قضايا

احاديّة الوطن ام ثنائيتُهُ؟

يُتَهَمُ الاسلاميّون بانهم لاولاءَ لهم لأوطانِهم، انطلاقا من مقولة: (انّ وطنَ المسلمِ عقيدتُهُ) . وهذه المقولة (وطنُ المسلمِ عقيدتُهُ) لاتتنافى ولاتتقاطع مع قدسيّة الوطن التراب ؛ فقد جاء عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم انّ: (من قُتِلَ دونَ ارضِهِ فهو شهيد) . وقد جاءت الايات لتؤكدّ الترابط والتواشج بين الوطن الارض والوطن العقيدة يقول الله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّه عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة: الاية: 8، فنرى في هذه الاية علاقة ورابطة بين الدين والاخراج من الاوطان . وجاء في اية اخرى مدحا للمهاجرين الذين اخرجوا من وطنهم وضحّوا بالاموال ابتغاء مرضاة الله، وقد قدم الاخراج من الديار على التضحية بالاموال، لان فراق الوطن اقسى على النفس من التضحيّة بالمال . يقول الله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)

الحشر: الاية: 8 .وجاء في مدح الانصار: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر: الاية: 9، فهناك رابطة وعلاقة بين الدار والايمان .

ونرى هذه العلاقة بين الدعاء بالامن للوطن، ورزق اهله من الثمرات، وبين الايمان بالله واليوم الاخر للتاكيد على الوشيجة القويّة بين الوطن الارض والوطن العقيدة.

يقول الله تعالى حاكيا عن خليله ابراهيم في دعائه:اذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) البقرة: الاية: 126 وفي دعاء اخر لابراهيم ينقله القران الكريم يؤكد على الرابطة القوية بين الوطن (الارض) وعقيدة التوحيد، يقول الله تعالى:

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) ابراهيم:الاية:35 .

الوطن في اللُغَة

يقول ابن منظور في لسان العرب: (الوطن: المنزلُ تُقيم فيه، وهو موطن الانسان ومحلهُ، واوطان الغنم والبقر مرابضُها واماكنُها التي تاوي اليها، يقال: اوطن فلان ارض كذا وكذا اي اتخذها محلا ومسكنا تقيم فيه) ابن منظور، لسان العرب، مادة وطن، ج 6، ص 949 .، وقد وردت مادة وطن في القران الكريم بمعنى المكان والمقام فيه، في قوله تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)التوبة: الاية 25.

وفي الوطن الارض يقول الرسول (ص) حينما اخرجه قومه من وطنه مكّة:

(ما اطيبك من بلد واحبَكِ اليّ، ولولا انّ قومي اخرجوني منك ماسكنتُ غيرَك) .

الطغاة والمصلحون

الطغاة وعلى طول الخط يتهمون دعاة الاصلاح، بانهم مثيروا فتنة، وانهم يخونون اوطانهم . وقد اتهم فرعون موسى عليه السلام بانّ مشروعه السيطرة على البلد ونفي الشعب وفرعون خارج البلد، يقول الله تعالى: (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ) طه: الاية: 57 . وفي اية اخرى يحرّض فيها فرعون بني اسرائيل على موسى (ع) متهما اياه بانه يريد نفي بني اسرائيل من وطنهم، يقول الله تعالى:

(يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) الشعراء: الاية: 35.

المفهوم الاحادي للوطن منشا الكوارث

الحركات المتطرفة لها نظرة احادية للوطن، فهي تحصر الوطن بالوطن العقيدة، وتزدري الوطن الارض، والذي هو نزوع فطري عند الانسان، وهو عند الكائنات الحيّة الاخرى غريزة، فالحيوانات ترتبط بالمكان، وتقيم لها مكانا تأوي اليه مع صغارها وتدافع عنه . وهذه النظرة الاحادية، قسّمت الوطن الى دار حرب ودار اسلام، فسيّد قطب في كتابه (معالم في الطريق) يرى ان وطن المسلم الذي يحّن اليه ليس قطعة ارض . وجاء في كتاب المعالم ايضا: ان الوطن ليس هو ارض مصر، وانما الوطن هو الاسلام . ولكن هذه نظرة احاديّة اختزاليّة للوطن . فعبد الحميد بن باديس الذي اعتبر حب الجزائر لايتعارض مع حب العروبة كدائرة اكبر، ولايتعارض مع الانسانيّة الدائرة الاوسع . وهذه الدوائر تتكامل ولاتتقاطع.

وراي سيّد قطب تبنّاه شكري مصطفى، زعيم جماعة التكفير والهجرة، فهو لايجيز الدفاع عن ارض مصر، والانخراط في صفوف جيشها دفاعا عن الارض والوطن، يقول مصطفى شكري في التحقيقات: ص 1540 مايلي:

(اذا اقتضى الامر دخول اليهود اوغيرهم فان الحركة حينئذ ينبغي الاّ تبني على القتال في صفوف الجيش المصري، وانما الهرب الى اي مكان امن؛ اذ خطتنا هي الفرار من العدو الوافد تماما كالفرار من العدو المحلي وليس مواجهته) .

ويتحدث القاضي جواد ياسين بهذه اللهجة الحادة، في كتابه (مقدمة في فقه الجاهليّة المعاصرة)، ص 105:

(عندما تنسلخ الاوطان من رداء الاسلام، ينحسر عن المسلم واجب الدفاع عنها، والجهاد في سبيلها ... بل وقد يجد نفسه ملزما بمجاهدة وطنه، ومقاتلة اهله) .

وطنان لاوطن واحد

اذا تعاملنا مع الانسان ككيان واحد بسيط ينتمي الى هذا العالم، عالم الملك، الى الدنيا ؛ فحينئذ يكون الحديث عن وطن مُلكي، وطن دنيوي، وطن الجسد . اما اذا تعاملنا مع الانسان ككائن ثنائي له روح وجسد ؛ فعندها سيكون له وطنان، وطن ينتمي الى عالم الملك، الى عالم الدنيا، الى وطن الجسد . ووطن اخر ينتمي الى عالم الملكوت، وطن الروح، وطن الاخرة .

وطن الجسد ينتمي الى الارض مبدا ومصيرا، يقول الله تعالى:

(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) طه: الاية: 55

(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)

هود: الاية: 61 .

والوطن الاخر، وطن الروح، فيبتدا من الله وينتهي اليه، يقول الله تعالى:

(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) البقرة: الاية: 156.

الدولة الحديثة

الدولة الحديثة تحدثت عن وطن واحد، لانها دولة تنتمي الى هذا العالم، ولاتبحث عن ماوراءه ؛ بل ترى ان البحث عن ماوراء هذا العالم بحث بلا معنى ولاجدوى، وهي غير معنيّة به .

الحداثة كلها تتحدث عن وطن واحد يحتضن الانسان من الولادة الى الوفاة، وهو غير معنيّ بما بعد الموت .

وفي الختام، الذين تبنّوا احادية الوطن جلبوا الكوارث على امتنا وشعوبها، هذا ماصنعته داعش واخواتها من قتل وتنكيل وتدمير لكل الاوطان . والنظرة الثنائية للوطن هي نظرة واقعيّة تتعامل مع الكائن الانسانيّ بواقعيّة .

وانهي الحديث بالقول: انّ الاسلاميين الذين اتهموا بعدم ولائهم لاوطانهم، كانوا اشدّ الناس دفاعا عن الاوطان . ففي الجزائر كانت الثورة الجزائرية اسلاميّة في منطلقاتها وقيادتها، وفي العراق كانت ثورة العشرين التي خلصت العراق من الاحتلال البريطاني، كانت اسلامية بقيادتها وجماهيرها ونخبها . واليوم اسلاميّوا لبنان هم من حررّ الارض، واسلاميّوا العراق هم في طليعة من واجه داعش، وحرر الارض . فلو كان ولاؤهم لغير اوطانهم، فما معنى بذلهم للدماء والتضحيات بسخاء.

 

زعيم الخيرالله

 

في المثقف اليوم