قضايا

ما بعد الحداثة والاقتصاد الكلاسيكي الجديد

صالح الرزوقستافروس د. مافرودياس*

ترجمة: صالح الرزوق

تتزامن اتجاهات ما بعد الحداثة في الاقتصاد بشكل عام مع الاتجاه الجديد لاقتصاد الكلاسيكية الجديدة . وقد أطلق فاين (2000) على هذا الاتجاه اسم "الامبريالية الاقتصادية". وبين بما لا يدع مجالا للشك أنه خلال العقود الحالية، تجاوز اقتصاد الكلاسيكية الجديدة حدود حقله التقليدي وغزا مناطق ممنوعة عليه سابقا.  وهذا صحيح في نظرية الاقتصاد (فالكلاسيكية الجديدة في الاقتصاد تشق طرقا جريئة في مجالات تطوير النشاط الاقتصادي) وضمن العلوم الاجتماعية بشكل عام أيضا (مثل التقنيات الكمية في الفردية الممنهجة والاقتصاد الأرثوذوكسي الذي انتشر على نحو واسع). وميزة هذه الحركة أن اقتصاد الكلاسيكية الجديدة توقف عن تجاهل البعد الاجتماعي وحاول معالجته من داخل سياقه. وإن سبب زيادة نجاح امبريالية الاقتصاد الأرثوذوكسي أنه تعامل مع الاجتماعي وكأنه استجابة من خارج السوق بسبب عدم كفاءة السوق نفسه . وقد اعتبرت الجوانب الاجتماعية سابقا غريبة على التحليل غير الكلاسيكي (مثل المؤسسات والعادات، و الظاهرة الثقافية) وهي تحلل حاليا باستعمال علبة أدوات الاقتصاد الصغير الكلاسيكي الجديد. وبالبداية من نظرية الرأسمال البشري، والمترافقة مع مؤسسات الكلاسيكية الجديدة، واقتصاد المعلومات وهكذا، ربحت هذه الإمبريالية اللحظة. الإمبريالية الكلاسيكية الجديدة لها علاقات مباشرة وغير مباشرة مع ما بعد الحداثة . ويذكر فاين (2000) أن الحداثة (مع تأكيد سابق للأوان على الذاتية وإهمال الموضوعية) خلقت - كردة فعل- اهتماما نشيطا بالظروف المادية (و فيها يحتل الاقتصاد مكانا حساسا)، ولكن الكلاسيكية الجديدة حرضت هذ الاهتمام.

وبرأيي الصورة أكثر تعقيدا مما يبدو. لقد مهدت الأزمة البنيوية للرأسمالية في السبعينات ولفترة طويلة لعملية إعادة البناء. وبعد ثلاثة عقود تقريبا من هذه العملية، وبالرغم من المكاسب الهامة التي حققها الرأسمال وبالضد من قوة العمل لم يحقق النظام لحظته المستقرة، ناهيك عن تحقيق "عصر ذهبي" جديد. ومعظم هذا العجز كان بسبب عدم كفاءة النظرية الأرثوذوكسية في معالجة المشكلات الاقتصادية التي تعاملت معها كأنها مشكلات اجتماعية. وعليه، إن إمبريالية الاقتصاد الجديد كانت إشارة على القوة والضعف معا.

وإن انتقال النظرية الأرثوذوكسية إلى أرض مجهولة تخاطر بتماسكها وتفتح أبواب المخاطر على وسعها. فمشاكل الاقتصاد الأرثوذوكسي تنجم عن التعارض بين الاعتراف بالبعد الاجتماعي للاقتصاد - وحتى بالنسبة لنمط الاقتصاديات الصغير - وبين هدم فدرتها على توفير أي سياسة اقتصادية كبيرة توسع من المشكلات الاجتماعية.

