قضايا

أرى الجسد فنّا...

كم كبّلنا هذا الجسد، يحمل على كتفيه رأسا يعجّ بأسئلة وإشكالات تحوم حوله.. يمشي هامدا، متثاقلا يجرّ أذيال خيبته؟

دعنا ننزع عنه كلّ ما يؤرقه ويخنقه لنعرّيه ونجلّيه من ثياب لطالما كسته وغطّته فحجبت عنه الرّؤية ومنعته من الطّيران، لا أتحدّث هنا عن الثياب من بنطال أو سترة أو تنّورة بل أتحدّث هنا عن ثياب ثقيلة ثقل الحجر عاتمة أشدّ عتمة من ليلة شتاء ديسمبريّ، ثياب حاجزة مانعة تضع جدارا مانعا عازلا بينه وبين الحياة الورديّة...

لطالما ارتدى هذا الجسد وحمل على عاتقه ما لا تستطيع الجبال حمله، فمال الكتف الأيمن منحنيا للأرض لفرط ثقل العادات، أمّا الكتف الأيسر فيصارع ويكافح محافظا على التوازن من أجل الشّموخ وقد تثاقلت الخطى والأرجل الحاملة لهذا الجسد فقد فاق الحمل وزنه، حمل الماضي...

تراني أبصر هالة مشعّة آتية من السّماء، بصيص أمل ... وبدا الجسد يتجرّد من مكبّلاته ويكشف نفسه للنّور للشّمس يلاقيها يعانقها كعناق مشتاق  لحبيبته ...إنّي أرى الجسد فنّا.

أرى جسدا خرج من المقنّن والمدجّن والمؤطّر، أرى جسدا تحرّر من إكراهات الفضاء المغلق متّجها نحو الرّحابة نحو الطّبيعة أين يحتكّ وجها لوجه مع الآخر فيلتحما جسديّا وفنيّا أين يتعالق الجسدي بالفنّي والفكري.  إنّ وعينا بقيمة أجسادنا في مجتمعاتنا العربيّة يسهّل رؤيتنا للقضايا التي تُعالج فنيّا خاصّة فيما يتعلّق بالأنماط الفنيّة المعاصرة من عروض أدائيّة "Performance" و "هابنينغ" Happening" "فيبدو الجسد دائما وأبدا من أجل أن يكون أكثر من كومة من المادة، إذ يمكن له أن يكون أكثر كثيرا وأقل قليلا من مجموعة أجزائه…الوجه والعينين بوصفها مرايا الروح هي أعضاء التعبير بامتياز. لكن روحانية الجسد لا تقطن قدرته على التعبير عن الداخل، الجسد لا يعبر عن الحدث إنّه هو نفسه هذا الحدث " .

إنّ مؤدّي البرفورمونس يمكن اعتباره راو لسيرة ذاتيّة يركّز فيها على حيويّة الفرجة وأثرها ووقعها على المتفرّج، إذ يمكننا التّحدّث هنا عن المعنى المخفي إن صحّ التعبير وهو الذي يكون في علاقة وطيدة بما هو ثقافي أو معرفي يمرّ عبر تمظهراته في المكان والجسد تعطي شحنات للممارس والمتقبّل في الآن ذاته ليمارس لعبة الكشف عن كلّ ممكنات العرض ورمزيته فيكون الفنّان بمثابة السّاحر أمّا المشاهد فيمارس فكّ الغموض وإزالة كلّ ما من شأنه أن يحجب الرّؤية ومحاولاته في استكشاف المزيد من المخفي والسّرّي وفكّ رموز اللّغة، لغة الجسد واللّغة غابة من "الاستعارات القريبة جدّا من أعماق وجودنا – الرّمزيّة- استعارات تدين بأسبقيتها في الكشف عمّا هي عليه الأشياء، إلى انتظامها في شبكة ومستويات متدرّجة"  ، لا يعني ذلك أنّنا نتحدّث عن زيف في العلاقة بل بالعكس فذلك من شروط تحقيق رؤى مفتوحة للعالم الذي يحيط بالفنّان وبنا وتكشف عن آفاق واسعة، فماهو ثقافي فنّي وأدبي يثير، يشغل وعي الناقد والمتقبّل ويبدأ ذلك مع سرد للتفاصيل والأسرار وسريّة الجسد واليوميّات والعلامات وكلّ ما يخصّ الإنسان واليومي فتصل إلى ماهو أبعد فتتخطّى العمومي نحو الخصوصي والخروج من الحشد  نحو الانطوائي .

