قضايا

الدولة العراقية ودراما الانتقال من الملكية إلى الجمهورية (2-2)

ميثم الجنابي"جمهورية المستقبل" -  الاحتمالات والبدائل

أدى سقوط التوتاليتارية البعثية في العراق في نيسان من هذا العام (2003) إلى انتهاء فترة طويلة من زمن الجمهوريات الدموية الخارجة على القانون. وللمرة الأولى بعد أربعة عقود من الزمن ظهرت إمكانيات متنوعة للاحتمالات في التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي. فقد شكل سقوطها في عام 2003 مرور أربعين عاما بالضبط بعد استيلاء حزب البعث على السلطة في الانقلاب الغادر عام 1963. ويرتقي هذا الزمن من حيث رمزيته وفاعليته في تكون الأفراد والشخصيات إلى مستوى النضج الكامل و"سن الحكمة" و"النبوة". من هنا فإن التحول العاصف الذي يلف العراق الآن لا يقوم في انتهاء مرحلة "الجمهورية الثالثة" فحسب، بل وفي تنوع الاحتمالات العديدة لتطوره اللاحق. الأمر الذي يجعل من فكرة الاحتمال عنصرا جوهريا في تحديد ماهية "الجمهورية الرابعة" وآفاق الدولة العراقية وطابعها الوطني وحدودها الجغرافية السياسية.

إن إحدى الإشكالات الكبرى التي تعاني منها الدولة في العراق تقوم في اضمحلال فكرة السيادة، بمعنى تحلل فكرة الدولة ومرجعيتها في الوعي السياسي للأحزاب. وهو السر القائم وراء تحول الدولة إلى جزء من السلطة، والسلطة إلى أداة بيد الحزب، والحزب إلى أداة بيد "القادة" و"الزعماء". ومن ثم تحول فكرة الدولة إلى جزء من الأهواء الحزبية. فقد أدت هذه النتيجة في مجرى "الجمهوريات الثلاث" (1958، 1963، 1968) إلى تآكل فكرة الدولة بصورة شبه تامة. بمعنى فقدان ابسط مقومات الشرعية فيها. بينما لا وجود لحقيقة الدولة دون فكرة الشرعية. وفي العالم المعاصر تتطابق فكرة الدولة بالمعنى الدقيق للكلمة مع فكرة الدولة الشرعية. ويتمثل هذا التطابق في الواقع حقيقة العلاقة التاريخية المتراكمة بين الدولة والشرعية. وضمن هذا السياق، يمكن اعتبار سقوط الدكتاتورية الصدامية في نيسان عام 2003 قطعا أوليا مع زمن التآكل والتحلل في فكرة الدولة. ومن ثم، أدى وللمرة الأولى بعد أكثر من أربعة عقود إلى ظهور إمكانيات جديدة واحتمالات عديدة لتجريب فكرة الدولة الشرعية، أي لتحقيق فكرة الدولة وسيادتها الذاتية.

إن "الجمهورية الرابعة"، باعتبارها نموذجا ممكنا للبديل الشرعي، هي إمكانية وليست واقعا، واحتمال لم يرتق بعد، بما في ذلك في مشاريع الأحزاب والنخب إلى مستوى النموذج الضروري. ذلك يعني أننا نقف أمام هلامية السيادة الذاتية للدولة في الفكر والواقع على السواء. وهي نتيجة مختبئة في سيادة نفسية المؤقت وذهنية السلطة. بينما حقيقة الدولة (الشرعية) هي عقل اجتماعي ومؤسساتي متراكم، وثبات في ديناميكية الإصلاح والتطور. ذلك يعني أن فكرة سيادة الدولة، باعتبارها مشروعا واقعيا وقابلا للتحقيق مرتبط بضرورة النفي العقلاني لتاريخ الجمهوريات العسكرية. وهو نفي متعدد المستويات، لكن مضمونه الفعلي ينبغي أن يتمحور حول السيادة الذاتية لفكرة الدولة بشكل عام والشرعية بشكل خاص، أي صهر السبيكة الخربة المتكونة من نفسية وذهنية الفكرة الراديكالية والمؤقت. وبالتالي التحرر من رق التراث التوتاليتاري أيا كان، والعمل من اجل إبداع بلا ضفاف في مختلف الميادين لا يقيده شيئا غير إدراكه الذاتي لأهمية سيادة الدولة الشرعية وإنهاء فكرة المؤقت.

إن انعدام الثبات الحقيقي في الدولة العراقية وتاريخها المعاصر يقوم في عدم استنادها إلى أرضية الحق الدائم والدستور الدائم، أي فكرة الشرعية، ومن ثم فكرة الدولة. لاسيما وأنه الأساس الوحيد القادر على أن يضفي على تغير السلطة وتبدل أشخاصها قوة إضافية بالنسبة لترسيخ تقاليد الحق والشرعية وتراكم قوتها الذاتية في كافة الميادين. وفي حال النظر إلى واقع العراق بعد سقوط الدكتاتورية، فإننا نقف أمام نفس الضعف الفعلي المميز لنفسية وذهنية "الانتقال". إذ لم يكن بإمكان مختلف أشكال "الحكم المؤقت" التخلص من هذه الحالة بعد سقوط الدكتاتورية، وذلك بسبب انعدام مؤسسات الدولة وتقاليدها الاجتماعية ومؤسساتها الشرعية من جهة، ولكون مختلف نماذج "الحكم المؤقت" هي نتاج مساومات سياسية واجتماعية وقومية ضعيفة. ويفسر هذا الواقع وظيفته "الانتقالية" فقط، ومن ثم قيمته السياسية، بوصفه "مؤسسة" النقص التاريخي لفكرة الدولة الشرعية. إلا انه كان وما يزال يحتوي على قدر صغير من العقلانية يقوم في تمثله للمرة الأولى فكرة المساومة السياسية، رغم أنها جرت في ظروف حرجة وبضغط قوى خارجية، أي لم يكن نتاجا تلقائيا للإدراك السياسي من جانب قواه المكونة. لكنه استطاع للمرة الأولى في تاريخ العراق السياسي من جمع اغلب القوى السياسية تحت مظلة تقر بوجودها المؤقت في السلطة، وإن ما تعمل ضمنه هو مجرد كيان عابر وكينونة انتقالية إلى أن يجري نقله إلى الوضع الدستوري الدائم. ذلك يعني إقرارها السياسي بضرورة الحصول على صيغة شرعية لحق "الثبات" في الحكم، وان هذا الثبات مقرون وملازم لثبات الدستور والقانون.

إننا نعثر في هذه الحالة على قيمة تاريخية مهمة بالنسبة لتطور الوعي السياسي والحركات والأحزاب السياسية. غير أن حقيقة هذا الإدراك وقيمته ترتبطان بمدى استعداد هذه القوى السياسية على تجسيد ماهية ومدى ووظيفة "الانتقال" المرهونة به. إلا أن تحليل طبيعة ومضمون السلوك الفعلي للأحزاب والقوى السياسية المؤثرة يكشف عنها أنها مازالت في اغلبها تمثل الاستمرار الفج لنفسية المؤقت. ولعل سيادة نفسية وذهنية الطائفية والجهوية والعرقية هو احد مظاهره القوية والبارزة. ولا تنتج هذه المظاهر غير نفسية المؤقت، أي كل ما هو عرضة للزوال والاندثار، كما كشفت عنه تجربة العراق الأخيرة، التي جعلت من تحرره من "قانون" المؤقت مقرونا بالاحتلال والغزو الأجنبي.

فالتجربة التاريخية لفقدان "السيادة" واسترجاعها في العراق بهذا الصدد تبرهن على أنها مجرد نتاج طبيعي للعملية التي رافقت مد "الطوفان" وانحساره، أي النتيجة الملازمة لابتعاده عن فكرة الدولة وسيادتها الذاتية بوصفها مؤسسة شرعية. إذ لم يكن "استرداد السيادة" الأولية من الاحتلال (الامريكي) سوى البداية الأولية لمواجهة الإشكاليات الفعلية والأكثر تعقيدا لإيجاد النسبة الواقعية والعقلانية للتحرر من العبودية أيا كان شكلها ومضمونها، بوصفه أسلوب بناء الدولة الوطنية الحديثة.

