تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

قداسة النص والدولة المدنية

انور الموسويسأجعل من مفهوم المدنية في قبالة النصّ الديني بما هُو حُكم (حُكم دُولَة) وَلَيْس سلوك أخلاقي أو نُصوص تخص ألفرد فتلك لها مواضعها وتابعة حسب التصنيف إلى الحريات والسلوكيات ومن ضمنها السلوكيات المدنية، هنا الْكَلام يتركّز حوّل مَدَى اقتراب المفهوم للدولة المدنية من المفهوم الديني ومدى الأبتعاد عَنْه في حكم الدولة على نحو الحصر.مفهوم الدّولة المدنية هو صيانة الحريات والأهم من ذلك التعامل مع الحريات علَى أساس اللافوارق، وفقاً لصيغة وطنية، واعتماد مبدأ المواطَنة في صياغة الجنسية للفرد بينما نجد أن هُناك شَيْء شبيه بالارستقراطية ان لم تكن هي الأرستقراطية بعينها في الحُكم الديني إذ أنه ينظر علَى أساس الدّيانة اولاً، والولاء بشكل ثاني، والمحسوبية التّبعية بشكل من أشكاله وكل هذه الأشكال هي مقيدة بنص وَهَذَا النص مقدس لامناص من الاجتهاد به إلا ماندر او في بعض محاوره يتم ايقافه قسراً تَحْت اشتقاقات أصولية كلامية وهذه الاشتقاقات هي ايضاً محل جدل وخلاف، فكيف يمكن ان تَكُون أسس حُكم شمولية وهي اصلاً محل خلاف! مرّة اخرى..أتكلم حوّل السياق الديني بما هو (حُكم دُولَة) وليس بما هُو قيم وأخلاق ومضامين وسير وأحكام تكليفية، تلك هويّة أخرى خارج سياق المقال،  وهذه الهُوية محترمة تَحْت مظلّة الدّولة المدنية.

يبتعد النص الديني كثيراً في حُكمه للدولة عن موازنة الحريات وغض النظر عنها، ويبتعد عَن الإنسجام مَع محيطه الإجتماعي المختلف عنه، ومحيطه الإقليمي، لكون النصوص حاكمة، وحاكمية النصّ لانقاش فيها. والغريب بالأمر نفس الحاكمية هَذَه هي محل نزاع يؤدي للأقتتال فيما بينهم  عندما يتمّ تفسير النصوص فتكوّن منشأ قِتَال تحت حجّة التأويل في بعض حالاتها والقابلة منها للتأويل، لذلك يتعامل الحُكم الديني بتصنيفات يعتبرها الاهية ومفروضة في علاقاته مع الأفراد أو مَع الدّول فتجدها مرّة تتركز بأسم ألحق الالهي وإرادة الرَّب، واُخرى متمثّلة بالفتوى الإجبارية كمدرسة حسن البنا وسيد قطب،ومرّة متضمنة سِيَر وتقليد للمعصومين [علماً أن تلك السّير كَانت قريبة جداً مَن التّربية الأخلاقية والوعظ التّربوي والتوجُّه صعوداً نَحْو كمال الإنسان المعرفي والجمالي او بمايعُبر عنه ( قوس الصعود)  ولم يكن الحُكم فِيهَا شريك].كان مبدأ تأصيل "العدل بالحكم" أرفع مقاماً من تأصيل  "كرسي الحُكم".