يعدّ تعميم الحقّ في الفعل من أهمّ مقوّمات المعاصرة ومبادئها التي نادت بها فالسّماح لذلك وإعطاء التّأشيرة للآخر من شأنه أن يعزّز بالضّرورة لانتمائه المشروط ضمن مشروع "الأنا" ومساهمة منه في إكمال وتعزيز الدّائرة التّفاعليّة وفق منظومة التلقّي حيث يتّحد كلاهما في إدماج الفنّ وقيم الفنّ في اليومي والمعيش ضمن نسق حياتيّ، "أليس الجسد هو أساس الإحساس بالهويّة ألا نثبت ذواتنا في هذه الحرارة الفريدة التي تنبثق من جسدنا قبل تفتح الأنا الذي يستدعي التميز عن الجسد؟" ، هذا الجسد الذي يكون محور العرض به يتأسّس وعليه، هو الوسيط الفنّي في التجربة الأدائيّة بأكملها. اندرج الجسد الأنثوي وتجذّر في الفنّي فانزاحت الأنوثة من الطّريق وتجرّدت لتصبح علاقة المرأة بجسدها خالصة  وما حاجتنا للأنوثة إذا ما كانت جسدا يمكن معرفة قدراته جهرا بل في الحقيقة هي انطواء على الذات محدّدة  للمصير، وما نظرة الرّجل لجسد المرأة إلاّ اكتمال لرجولته إنّها المأوى إذ يقول ليفناس بما معناه أنّ الذات الرجولية لا تقدر على انجاز هويتها إلا باكتشاف غيريتها في الأنثى وكلّ ذلك يكون في الكواليس تحت سطوة المعتّم والخفاء وراء الجدران... إلى أن تاق هذا الجسد وتحرّر نحو الخلاء تعايش جسدها وتتعايش معه وبه وتمدّد أوصاله في علاقات أبديّة سرمديّة فنيّة أين العمق بعيدا عن الخواء والهباء والمفرغ.

المصالحة مع الجسد الأنثوي لذاته بدأت مع منحى استطيقا الصّدمة وكذلك مراجعة مفهوم "الجسد المقدّس" والمرور نحو الجراحات التجميليّة والتحوير وهي خطوة جريئة في تحوير الجسد وتغيير هيئته الذي يعتبر في حدّ ذاته جرأة وقد عالج بارت هذه النّقطة مقرّا "بأنّنا نشهد اليوم نوعا من إحياء لمسألة المقدّس في الجسد عبر مظاهره العلمانيّة جدّا، والمعاصرة جدّا لحياتنا: كلّ ما يمسّ ثقافة الجسد العقلانيّة، كالرياضيات، وتجارب اليوغا أو تربية الجسد من الدّاخل من خلال طرق متعدّدة، وكلّ ما نلقّنه في الرياضة البدنيّة على أنّه تفكيرنا العميق بالجسد دون الممارسة المحضة. وأنا أرى هنا ترجمة علمانيّة لفكرة دينيّة، تقضي بوضع الجسد البشري في حالة من التوازن والانسجام، ليس في حواسه الطّافية على السطح، بل في فيزيولوجيته العميقة، وفي حساسيته العضويّة ( أي مجموع الحواس الداخليّة) المتضامنة مع الطّبيعة، أيّا كانت الطّريقة التي نصيغها بها".

 إنّ التّغيّرات التي طرأت على المجال الفنّي سواء في الخروج عن دور العرض والتوجّه نحو الفضاءات المفتوحة والمواضيع الشّائكة والصّادمة المعروضة كلّها نفذت من مفاهيم وأفكار واستعانت باختصاصات وأطروحات نظريّة وجماليّة فأصبح المجال الفنّي يندرج بالضّرورة ضمن مجال معرفي لعلّ من أهمّه علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، علم الجمال وكذلك السّوسيولوجيا. إنّ الأنثروبولوجيا كعلم ثقافة المجتمع يدرسه من كلّ زواياه أخلاقه، عاداته، سلوكه، رموزه، علاماته كلّ شيء بالاعتماد على مخلّفاته الماديّة والحضاريّة ويكون الجسد هنا "جسد الإنسان" موطنا فكريّا باعتباره كيانا متعدّد الدّلالات والوظائف يخترق جملة من العلوم، من الفلسفة، العلوم الإنسانيّة دون أن ننسى علاقته بالأنثروبولوجيا وإذا كان الجسد فهو بهذا المعنى يعتبر مفهوما ثقافيّا (بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة) قابلا للتفكير الفلسفي النظري وللتّحليل الثقافي في الآن نفسه وهو ما يؤكّد خصوبة البحث فيه.

 

ياسمين الحضري

باحثة دكتوراه اختصاص علوم وتقنيات الفنون/ نظريات الفنون

 

 

في المثقف اليوم