لقد خرج العراق في بداية القرن العشرين من تحت الانتداب البريطاني، وها هو يخرج في بداية القرن الحادي والعشرين من الاحتلال الأمريكي للحصول على سيادته "الكاملة". فبعد كل مائة عام يظهر له من يجدد له "دين" الاستقلال مرة و"دين" الديمقراطية مرة أخرى مع بقاء السيادة الحقيقة مبتورة أو منقوصة أو مشوهة أو مهدورة. وفي جميع الحالات يبدو هؤلاء "الغرباء" "محررين" و"مصلحين". وهي "رسالة" لها غرابتها وقيمتها التاريخية. فقد "حرر" الإنكليز العراق من شبح العثمانية الثقيل، كما "حرر" الأمريكيون العراق من همجية الدكتاتورية الصدامية. وأعطى ويعطي كل منهما "السيادة" للعراق. وما زال العراق بين السيادة الأولى والثانية يراوح في نفس المكان. إذ لا يعني الحصول على "السيادة الكاملة" الآن سوى بدايته من "الصفر" في تحسس وإدراك وتحقيق معنى كونه سيد نفسه ومستعدا للاتصاف بصفة السؤدد. ولا تزويق في هذه الحالة. فقد استعبدت الدكتاتورية الصدامية العراق، وجعلت منه عبدا ذليلا وكسرت إرادته بطريقة ليس لها مثيل في تاريخه العريق. وكشفت عن إمكانية إزالته من الوجود! وبرهنت على أن احتمال اشتقاق اسمه من العرق ليست ضمانة لعدم اقتلاعه من جذوره الفعلية. ويعطي هذا الواقع للغزو الأمريكي قيمة خاصة بالنسبة لإدراك حقيقة سيادة الدولة الشرعية بوصفها أداة السيادة الوطنية. كما انه واقع اقرب إلى المفارقة التعسة، التي تعطي لفكرة السيادة الحالية مغزاها المتميز وتجعل منها إشكالية متعددة المستويات بالنسبة للعراق وقواه السياسية والاجتماعية والفكرية. كما يجعل منها إشكالية متعددة الأوجه. والقضية لا تقوم فقط في ماهية ومستوى السيادة التي تمتع بها العراق في وجوده المعاصر، بل وبحقيقة هذه السيادة بعد قرن من الوجود "المستقل".

أما في الظروف الحالية التي تميز مرحلة ما بعد انهيار الدولة ومحاولة تأسيسها الجديد، فإن العراق يقف أمام ما يمكن دعوته بمهمة "تطهير" التاريخ السياسي للسلطة من كل أفعالها الداخلية والخارجية من خلال تعليمها والتعلم منها لغة المخاطبة الوطنية وليست لغة العنف والإرهاب. فالسيادة ليست مقولة جغرافية، بل حالة معبرة عن مستوى ولاية النفس والعمل بمعايير الشرعية والحق ومتطلبات الواجب الوطني.

فمن بديهيات الفكر المنطقي والسياسي العلمي الإقرار بالفكرة القائلة، بأن تمتع الأغلبية المعذبة والمغيبة عن السلطة بموقعها المناسب لها هو أمر معقول، وأن يتسم سلوكها بالانتقام والتشفي فهو أمر طبيعي، إلا أن المطلوب هو تجاوز هذا "الطبيعي المعقول". بمعنى الارتقاء إلى مصاف الواقع القادر على تذليل هذين المكونين اللذين كانا وما يزالا نتاجا للإخلال بمرجعية النظام والحرية وشكل تحقيقها في مبدأ الديمقراطية والحق. إذ تفترض الديمقراطية أن يكون الحق السائد للأغلبية، كما أن حق الأغلبية ينبغي أن يكون الأسلوب الطبيعي لتسيير أمور الدولة والمجتمع.

وشأن كل مفهوم، فان من الضروري النظر إليه بمعايير "المعاصرة" من اجل رؤية إمكانياته الفعلية ونواقصه المحتملة. فقد ارتبطت هذه النواقص أساسا بمستوى تطور الدولة والمجتمع والثقافة بشكل عام والسياسية منها بشكل خاص. وعندما نطبق هذه المعايير على ظروف العراق الحالية، فإنها تشير عموما إلى واقع الخلل العميق، بل الانحطاط شبه الشامل والموروث من حقبة السيادة شبه التامة لتقاليد الراديكالية السياسية، التي جسدت الصدامية نموذجها الأكثر تخريبا. لقد أدى ذلك إلى خراب الدولة والمجتمع والثقافة وانحطاط الوعي السياسي. ونعثر على هذا الواقع في صعود الطائفية السياسية والقومية العرقية. وهما التياران الأكثر فاعلية في استمرار التخريب البنيوي للدولة. وذلك لانحصار همومهم الباطنية والفعلية بقضاياهم الخاصة، أي الجزئية. بمعنى غياب فكرة سيادة الدولة.

