قضايا

المواطنة وحب الوطن

محمد العباسيعندما كنت أعمل في "بوليتكنك البحرين" قبل سنوات، طُلب مني خلال سنتي الثانية هناك أن أعمل على إعداد برنامج عن "المواطنة" ليكون ضمن المنهج العام للطلبة.. فأفرغت نفسي لعدة شهور ووضعت للبرنامج أربع ملزمات باللغة الإنجليزية في حوالي 700 صفحة.. جمعت فيها من آلاف المصادر والمواقع مواضيع رأيت فيها مواد خصبة لخلق الإحساس لدى الطلبة بأهمية الحفاظ على مكتسبات الوطن.. وتقدير الخيرات والحفاظ على البيئة والمقاربة بين الاختلافات الدينية والمذهبية.. وجعل الكل يهتم بنبذ الخلافات ونشر المحبة والسلام.. وتقييم العطاءات الثقافية وتعريف الطلبة بالعديد من المبدعين والكتّاب والشعراء في البحرين.

فمن منظوري الخاص ومن خلال تجاربي في سلك التعليم لأكثر من 30 سنة حينها، عمدت لأن يكون مفهوم المواطنة وحب الوطن عملية تطبيقية عملية.. وليس مجرد سرد وحفظ للتاريخ، أو مجرد مادة جامدة حالها حال الكثير من مناهجنا التعليمية التي لا يشعر فيها المتلقي بأية علاقة بالمواضيع المطروحة وإمكانية تطبيقها على أرض الواقع!.. بل شملت في البرنامج الكثير من الأنشطة والزيارات الميدانية والواجبات التي تستدعي البحث والتنقيب والإبداع والمتعة.

فالمواطنة الصحيحة لا تنمو عبر الفرض والواجب وسن القوانين.. فحب الوطن لا يتطور "بالغصب"، بل عبر جملة من الممارسات والاقتناع بمخرجاتها المنطقية التي تصب في صالح الوطن والمواطن.. بل تنمو عبر جملة من الممارسات التي تنمي الإحساس السوي تجاه المصلحة العامة.. فالحب النابع للوطن عبارة عن تجسيد للشعور بالفخر والانتماء ورد الجميل للأرض التي تحتضننا وتعمل على حمايتنا بين أحضانها.. ويشرح هذا الأمر "الدكتور خضر عباس" في مدونته: ".. من مقتضيات الانتماء أن يفتخر الفرد بالوطن، يدافع عنه ويحرص على سلامته.. والانتماء مفهوم يشير إلى الانتساب لكيان ما، يكون الفرد متوحداً معه مندمجاً فيه، باعتباره عضواً مقبولاً به، وله شرف الانتساب إليه، ويشعر بالأمان فيه، وقد يكون هذا الكيان جماعة، طبقة، شعب، أمة، وهذا يعني تداخل الولاء مع الانتماء، والذي يعبّر الفرد من خلاله عن مشاعره تجاه الكيان الذي ينتمي إليه.. وينمو هذا الانتماء بنمو ونضوج الفرد إلى أن يصبح انتماءً للمجتمع الكبير الذي عليه أن يشبع حاجات أفراده.. والانتماء يسعى إلى توطيد الهوية، والهوية في المقابل دليل على وجوده، ومن ثم تبرز سلوكيات الأفراد كمؤشرات للتعبير عن الهوية، وبالتالي الانتماء".

و لا يخفى علينا أن أي وطن لن يستطيع قيادة ركب التقدم ومواكبة الحضارة المتطورة في معزل عن ترسيخ وتفعيل مبدأ المواطنة بشكل إيجابي وفعّال.. فالمواطنة السوية تمثل تفعيلاً وتجسيداً للتفاعل بين الدولة والمواطن.. مما يخلق أحد أهم دعائم الاستقرار والراحة النفسية وتحقيق الأمن الاجتماعي. قد يختلف البعض في تعريف المواطنة السليمة، وقد تتعدد الاجتهادات والنظريات في تفسير هذا المفهوم. فمثلاً، يقول الأستاذ "عبدالقادر الإدريسي": "من حق الوطن على المواطن أن يكون ولاؤه له خالصاً غير مشوب بأي شائبة، وأن يكون انتماؤه إليه روحياً وثقافياً وحضارياً وعقلياً ووجدانياً، لا انتماءً جسدياً، أو كونه مجرد انتماء بالوثائق الإدارية.. وباختصار أن يكون الوطن عند المواطن فوق كل اعتبار، يضحى من أجله، ويخلص في خدمته، ويتفانى في سبيل تقدمه ورقيه وازدهاره". لكن ماذا عن حق المواطن من وطنه؟

يبدو أن البعض يعتقد جلياً أنها عملية طردية من باب المنطق.. فكلما شعر المواطن بأن وطنه لا يراعيه حق الرعاية، تنمو عنده مشاعر عدم الرضى وتصاب مشاعره تجاهه بالوهن وتضعف عنده قيم المواطنة، بل وقد تنمو عنده بعض ردود الأفعال السلبية. فالمواطنة عند البعض أشبه بفكرة العقد الاجتماعي، أي العلاقة بين المواطن والدولة وفق قوانين ودستور تلك الدولة، والذي يشترك الأفراد في صياغته وقبوله بكل ما يتضمنه هذا الدستور من حقوق وواجبات. فمن مثل هذا المنطلق نجد أن تعريف المواطنة يتطلب بالضرورة تمتع المواطن بكافة حقوقه التي كفلها الدستور المتفق عليه على النحو الذي يرسخ ويعمّق لديه الشعور بالانتماء لموطنه ويُشعره بآدميته وأهميته واحترام كينونته وتلبية احتياجاته من كافة المناحي المعنوية والمادية والحياتية. وفي المقابل يكون متوقعاً التزام المواطن بأداء واجباته ودوره تجاه وطنه على النحو الذي يتجلى فيه مدى حرصه على تحقيق المصلحة العامة لوطنه، وإسهامه في تقدم وحضارة الدولة.

وقد يركز البعض من المتحمسين لموضوع المواطنة في تفسير الوضع بأن على كل دولة تسعى صادقة في سعيها نحو مستقبل أفضل أن تحرص على أن ينعم المواطن فيها بمزيد من الرفاهية والحريات السياسية والفكرية والدينية والمساواة والعدالة الاجتماعية. فمن خضم هذا المنظور المبسط أعتقد أن موضوع الشعور بالأمن والأمان هو لب ما يؤثر على مدى شعورنا بالولاء تجاه أوطاننا.. فبلا عنصر "الأمان" والشعور بأن الوطن يمثل لنا الحصن الذي يأوينا ويحمينا لن نشعر أبداً بضرورة الولاء وتقبل فكرة ممارسة المواطنة والتضحية والعطاء الصادق لهذا الوطن.. فالطبيعة البشرية تفرض علينا العطاء مقابل العطاء.. كلما أحسسنا بالراحة والحب والاهتمام نزداد كرماً في نسبة إحساسنا بالمواطنة وشعورنا بالانتماء ورغبتنا في التضحية من أجل الوطن.. وفي المقابل بطبيعة الحال، كلما وجدنا أنفسنا في وطن يتجاهلنا كمواطنين من الدرجة الأولى أو تتحكم بنا إدارات لا تتقن القيادة السليمة ولا تهبنا حقوقنا أو تحرمنا منها، نفقد معها الثقة ونبدأ في نبذها وتتزعزع مشاعرنا وقد تنعكس معها نسب تقبل فكرة المواطنة الإيجابية.. بل قد تتحول ولاءات البعض لجهات أخرى أملاً في كسب الشعور بالأمان المفقود.

ألسنا إذن نطلب من المواطن الولاء التام وحب الوطن في حين نحرمه من بعض حقوقه، بل نزيد من عنائه والضغط عليه بحرمانه من بعض تلك الخدمات البسيطة التي كان يهنأ بها.. فمثلاً، أليس رفع الدعم عن اللحوم والمحروقات والكهرباء وفرض الضرائب والترهيب عبر تغليظ العقوبات المالية ضد المخالفين ورفع الرسوم بشكل عام أضعافاً مضاعفة وما قد يضاف على تلك القائمة إجحاف في حق المواطن المسكين؟ أجل، هنالك جوانب عدة تُحسب للوطن مثل راعيتها للأرامل والأيتام والمتقاعدين الكرام وتخفيض الرسوم الجامعية، وغيرها من تلك اللمسات الحانية من لدن حكوماتنا الكريمة رغم محدودية مصادرنا وثرواتنا الطبيعية كما الحال في كثير من دولنا.. وكذلك معضلة توفير الأمن والأمان رغم الصعوبات التي تواجهنا بسبب أعمال التخريب والإرهاب وتكاليفها الكبيرة.. لكن هل سألنا أنفسنا عن بعض الأسباب التي قد تؤدي إلى زعزعة ولاءات البعض تجاه الحفاظ على خيرات الوطن؟ هل المواطن البحريني مثلاً "سعيد" كما في الإمارات؟ هل هو "فخور" كما في قطر؟ هل حالته المادية كريمة كما في الكويت.. هل يتمتع بكافة حقوقه الإنسانية كما في أغلب العالم المتقدم في الغرب؟ أترك هذه الأسئلة لكم للبت فيها !!

رغم كل ما سبق، أود أن أنهي مقالتي بما لخصه الدكتور "خليفة الغفلي": "كل إنسان ينتسب إلى بلد قدر الله له أن ينشأ فيها وينتمي إلى قومها ويعيش معهم، فهي ملكهم وحماهم وموطن أمنهم واستقرارهم وحقهم في الحياة، يتحملون جميعاً أمام الله تعالى مسؤولية أمانة عهد الاستخلاف فيها، وعليهم جميعاً واجب الحفاظ والذود عن سيادتها وأمنها واستقرارها ووحدة أراضيها، ومن يخالف ذلك وينتهكه فإنما هو مخالف ومنتهك لعهد وميثاق المواطنة، ومخالف لأمانة الحفاظ على مصالح وسيادة الوطن والمستخلفين معه في الوطن الواحد". وأحب أن أضيف هنا أنه على الرغم من أن الدساتير والقوانين ربما كفلوا للمواطن ما يتحقق به مبدأ المواطنة، غير أن المواطنة بمفهومها الإنساني لا يتحقق فقط بسن القوانين وفرضها، بل لا بد لها أن ترتكز على عوامل وممارسات اجتماعية تنبع من شعور كافة المواطنين بالمساواة وقدرتهم على المشاركة في الحياة العامة، جنباً إلى جنب مع سلطات الدولة المختلفة.. حيث أن المواطنة الصحيحة هي الطريق نحو تحقيق الوحدة الوطنية وغرس الشعور بالانتماء للوطن والمجتمع الواحد بكل ما يحمله من هوية تعكس ثقافته وأصالته وحضارته وتاريخه وهمومه المشتركة.

اللهم احفظ مملكتنا العزيزة وخليجنا العربي وعالمنا العربي والإسلامي من كل شر.. اللهم اجعل دور كل منا أن لا ينتظر مقابلاً لعطاءه والإخلاص لوطنه، لأن الوطن له أفضال لا تعد ولا تحصى، فمهما قدمنا لأوطاننا فسنكون مقصرين حتى آخر رمق لنا في الحياة.. اللهم اجعل أوطاننا ملاذ خير لنا ودار أمن وأمان وسعادة.

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم