قضايا

الفكرة الإصلاحية والإصلاحية الإسلامية (1-2)

ميثم الجنابيإن حقيقة الفكرة الإصلاحية جلية شأن الحقائق الكبرى، لكن حقائقها الصغرى غامضة، شأن الحقائق الصغرى. من هنا الاشتراك العام في الموقف من الفكرة الإصلاحية، باعتبارها عملا فاضلا وصالحا وضروريا. لكن حالما تأخذ الفكرة الإصلاحية مسارها في دهاليز الحياة وإشكالاتها الواقعية، أي حالما تكشف عن "حقائقها الصغرى" فأنها تبدو "غريبة الأطوار" ومخالفة "للعقل" والعقائد "المقدسة" وما شابه ذلك من أوصاف مغروسة في الوعي التقليدي. وفي هذا تكمن مفارقة الإقرار بضرورة الإصلاح من جهة، ومعارضته الدائمة في تاريخ الأمم والعقائد والأديان، من جهة أخرى.

فالفكرة الإصلاحية من حيث الجوهر هي دعوة وتأسيس لضرورة تقويم وتعديل "الاعوجاج" في حياة الأمم والعقائد (الدينية والدنيوية). بمعنى أنها تتطابق مع مضمون "الاستقامة" و"الطريق القويم" بوصفها الصيغة الرمزية والبيانية لإصلاح "الانحراف" و"الزيغ والضلال" عن "الأفكار الأولى" و"المثل السامية" و"الأصول". وبالتالي، فإن ظهور فكرة الاستقامة والطريق المستقيم تعادل معنى الثبات في طريق الحق والحقيقة. ومن ثم لا يعني الطريق المستقيم سوى طريق الحق وتاريخه. الأمر الذي جعل من "تاريخ الحق" على الدوام اشد أنواع الاستقامة اعوجاجا، لأنه يحتوي على كافة الممكنات والاحتمالات. وذلك لأن استقامة الحق والحقيقة متعرجة بسبب تعرجهما في مسار التاريخ الإنساني، بوصفه تاريخ المغامرة الحية للجبر والاختيار، او الإرادة الحرة والقدر الغائب في مشاريع المستقبل. وليس مصادفة أن يتوصل ابن سينا إلى القول، بأن كل ما هو عصي على البرهان يمكن رميه في حيز الإمكان، وأن يقول ابن عربي، بأن الاعوجاج في القوس هو عين الاستقامة فيه. وفيهما ومن خلالهما يمكن الوصول إلى ما يمكن دعوته بفكرة الاحتمال العقلي وفكرة البحث عن نسب تستجيب لحقائق الوجود كما هو، بوصفها الصيغة المثلى والأصل الثابت في وجود الأشياء كلها. فالجمال والحق والحقيقة هو بسبب ما فيهم من تناسق النسب الذاتية المثلى. ولكل نسبة مستوى يعادل معنى الاعتدال. والإصلاح في جوهره هو بحث عن الاعتدال الأمثل. من هنا نفوره من "الاعوجاج" وبحثه عن الأصول المثلى والمثل المتسامية، أي كل ما يمكنه تجاوز "الواقع السيئ" وتذليل مختلف أشكاله وألوانه.

من هنا احتواء الفكرة الإصلاحية دوما على معنى النقد والتعديل لمجرى الحياة والتفكير والعقائد بما يتطابق مع الحق والحقيقة. وذلك لأن معنى الأصول والمثل المتسامية يتطابق مع معاني النفي الضروري لأشكالها الجامدة والقاتلة للعقل والضمير. الأمر الذي جعل من الفكرة الإصلاحية على الدوام تتضمن نقد ونفي النزعة التقليدية السائدة واليابسة، التي تعادل معنى التحنيط والتمويت البطيء للحياة نفسها. وضمن هذا السياق يكون الإصلاح جزء ملازما للوجود، بوصفه حركة التجديد الدائم، أي الحالة الطبيعية للصيرورة التاريخية في حياة الأمم، كما لو انه يعبر عن الدورة الأبدية للوجود والعدم، أي لدراما الولادة والموت. وفي هذا تكمن "دورته" الخالدة، كما لو انه يمثل حقائق الوجود الكبرى عبر تمثلها وإعادة صياغتها بمرجعيات عامة، لعل أكثرها جوهرية هي مرجعية "الرجوع إلى الأصول" ومرجعية "البدائل المثلى". والصيغة الأولى مظهرها الرجوع للماضي بينما حقيقتها تقوم بالتوجه صوب المستقبل، بينما الثانية مظهرها التوجه صوب المستقبل، بينما حقيقتها تقوم في التمّثل النقدي للحاضر والماضي. وكلاهما وجهان ونمطان وأسلوبان يكمل احدهما الآخر بوصفهما مساع وتجارب متنوعة في فلسفة الإصلاح. فإذا كانت الفكرة الإصلاحية المحددة بمرجعيات "قديمة" لكنها "حديثة"، والتي عادة ما تميز الفكرة الإصلاحية الدينية، فإن الفكرة الإصلاحية الدنيوية عادة ما تتحدد بمرجعيات مستقبلية. وسبب التباين والاختلاف يكمن في أن الأولى محكومة بفكرة الأصول الأولى ومبدأ الرجوع إليها بوصفها أعمدة اليقين العاصمة من إمكانية الشطط والغلط، بينما الثانية محكومة بفكرة التجريب والاحتمال العقلي.