فالهمّ الشاغل للتيارات الطائفية يقوم في محاولة الاستحواذ على الطائفة من اجل إعادة إنتاج التأثير التقليدي، ومن خلاله سرقة "الأغلبية المعذبة"، بينما لا همّ يشغل الحركة القومية الكردية غير "كركوك"، كما لو أنها سلعة ينبغي المتاجرة بها أو سرقتها على حين غفلة. والقضية هنا ليست فقط في انه لا علاقة للحركة القومية الكردية والأكراد عموما بكركوك وغيرها من مناطق العراق الأصلية من الناحية التاريخية والثقافية والجغرافية والقومية والسياسية، بل ولتحويلها إلى عصب الرؤية الذاتية لكل ما يجري في العراق. ويشير هذا الواقع إلى مستوى الاغتراب شبه الشامل عن فكرة الدولة الشرعية ومبدأ النظام الديمقراطي والحق الاجتماعي. وبغض النظر عن كل الأساليب والمستويات الممكنة للتبرير والتدليل، فان طبيعة النوايا تكمن في سيادة الرؤية النفسية وليس العقلية فيما يتعلق بفكرة الدولة. ولا ينتج هذا الأسلوب بهذا الصدد غير الاغتراب الفعلي عن "الأغلبية المعذبة" في العراق عبر زجها في معركة وهمية ومخربة للعقل والضمير السياسي والتاريخي والقومي.

إن ترابط الذهنية الطائفية والعرقية في نسيج الحركة السياسية يؤدي بالضرورة إلى اندثارهما سواء نجح العراق في الخروج من أزمته العنيفة الحالية أو فشل. ففي حال نجاحه سوف يؤدي بالضرورة إلى اندثار القوى التقليدية للطائفية والقومية العرقية. وفي حال فشله، فانه سوف يؤدي إلى سحقهما بالحديد والنار. وهي مخاطر لم يتوصل هذين التيارين بعد إلى إدراكهما كما ينبغي. وسبب ذلك يقوم أساسا في بقائهما خارج حدود المعاناة الفعلية للأغلبية المعذبة. وحصيلة التأمل الواقعي والنقدي لسلوك هذين التيارين يكشف عن ضعف إمكانياتهما الذاتية في مواجهة الإشكاليات الجوهرية الكبرى التي يعاني العراق منها. وهي عملية طبيعية وضرورية بوصفها جزء م تراكم الوعي الاجتماعي والسياسي الذي خربته تقاليد الاستبداد والتوتاليتارية.

أما الحلول الواقعية والعقلانية لإعادة تأسيس الدولة، فإنها تفترض إشراك "الأغلبية المعذبة" في إدارة شئونها. وهي عملية ممكنة من خلال بناء منظومة مرنة للمركزية واللامركزية الاجتماعية الاقتصادية السياسية، وليس الطائفية أو القومية. بمعنى بناء منظومة قانونية تحكم الدولة والمجتمع، تأخذ بنظر الاعتبار واقع التعددية الفعلية (مع أنها تعددية اقرب إلى الواحدية بالمقاييس العالمية) التي انتهت في الظرف الحالي إلى مأزق خطير. إذ من الصعب إعادة اللحمة إليها بمعايير الرؤية الأخلاقية والدينية، وذلك لأن القوى السياسية الأكثر تأثير في ظروف العراق الحالية هي قوى طائفية وعرقية. ومن ثم لا يمكن الاعتماد على "أخلاقياتها الوطنية"، لأنها لا تتمتع بالقدر الضروري منها. بينما أدى ويؤدي ضعف السلطة المركزية إلى استفحال مختلف ظواهر الانكماش والتحلل. من هنا ضرورة إعلاء وممارسة مركزية الدولة وليس مركزية السلطة.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

 

في المثقف اليوم