النظام السياسي العلماني الأوربي، فأنبرى يدافع عن الإسلام وأنه عرف علمانية أوربا نفسها، وأعترض على اضفاء الثيوقراطية على الإسلام (عبده، محمد، الأعمال الكاملة، 1980، ص 287 -288) فكان هاجس الحاق المدلولات العلمانية للإسلام بنظيرتها المطبقة في أوربا، وتغيب أي تماير بينهما هو الذي دعاه الى تصور تبني  القوانين الوضعية في مؤسسات الدولة في العالم الإسلامي ستكون هي الدواء الناجع لإستعادة حيوية الإسلام (عبده، 1980،  288)

وأذا كان عبده قد دشن الطريق لعلمانية إسلامية، فإن رشيد رضا، رغم الأطار العام لإصلاحيته التي مثلت نوعا من العودة الى نمط من السلفية، الا أنه في هذه المسألة وكأنه يكمل مسار العلمنة الذي بدا به أسلافه؛ فقد عَلْمَنَ الشريعة، ورأى العلمنة بوصفها سريانا للشرع المفهوم على أنه مقاصد عامة. (العظمة، عزيز، العلمانية من منظور مختلف، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1992، ص 167) ؛ بالإضافة الى ذلك  يحاول، من جهة أخرى، البرهنة على أنْ السلطة الزمنية كانت قائمة على الإجماع  حتى في عصر الاسلام الأول، ومماثلة للسلطة الزمنية في اوربا " وإن مجالس النواب تحمل نفس مغزى جماعة أهل الحل والعقد في الإسلام المبكر، في زمن السلف الصالح  "،(رضا، محمد رشيد،  الخلافة أو الإمامة العظمى، القاهرة، مطبعة المنار، 1922، ص 59، 100) وأن أهل الحل والعقد بنظره ليسوا مرتبطين بنصوص دقيقة فبمقدورهم الأخذ بالأعتبار مصلحة المجتمع وتقدمه، وهذا يعني يعني سحب مفهوم المصلحة العامة وتكييف قرارات هؤلاء على الاوضاع الاجتماعية المختلفة، اي تبعا للزمان والمكان؛ ثم يضيف ليس الإجماع هو المسموح به فقط، وإنما هناك مجال واسع يتمثل في: استخدام الرأي، ومبدا الأستحسان بالقياس، وقدرة العقل على  إيجاد ماهو مطابق للمصلحة العامة. (رضا، تفســـير المنار، ج8، بيروت، دار المعرفة،1993، ص 169، 170، 858) 1993). وعليه  أرتأى ضمن هذا المنظور قيام التماثل وتكييف احكام الشريعة الإسلامية مع القوانين الوضعية.

أما خطاب عبد الرحمن الكواكبي فتناول مسألة الفصل بين الدين والدنيا من خلال الفصل بين الشريعة والسياسة. وهنا يكمن جانب اساسي من جوانب ما يمكننا تسميته بـ"العلمانية الاسلامية" لخطاب الاصلاحية الاسلاميًة. يميز الكواكبي بين " الدين و الحكم " قائلاُ " ان الدين شيء والحكم شيء آخر " وأن " الدين غير الحكم  ". انه يحدد بوضوح وظائف الهيئة الشوروية الاسلامية التي تنتخب الخليفة لمدة معلومة ومحددة، وأنها منحصرة في شؤون السياسة العامة الدينية فقط. (الكواكبي، عبد الرحمن، أم القرى، حلب، المطبعة العصرية (1959)، ص 106)، أن هذه السلسلة من خطابات الإصلاحيين المتمحورة حول الدفاع عن العلمانية في الإسلام  سوف تحض علي عبد الرازق على وضع القواعد السياسية للخلافة الإسلامية موضع  الشك.

Hourani, Albert (1983): Arabic Thought in the Liberal Age, Cambridge, Cambridge, 1983, p.192.

ما كان يرمي عبد الرازق اليه هو الدحض النظري لمبدأ الخلافة من أجل شرعنة النظام العلماني الذي مارسه مصطفى أتاتورك  في تركيا عمليًا أنذاك. وقد يذهب ذلك التعليل الى حد التفصيل والتعيين كأن يقال – مثلا – ان الإصلاحيين الإسلاميين ذهبوا الى التماس بعض الشرعية لفكرة الفصل بين الشريعة والسياسة (الدين والدولة) كما فعل ذلك محمد عبده في نقده السلطة الدينية  (عبده، 1980،285) واقراره بان النظام السياسي مدني في الاسلام، او الى توجيه النقد الى لاستبداد الديني بوصفه رديف الاستبداد السياسي، كما قام بذلك الكواكبي في كتابه  "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد "  (العروي، عبد الله (2008) مفهوم الحرية، ط4:، بيروت، المركز الثقافي، العربي، 95) .

قامت الإصلاحيًة الإسلاميًة على افتراض امكانية الموازاة بين واقع الزمان العلماني، وبين الدين المعياري الذي قيل عنه إنه استبق الواقع في ضرب من " الميكيافيلية الموضوعية " التي  تسم مجمل مجالات الفكر الإصلاحي التي يقصر أستعمالها على إطار واحد معين ويجد فيها انعكاسا لمحاولة الربط بين زمانين مختلفين وواقعين مجتمعين في لحظتين تاريخيتين متميزتين . (العظمة، 1992، ص  160 – 161)

 على الرغم من أن الإصلاحيًة قامت بعلمنة  الحياة في السياق الإسلامي، اي اطلاق تسميته على ما ليس من تريخها ولا من مرجعيتها فكريا وثقافيا، وأدغمت الدنيا المرتضاة سياسيا والمحتمية فكريا بمرجعية إسلامية بقيت اسمية،  الا أنها ظلت فاعلة كدلالة ايديولوجية وتاريخية تشير الى انتقالية فكر الإصلاحيًة الإسلامية بين الثقافة الدينية والثقافة العلمانية. وهي تمثل في هذا تقدم فكري كبير على ما جاء قبلها، مثل أقتباس افكار من الفكر السياسي للحداثة  واستعمالها  اليبرالي واستخدامها بمضامين تقليدية كانت دارجة في المجتمع الإسلامي  المحكوم من قبل النظام السلطاني العثماني. (العظمة، 1992 ،ص164)

فالبحث في خطاب الإصلاحيين الإسلاميين يكشف بنية مشتركة منذ اللحظة الأولى التي تلقّى فيه المسلمون "مفهوم الدولة" الحديثة، ذلك أن المشكلة الجوهرية واحدة في هذا الخطاب، أعني "مفهوم الدولة"، كذلك  نجد أن اسلام  الإصلاحيين  يقترب من الدين المدني المعنى الذي دعا اليه روسو، فأطلقوا الى اقصى ما يمكن  أن  يحتمله خطابهم الإصلاحي  منظومتهم  الاصلاحية  من آلية تجمع  الديني  بالمصالح الدنيوية، انطلاقا من ان الاسلام يجمع " بين مصالح الدين والاخرة " .

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

في المثقف اليوم