 وليس هذا التنوع العام في الواقع سوى الصيغة الظاهرية والمتنوعة لثنائية الإصلاح والثورة، والإصلاح والتجديد. كما أنها تحتوي على قدر الخلاف الكامن في كمية ونوعية الراديكالية الذائبة في فكرة الثورة والتجديد. فإذا كانت الصيغة الدينية هي الأكثر تأثيرا وفعالية في تاريخ الإصلاح، فإن السبب الجوهري يكمن في سيادة وفعالية الوعي التقليدي وهيمنة فكرة "المراجع المثلى" النصية والمؤنسنة، أي التي تتخذ هيئة الهيبة المتسامية سواء في "نص مقدس" او "إنسان مؤله". بمعنى أنها الصيغة التي كانت وما تزال وسوف تبقى ما لم يجر الانتقال النوعي للوعي الاجتماعي النظري والعملي إلى مصاف ما ادعوه بالمرحلة السياسية – الاقتصادية في حياة الأمم، أي المرحلة التي تنفي في ظهورها واستتبابها المراحل الثلاث الكبرى السابقة للتطور التاريخي وهي المرحلة العرقية – الثقافية، والمرحلة الثقافية – الدينية، والمرحلة الدينية – السياسية. فهو التطور والتحول النوعي الذي يكفل للعقل النظري والعملي التحرر من ثقل الماضي ومرجعياته، وبالتالي النظر إلى المستقبل بمعايير المستقبل، أي التحرر من إشكالية الماضي والمستقبل، بوصفها إشكالية متناقضة وعصية على الحل، صوب توليفهما الديناميكي في فكرة الاحتمال العقلاني والبدائل الإنسانية.

غير أن هذا لا يغير من حقيقة الفكرة الإصلاحية بوصفها فكرة التأسيس الدائم لحقوق العقل النظري والعملي في البحث عن حلول واقعية وعقلانية وإنسانية للمشاكل والإشكاليات التي تواجهها الأمم. الأمر الذي جعل من تاريخ الفكرة الإصلاحية على الدوام جزء من تجارب الكلّ الإنساني من جهة، وحلقات ومستويات ونماذج في التجارب الإنسانية الحرة، من جهة أخرى. والمقصود بذلك التجارب التي تدرك قيمة الحرية بوصفها تجربة لا يقيدها شيء غير إدراك قيمة الاحتمال والإمكان العقلية المجردة. وما عدا ذلك مجرد نصوص تاريخية و"فصوص" مجردة، بغض النظر عن دعاوي مصادرها. إذ لا مصدر فعلي للنصوص أيا كانت، ومهما أطلق عليه من صفات وألقاب، غير تجارب الأفراد والجماعات والأمم. بمعنى أنها نصوص زمنية، لا يجعل منها نصوصا تاريخية غير ما فيها من استعداد للتحقق فقط، وليس للتجسّد والتنفيذ و"بلوغ المرام". فهذه تجارب إضافية او جانبية على هامش تجارب التحقيق الفعلي للمفاهيم والقيم الحية. ذلك يعني أن حدّ وحقيقة الإصلاحية يقومان في تأسيس فكرة الاعتدال العقلي، بوصفها تجربة الحرية المتسامية، ومن ثم غير المتناهية بالنسبة لترميم هوية الوجود الإنساني في مجرى الصيرورة الأبدية للكون والفساد (الوجود والعدم). وما عداه هو إصلاح مزيف او إصلاح جزئي.