الدّولة المدنية لم تكُن عَدُواً لأي مؤسسة دينيّة بقدر محاولة فصلها توظيف النصّ الديني في السّياسة،فذلك شأن وهذا شأن أخر، هنا نقطة الخِلاف أن لا يتم أستغلال الأحكام النصية المقدّسة [غير قابلة النِقاش، والقابلة للنقاش] في تحقيق مصالح ومكاسب سياسيّة شخصيّة، او لجهة علَى حِسَاب جهة أخرى،ولكزب على حساب ايدلوجية حزب ديني اخر ويتم ضمان الحريات والأفكار للجميع دُون حاكمية نَص يقترب من معتقد ويبتعد عَن معتقدات الآخرين، هذا التضارب سيشكل احتراب فكري في بادئ الأمر وبفعل إخضاع النصّ بالآلة السياسيّة والإمكانيات المتاحة من موارد الدّولة سيتحوّل إلى [حروب عقائدية] وتناحر أكثرية ضدّ أقلية أو أكثرية متحكمة ضدّ أكثرية غير حاكمة،وإفرازاته يطلق عليها اصطلاحاً في عصرنا الحاضر ( الطائفيّة، والعنف، وخطاب الكراهية،والتكفير).لهجة الدولة المدنية هِي لغة التعايش للجميع في أرض وَاحِدَة بغض النَّظر عَن تِلْك الإختلافات او النصوص ومدى الإيمان بها وبغض النَّظر عَن العرق واللون،وهذا بمجمله أوسع قبولاً مَن الفرض القسري للحكم الديني،وَهَذَا منشأ الخِلاف، مبدأ التوافق هو في ضمان الحريّة في المعتقَد والدين والفكر للجميع وهذا مالا يرفضه المجتمع لكن ترفضه السُلطة الدينيّة،كما أن مظلّة القانون المدني ليست مستوردة على نَحْو الفرض أو نُسخة طبق الأصل حتمية مَن أنظمة الدّول الأخرى التي تتمتّع بحَكَم مدني، بَل هي قوانين تتناسب مَع التوجّهات المجتمعية العرفية مِنْهَا والعقائدية وبما لا تختلف مَع القيّم السماويَّة والأخلاق النبيلة للتعاليم الدينيّة مَع المحافظة علَى جَمِيع تِلْك التوجّهات وعدم إقصاء الآخرين، فالقانون واحد علَى الجميع دُون المساس لابالعقيدة ولا بالحريات مع ضوابط عدم المساس عنفيا بالمختلف عَنك وعدم تعطيل المصالح العامَّة للمجتمع والمؤسسات،تضمن الدّولة المدنية تِلْك الحقوق والممارسة والحريّة لنشاط (المؤسسة الدينيّة) بكل أشكالها بينما تبتعد المؤسسة الدينيّة في ضمان تِلْك الحقوق للآخرين. نقطة للالتقاء للدولة المدنية مَع المفاهيم الدينيّة  هي (القيّم)  فكلاهما يتفق علَى أصل تِلْك القيّم واستحسانها وجمالها لكنّهم يفترقون عَن بَعْض في الطريقة الَتِي يُريدون أن يطبقوها وبالتقيدات الَتِي يضعها المشرّع المدني والمشرع الديني. ويفتقرون كثيراً بالحكم وطبيعة إدارته فالمدني لايرى داع من إقحام النصّ الديني واستخدامه شكلاً ومضمونًا باللعبة السياسية وأساليبها، والديني يُصر على إقحام ذَلِك النصّ  بتلك اللعبة، وتسخير أدواته بها. والمدني يرى ان لا داعي لَجَعَل المؤسسة الحكوميّة هي مؤسسة وحي، والديني الحاكم يصر ان يجعلها مؤسسة ولاءات وإيحاء.اذ كان الأمر كَذَلِك ولابد منه وبفعل المرونة المدنية يمكن لنا أن نجد حل وسطاً بين الأمرين بالقفز علَى الشرعيّة المدنية لكونها المسموح الوحيد بهذا القفز، أن نجد سُلطة ذات توجّه ديني مع الحفاظ علَى الحريات العامَّة والخاصة وَذات صبغة مدنيّة على طريقة غض النَّظر فحسب.

ولو اخذنا عينةً لتمثيل الحكم التأريخي لعلي ابن ابي طالب حسب وجهة نظر الشيعة الأمامية....

 اود الإشارة هنا على  أن عليّ أبن أبي طالِب لم يكن يحكم دُولَة (كرئيس أو زعيم دُولَة) بقدر ما كان راعٍ للمضامين والقيم وتأصيل مبدأ العدل بالحكم أكثر من تأصيل مبدأ الدين بالكرسي،وكَذَلِك الحُسَيْن في سيرته ومواقفه...الخ ومَن ثم لو قبِلنا فحكم المعصوم هو غَيْرُه حُكم رجل أليوم مهما كان مقامه وعدله وعلو شأنه فَهُو لن يَكُون نظيرا كالمعصوم بطبيعة الحال لذلك أختص الفقه الأمامي بتعطيل بَعْض الأحكام وجعلها من إختصاص المعصوم حصراً أو الولي الفقيه مبسوط اليد وهذا أمر فِيه من التفصيل مايطول شَرْحَه لكن بالنتيجة لايوجد من هو شِبه للمعصوم الآن حسب قاعدة العصمة الواجبة بالنص ولايوجد معصوم ظاهر للحكم،أما بما يَخُص ولاية الفقيه فذلك أمر هُو مَن الجدليات فكيف يُمكن ان يصبح من المسلّمات في الحُكم! كلّ تِلْك المضامين لجميع المدارِس الديني هي مضامين اجتهادية لو صح التعبير وليست فعلية خاضعة للتأويل أكثر مما هي خاضعة بفعل التنزيل السماوي، تمّ الاستفادة من النصوص المقدّسة في ترميم صياغاتها وعرضها كأنها أمر سماوي حتمي إجباري بذلك أستفاد اهل الحُكم في سد باب النِقاش في قبالة النصّ! بينما لا يوجد نَص مقدّس او حاكمية مفروضة في أدبيات الدّولة المدنية بل هي سياقات وضعيّة قابلة للتغيير والتعديل حسب الظروف والواقع الإجتماعي والتقاليد الذوقية العامَّة  بما تنسجم مع الجميع والمؤطرة تَحْت صياغة تدعّى (قانون). هنا تبدأ نقطة الأقتراب من النظريّة الدينيّة فالقانون يتناسب مَع التوجّهات النصية العامَّة والأخلاقية للأديان وبما لا يختلف معها إلا ضمن حُدُود الحفاظ علَى جَمِيع التوجّهات الدينيّة، والفكريّة، والشخصية. 

 

 انور الموسوي

 

في المثقف اليوم