كان ما بعد الحداثيين في الاقتصاد يدورون حول مشكلة عانى منها الجانب الاجتماعي. والأسلوب الذي عالجنا به هذا الجانب، في كل الأحوال، منعه من أن يكون منافسا خطيرا للتفسير الكلاسيكي الجديد، ورشحه لاحتلال موقع خجول. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن اقتصاديات ما بعد الحداثة - باستثناء النظريات متوسطة المدى والطارئة (الجديدة بالنسبة لغيرها)، هي ضيف متأخر (إذا قارنتها مع سواها في حقول ثقافية ونخبوية مختلفة)، وعليه جاءت زمانيا بعد مذابح الكلاسيكيين الجدد. ولكن بالمقابل إن اقتصاد الماركسية السياسي ينظر للعلاقات الاقتصادية في المجتمع وكأنها كل لا يتجزأ، ومع ذلك هي مجزأة فتيشيا في المجتمع البورجوازي وتنقسم إلى فضاء الاقتصاد وفضاء السياسة. وضمن هذا الكل الواحد، تخلق العلاقات الاقتصاد اجتماعية (أي لحظة الانتاج ولحظات دوراتها المتتالية / التبادل والتوزيع) الثروات الاجتماعية، وتؤمن انتاج المجتمع ماديا. وعليه، يكون لها أولوية محتمة على فضاءات النشاط الاجتماعي غير المنتج. وتلك الفضاءات غير الانتاجية تخلق أثرا راجعا على العلاقات الاجتماع اقتصادية. ومن هذه النقطة يمكن أن تنظر لموضوعة العلاقات الاجتماع اقتصادية في الانتاج والتبادل والتوزيع على أنها تشكل الأساس الذي ننشئ عليه معايير اختيارنا لما يجب الاهتمام به من علاقات اجتماع اقتصادية (إيديولوجية، سياسية، إلخ).

وعليه تهتم الماركسية بالعلاقات الاقتصادية المباشرة، ولكن أيضا مع عناية خاصة وبنيوية بالمسائل الاجتماعية والسياسية. ويتبنى الاقتصاد السياسي الكلاسيكي وجهة نظر مماثلة إنما بأشكال مخففة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه يدرس كذلك العلاقات الاقتصادية ويعاملها معاملته للعلاقات الاجتماعية.

وبالمقابل، إن الاتجاه الكلاسيكي الجديد يفصل عمدا العلاقات "الاقتصادية" عن العلاقات الاجتماعية والسياسية. وينظر للنشاطات التي تنجم عن التبادل (بمعنى علاقات السوق) وكأنها أساسا علاقات "اقتصادية". وعليه، هيتم موضعة هذه العلاقات الاقتصادية وكأنها أساس للعلاقات السياسية والاجتماعية، مع أنها موضوع للدراسة في علوم مستقلة ومتفرعة عن العلوم الاجتماعية.

تضع ما بعد الحداثة هذين الاتجاهين المتعاكسين في نفس المربع وتتهم كليهما بالاقتصادوية. وفوق ذلك، تطبق مفهوما خطابيا قوامه البعد الاجتماعي ولكنه لا يستوعب ظروف الحياة المادية، أو أن استيعابه لها محدود. وكما نوهنا سابقا، هذا تفسير سطحي للبعد الاجتماعي الذي يتبناه ما بعد الحداثيين ولا يمكنه تحدي الاتجاه الكلاسيكي الجديد على نحو متزن وجازم. والحقيقة إن اقتصاد بعد الحداثة لديه عدة ترابطات مغطاة مع ما يقابلها من الكلاسيكية الجديدة.

أولا، ما يدعو للدهشة، أن كليهما ينظر للنظرية وكأنها "ليست تطبيقا للواقع بواسطة التفكير الإنساني"، ولكنها مجرد مشابهة غير واقعية للواقع. فالكلاسيكية الجديدة تركز على الاقتصاد الإيجابي أو الفعال وتلغي الاقتصاد الظاهراتي وتضعه في زاوية مجهولة من التحليل الاقتصادي. ولكن اقتصادياتها الفعالة يمكن دراستها عبر المنهج المسمى تجاوزا "كما لو أن". إن النظرية عبارة عن أداة لفهم الواقع والتنبؤ به. ولكن أدواتها تكون مثالية.

ولذلك مع أن الافتراضات يمكن أن تنتهي لأخطاء مقصودة، إن التوضيح اللاحق سيكون واقعيا (فريدمان 1953)، وما بعد الحداثة تنظر لكل النظريات أنها طبيعية (دون أي إجهادات خطيرة تطبق على الظروف الموضوعية)، وهي تحولها إلى سرد خطابي ذاتي يتمحور حول الاقتصاد. إن الاقتصاد الكلاسيكي الجديد يفصل عمدا الموضوعية عن الذاتية ويستبعد الذاتية، بينما ما بعد الحداثة تدمج صناعيا الموضوعي مع الذاتي (و في نسخها المتطرفة ترفض حتى وجود الطرف الأول) وتعزو الأولوية للذاتي. وكلاهما ينتهيان بنظرية غير واقعية.

ثانيا، الفردية هي ناقل بواسطته يرتب الطرفان نظريتهما. والاقتصاد الكلاسيكي الجديد يطبع دون تستر الفردية المنهجية. وعدد من منظري فلسفات ما بعد الحداثة يميلون جهارا للفردية المنهجية، كما ألمحنا. ومعظم اقتصاديي ما بعد الحداثة يستعملون نظرية في وسط الطريق: الفردية المؤسساتية (أغاسي، 1975؛ بولاند 1982). وميول المؤسساتيبن بالتأكيد في الغالب الأعم تسهل تبني أفكارهم. فهذه النسخة من الفردانية تفترق عن الفردانية المنهجية النموذجية، والتي تدعي أن كل الظواهر الاجتماعية هي حصيلة أفعال الوسيط الفرد الناشط في المجتمع. وهي تقر أن المؤسسات والمجتمع يأثرون أيضا بأفعال الأفراد. من جهة، إن الأفراد هم الوحدة الأساسية التحليلية. ومن جهة أخرى، تمتلك المؤسسات شيئا هو أكبر من حصيلة بسيطة للأفعال التي يؤديها أعضاؤها من الأفراد المستقلين. ومع ذلك، ليس هناك هرمية بنيوية تميز هذه العلاقات. وأساسا لا يمكن تحديد إذا كان الأفراد أو المؤسسات من يأتي في المقام الأول. وفي كل حالة هناك آلية خاصة من التداخلات تمنحها فرصة للنشوء والتطور. وبتعبير آخر، إن البنية والشركة الوسيطة تتبادلان التأثير دون أن يكون لأحد الطرفين أولوية على الآخر. على الأقل في مجال الأساسيات.

وينظر توبوزو (2001) للمسألة على أنها تقبل تفسيرا في منتصف الطريق فعلا، ويمكنه توحيد المؤسسات الكلاسيكية الجديدة والتقليدية، ويلخص كل شيء في:

1- الأفراد هم الوسطاء الأساسيون.

2- المؤسسات موجودة وتؤثر بالأفراد.

3- التبدل يحصل عبر الأفراد.

والتبادل دون مبرر قوي بين البنية والفرد هو بالتأكيد شيء سار بالنسبة لما بعد الحداثيين. ومفهوم المؤسسة، والعادة، والعلاقات التراكمية، على الأقل، غامض وإشكالي. فهو لا يحدد بوضوح كل هذه الظواهر لأنه لا يفترض اتجاها للأسباب. ولكن في الحالة الأخيرة، كل شيء يتعلق بالفرد. وعليه، هذه نسخة من الفردانية، والنقد الكلاسيكي لهذه المقاربة هو صحيح وساري المفعول أيضا. وبوجيز العبارة، يمكن القول إن اقتصاد ما بعد الحداثة- عوضا عن المواجهة المباشرة مع الأرثوذوكسية الكلاسيكية الجديدة - يتفق معها في بعض النقاط الحساسة. وبهذا المعنى، يمكن أن يكون ناتجا جانبيا لإمبريالية الاقتصاد الكلاسيكي الجديد.

 

* قسم الدراسات الاقتصادية في جامعة مقدونيا، سالونيكا، اليونان.

 

في المثقف اليوم