ولا يخلو تاريخ الإصلاحية الدينية من هذا التنوع الفعال. إذ تكشف تجارب الأمم والأديان عن صيغ متنوعة للإصلاح الحقيقي والإصلاح الزائف، الإصلاح الجزئي والإصلاح الشامل. ومن الممكن الاكتفاء هنا باستعراض فلسفي مكثف للتجارب الإصلاحية الإسلامية، دون الخوض بمقارنات تاريخية وفكرية بينها وبين تجارب الإصلاحيات الدينية الأخرى (النصرانية بشكل خاص) لثلاثة اعتبارات، الأول وهو ارتباط البحث بتجربة الإصلاحية الإسلامية الحديثة، والثاني لملئ الفراغ الكبير في الدراسات العلمية والفلسفية المتخصصة، والثالث لكثرة وتنوع الدراسات المتخصصة بتاريخ وأفكار وشخصيات الإصلاحية الدينية النصرانية.

فمن حيث وسائلها وأساليبها وغاياتها تشترك النماذج الإصلاحية الدينية بأربع صفات كبرى وهي:

- وجود نص مقدس ومرجعيات عقائدية ملزمة،

- هيمنة التأويل في الموقف من هذه النصوص والعقائد،

- الرجوع إلى نموذج ماض بوصفه نموذجا مثاليا،

- وانتشار مبادئ وقواعد نظرية وعملية يجري اختزالها بمفاهيم الرجوع والتطهير والعديل والتصحيح. وعادة ما تدور هذه المفاهيم وتتجسد بالدعوة للرجوع إلى الأصول، وتطهير الوعي والسلوك العملي مما لصق بها من حراشف وتحريف، وبالتالي تعديلها بإرجاعها إلى حقيقتها الأولية، وأخيرا تصحيح الأخلاق والقيم.

أما من حيث مقوماتها وشروط عملها، فإن الإصلاحيات الدينية تشترك أيضا بأربع حقائق كبرى أساسية وهي: 

- كل حركة إصلاحية هي حركة تاريخية لها مقدماتها الخاصة ووسائلها العملية والعلمية وغاياتها المحددة،

- إنها وثيقة الارتباط بالحالة السياسية "القومية"،

- كل حركة إصلاحية هي حركة ثقافية،

- لكل حركة إصلاحية منطقها الثقافي والروحي الخاص

وتعطي هذه الحقائق الكبرى للحركات الإصلاحية وتأسيسها الفكري والفلسفي أنماطا وأبعادا غاية في التنوع والاختلاف، أي لكل منها خصوصيته وأصالته وفرادته.

أما الحصيلة العامة لتفاعل كل من هذه الوسائل والأساليب والغايات والمقومات التاريخية للإصلاحية الدينية، فإنها عادة ما تؤدي، من حيث منطقها الذاتي والاحتمال الكامن فيها، إلى الانتقال من سماء اللاهوت إلى ارض التاريخ الفعلي. ذلك يعني إنها تمثل حالة الانتقال من اللاهوت إلى السياسة، ومن زمن النصوص المقدسة إلى تاريخ البدائل الواقعية.

 ولا يشذ المنطق الذاتي للإصلاحية الإسلامية والاحتمال الكامن فيها من أثره الفعال بالنسبة لتمهيد وتأسيس حالة الانتقال من سماء اللاهوت إلى ارض التاريخ الفعلي. غير أن لهذه الحالة تاريخها وتقاليدها الخاصة. والمهمة المطروحة الآن لا تقوم في مقارنة الماضي بالحاضر، بقدر ما تقوم في رسم الصورة العامة لتقاليد الفكرة الإصلاحية، من اجل رؤية النوعية الخاصة للإصلاحية الإسلامية الحديثة. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الاحتمال الكامن فيها مازال يحتوي على إمكانيات مختلفة، لكنها تبقى في نهاية المطاف جزءا فعالا فيما ادعوه بصيرورة المركزية الإسلامية الحديثة بوصفها صيرورة ثقافية وسياسية لم تكتمل بعد.

لقد أبدع التاريخ الإسلامي مدارسه وأنماطه ونماذجه المتنوعة عن فكرة الإصلاح. وهذه جميعا بدورها وثيقة الارتباط بالعقائد الإسلامية الكبرى المتعلقة بالوحدانية والأمة والجماعة. الأمر الذي جعل من العقيدة الإسلامية الأولية العامة مصدر الفكرة النظرية والعملية للسلطة والدولة والمجتمع والأمة. مع ما ترتب عليه من بلورة تقاليد خاصة عن فقه الدولة والمجتمع والفرد.

إذ كان الدور والأثر الكامن للإسلام الأول يقترب، بمعايير التاريخ الواقعي آنذاك، من فكرة "الإصلاح الثوري" أو "الثورة الإصلاحية" الشاملة. وفي هذا تكمن خصوصيته بهذا الصدد. فقد احتوى بقدر واحد على إدراك قيمة الإصلاح الشامل، وفي الوقت نفسه بقي ضمن إطار الرؤية المعتدلة. بحيث تحولت فكرة الاعتدال إلى عصب العقيدة الإسلامية الأولى سواء بمعناها الإيماني (الديني) أو السياسي. وبهذا يكون قد وضع أسس الفكرة الإصلاحية (العملية) بوصفها حقا وواجبا بقدر واحد. وبلور بصورة أولية مبادئها الكبرى وغاياتها في مفاهيم وحدة الجماعة والأمة حول أركان الإيمان الإسلامي (العقيدة الإسلامية). وبهذا يكون قد أرسى أسس الوحدة الاجتماعية والأخلاقية والروحية والمادية الشاملة، بوصفها واحدية إسلامية، مبدأها الأول وغايتها:الوحدانية. أما نموذجها العملي ففي فكرة "الأمة الوسط".

وإذا كانت هذه العقائد العامة تكمن في أعماق الفكرة الإسلامية الأولى (المحمدية)، فإنها برزت للوجود بوصفها احتمالا تاريخيا وواقعا جديدا بعد موت النبي محمد. بعبارة أخرى، إن انتهاء مرحلة النبوة كانت البداية الأولية للتاريخ السياسي. مع ما ترتب عليه من حالة الانتقال من نموذج "الوحي المقدس" إلى نموذج الاجتهاد الواقعي. ووجد ذلك انعكاسه الأولي في ظهور فكرة الخلافة ونماذجها العملية من حيث الأسلوب والإدارة والنتائج، بما في ذلك فيما اصطلح عليه لاحقا بعبارة "خلافة الراشدين". لقد كشف ذلك عن أن فكرة الخلافة كانت تعادل ما يمكن دعوته بديناميكية الإصلاح وحدودها في الاجتهاد السياسي الجديد، أي فكرة الاجتهاد في بناء الدولة ومؤسساتها، بوصفها صيغة واعية لإشكاليات العقائد العملية ودراما التاريخ الفعلي. ومن الممكن رؤية ذلك على مثال تطور بنية السلطة ونظامها السياسي في تلك الحلقات المتعرجة والمتدرجة كما جرت أولا في حالة طارئة (انتخاب أبو بكر) ثم إلى تنصيب في حالة (عمر بن الخطاب) ثم إلى شورى (وانتخاب عثمان بن عفان) ثم إلى ثورة (جاءت بعلي بن أبي طالب للحكم).

لقد كانت فكرة الخلفاء الراشدين تعادل فكرة الاسترشاد بنموذج النبوة ولكن عبر الاجتهاد العملي الجديد في مواجهة إشكاليات الدولة والأمة الناشئتين، بوصفهما دولة وأمة خلافة، او إمبراطورية إسلامية. من هنا تزاوج الفكرة السياسية والأخلاقية بوصفها نموذجا وليس مرحلة عابرة. الأمر الذي يفسر هيمنة فكرة الروح الأخلاقي الورع للتجسد السياسي، بوصفه الصيغة النموذجية للسياسة والأخلاق العملية. من هنا خلو السياسة آنذاك من اللاهوت، بوصفه مرجعية. وليس مصادفة أن تكون بداية اللاهوت السياسي زمن عثمان، بمعنى إدخال الله طرفا في الصراع بين المسلمين، بينما كان زمن محمد هو طرف في الصراع ضد الوثنية والجاهلية العربية. وترتب على ذلك حالة وممارسة التوظيف السياسي للدين، التي كانت في الوقت نفسه بداية وباعث الانتفاض والثورة الإسلامية الأولى. وهي الحالة التي ميزت في وقت لاحق كل بواعث وأساليب وغايات الثورة والإصلاح العلني والمستتر اللذين سادا في تاريخ الإسلام.(يتبع....)

**

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم