قضايا

تأسيس التاريخ والمستقبل

ميثم الجنابيلقد كان المستقبل وما زال وسيبقى من بين اعقد الإشكاليات، حتى حالما يتحول إلى "فكرة قريبة التنفيذ" و"مشروع واقعي" و"مخطط واضح المعالم" و"قضية فنية فقط" و"مسألة زمن لا غير". والسبب يكمن في كونه احتمالا حيا. ومن ثم يحتوي على إمكانيات لا تحصى، خصوصا حالما يجري الحديث عن مستقبل في ظل صراع لم تحسم أولوياته، ولم تتبلور في أذهان ونفسية قواه الاجتماعية والسياسية ونخبه العامة والخاصة مرجعيات قومية عليا1 . فالمستقبل هو في الأغلب ديمومة لمعلوم ومشروع لمجهول، وبالأخص هو تحقيق لمبادئ مرجعية كبرى او مبادئ متسامية، أي لتجارب الأمم في كيفية حل إشكاليات وجودها الطبيعي والماوراطبيعي ونوعية تراكم هذه الحلول في مرجعيات خاصة. من هنا يصبح الخروج عليها انحطاطا او تخريبا او نكوصا او تحللا، وبالمقابل يصبح البقاء ضمن سياقها التاريخي والفناء بمعاييرها الثقافية أسلوب الرقي الدائم. وضمن هذا السياق يمكن القول بأن تأسيس التاريخ الفعلي يفترض تأسيس "تاريخ المستقبل". وليس مصادفة أن يكون احد الأسباب الجوهرية لانتكاسة الفكرة القومية الراديكالية هو أنها لم تستند إلى وعي ذاتي تاريخي، إي وعي قادر على تأسيس منظومة البدائل الكبرى بالضد من صنع الأهواء المتبدلة والمسطحة للأيديولوجيات السياسية المصطنعة. وقد غذّت هذه الحالة وما تزال تغذي الجذرية السياسية للأصوليات المتطرفة، بوصفها الوجه الآخر للراديكالية السياسية القومية والشيوعية. وكلاهما وجهان للغلو والانغلاق العقائدي. وليست الطائفية السياسية في الواقع سوى الثمرة المرة لانغلاق طرق وآفاق هذه الراديكاليات السياسية المصطنعة. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بأن الطائفية السياسية هي الموجة الأخيرة لهولاكو الغزو الهمجي الملازم لسيادة فكرة الزمن، أي لتيار الخراب المادي والمعنوي للقيم الإنسانية، وانعدام الرؤية التاريخية والمستقبل. وهي موجة نعثر عليها ليس فقط في تعصب الحركات المذهبية والطائفية المغلقة، بل وفي "الاجتهادات" الخربة للصحافة والإعلام ورجال الفكر! ومن الممكن أن نتخذ من "محنة" العراق المتولدة من زاوج دكتاتورية قبيحة باحتلال أقبح وما يدور حوله نموذجا "حيا" بهذا الصدد. ومفارقة الظاهرة تقوم ليس فقط في تحول العراق من "قلب العروبة" النابض إلى ميدان الاقتتال الهمجي، بل وإلى ميدان التجريب المبتذل "للتفلسف" الطائفي، كما نراه في مختلف مظاهر البحث عن أسباب ومقدمات "محنة العراق" في مقارنات "تاريخية" مبتذلة مثل "ابن العلقمي" و"صدام حسين"، والروافض والنواصب، أي إلى مختلف مظاهر اجترار الزمن وإنتاجه المتكرر لحالة الانحطاط. وليس هذا بدوره سوى ما ادعوه بهيمنة نفسية وذهنية الزمن، أي اجترار معالم ونتائج الانحطاط والخراب، التي يمكن التدليل عليها في احد نماذج "التفلسف" المسطح عبر مقارنة "محنة القرآن" القديمة "بمحنة العراق" الحالية2 !

إن "محنة" القرآن، أي الجدل اللاهوتي السياسي حول مسألة ما إذا كان القرآن قديما (منذ الأزل) أم مخلوقا (بمرحلة ظهور الإسلام)، لم تكن امتحانا سياسيا فقط أو اختبارا عقائديا عاديا من اجل السلطة كما يشيعه هذا النوع من "التفلسف". كما أنها لم تكن معتركا بين "شيعة" فرس بقيادة المأمون، و"سنة" عرب بقيادة الأمين، وإلا لأدى ذلك إلى رمي كل جدل الأفكار والمدارس في مزبلة المذاهب المنغلقة.

إن هذا الإسقاط المفتعل والمسطح على أوضاع العراق الحالية هو تفعيل سيئ للخطأ والخطيئة. انه يساهم في تفعيل الكليشات المذهبية والطائفية المميزة للزمن الميت و"القرون المظلمة" عن تصوير "شيعة العراق" فرسا وصفوية (مع الجهل المريع بهذا المصطلح)، و"سنة العراق" عربا! أي كل ما يساهم بوعي أو دون وعي على تعميق وتوسيع الأوهام الطائفية. والأوهام هي على الدوام القوة الأشد تخريبا. وحالما تسعى لجعل الزمن تاريخا، فإنها تتحول إلى مغول الجاهلية الجديدة وتتر المستقبل الفاحش!.

فمن الناحية التاريخية كانت "محنة القرآن" امتحانا فكريا وثقافيا معقدا وعسيرا، لا يخلو من أبعاد سياسية. لكنها أبعاد كانت جزء من صيرورة الثقافة الإمبراطورية العربية الإسلامية ورؤيتها الكونية الصاعدة. وهو السر القائم وراء تحول المأمون ومرحلته إلى "العصر الذهبي" في الحضارة الإسلامية. أما محنة العراق الحالية فهي محنة الانحطاط العام للدولة والثقافة والفكرة القومية، التي لعبت فيها الطائفية السياسية وما تزال دورا فاعلا. وفي هذا الانحطاط العام يكمن سرّ المصّنع الخفي والعلني للطائفية السياسية وليس العكس. من هنا خطورة الإسقاطات المبتسرة للقراءة الطائفية للتاريخ. فالطائفة من حيث البنية والتركيب زمن "دائر"، والطائفية اجترار ممل لقيم ومفاهيم تعيش على أطراف التاريخ الفعلي. ومن ثم فهي نفسية وذهنية جزئية، أي لا علاقة لها بمنطق التاريخ العام. لهذا لا يوجد تاريخ طائفي، وذلك لأن الطائفة بلا تاريخ. من هنا يمكننا القول، بأنه لا توجد قراءة طائفية للتاريخ، بل يوجد تأويل مذهبي ومتحزب لزمن الأسلاف، أي لماض لا قيمة له بحد ذاته. أما القراءة الطائفية للتاريخ فهي مجرد اصطناع مفتعل لنفسية وذهنية الأهواء (أي ما يعادل فكرة الأيديولوجية المتحزبة بالمعنى الحديث). وهي قراءة تؤدي إلى تهشيم الوحدة أو "الغرض المتسامي" الذي تدعي تمثيله، وذلك لأنها تسحب الوعي الاجتماعي والسياسي صوب مستنقع اللاعقلانية والهمجية. وهي الحالة التي يمكن رؤيتها على واقع العراق الحالي، ومن ثم احتمال تكرارها في دول العالم العربي الأخرى.

من هنا ضرورة قراءة الماضي أيضا بالشكل الذي يجعلها جزء من قراءة المستقبل، لكي يكون بالإمكان التحرر من اجترار الزمن والارتقاء إلى مصاف التاريخ. فالعالم العربي ما زال يراوح في مكانة لمدة قرنين من الزمن. واغلب ما فيه مستورد، بما في ذلك رموز الملابس العربية الأصيلة! وهو السبب القائم وراء عدم إدراك الحقيقة البسيطة القائلة، بان حقائق التاريخ الكبرى هي مرجعيات متسامية لا علاقة لها بالأحزاب والمذاهب والطوائف. وان حيويتها الفعلية والحقيقية تقوم في استعدادها وقدرتها على تنظيم وعي الذات القومي (العربي). وبالتالي، فان قراءة صراع الآراء والمواقف والمدارس القديمة ينبغي أن يتحول إلى جزء من قراءة الأفكار، أي إلى جزء من بناء العقل النقدي ومنظومة القيم الثقافية مثل الإقرار بالتعددية والتنوع والاختلاف بوصفها مرجعية فكرية روحية كبرى، أي النظر إلى كل الاختلافات القديمة على أنها اجتهادا. والأهم من ذلك التحرر منها بوصفها حلولا ورؤية "عصرية". وذلك لأن تجارب الماضي جزء من الماضي، أي جزء من الزمن المنصرم. والتاريخي فيها فقط يقوم في قدرتنا على توظيفها العقلاني بالشكل الذي يخدم تطوير الرؤية الإنسانية وفكرة الحرية والتقدم الاجتماعي.

إن تحويل القراءة المتفلسفة للتاريخ إلى قراءة مغلوطة لتاريخ الفلسفة والأفكار، يعادل المساهمة في إثارة مختلف أشكال اللاعقلانية والهمجية. فإن كانت هذه القراءة عن دراية فهي ارتزاق وتخريب للعقل والضمير القومي، وإن كانت عن غير دراية فهي ليست فكرا.

بينما تفترض الدراية والفكر التأسيس الحي للتاريخ القومي بوصفه تاريخيا ثقافيا، أي نفيا لزمن الانحطاط، وفي الحالة المعنية لزمن الطائفية بمختلف أصنافها، والسياسية منها بشكل خاص. فالتاريخ الثقافي للأمم (والعربي احدها) وحدة متناقضة لا تخلو من دموية. ومهمة المثقف بشكل عام ورجل الفكر بشكل خاص تقوم في تنشيط حركة الدماء في قلوب وشرايين الوعي القومي الثقافي وليس في سكبها على أسياف المعارك الهمجية! فالبديل العربي الجديد في العراق يقوم في نفي العار العراقي وتحويله الى جزء من غربلة الزمن السيئ.

***

ا. د. ميثم الجنابي

....................

1-  لقد أبدع التاريخ الفكري والثقافي العربي الإسلامي وأسس في الوقت نفسه لهذه المرجعية الضرورية الكبرى بمفهوم "الاجماع". بمعنى الصيغة المعقولة والمقبولة للاتفاق العام على فكرة ورؤية لا تنفي التنوع والاختلاف، بقدر ما أنها تؤسس لتحييد تحول الاختلاف إلى قوة مخربة. والاجتماع بهذا المعنى يعادل قوة العقل المنطقية في قدرته على تصنيع الاتفاق والوفاق والمساومة العقلية. وهي فكرة ديناميكية هائلة، وذلك لأنها تحتوي بحد ذاتها على مرجعية وتؤسس لها بمعايير الرؤية والمبدأ والمنهج والغاية. والمهمة الآن تقوم في كيفية تحويل هذه الرؤية إلى أسلوب لبلوغ المرجعيات القومية أي الاجماع على ما يمكن تنشيط التنوع والاختلاف دون أن يؤدي إلى تغلب العابر والجزئي والثانوي على العام والكلي.

2- اتناول هنا بالأخص ما وضعه محمد عابد الجابري من مقالات آخر عمره في المجلات السعودية! وهي حالة تشير الى خراب فكري ومعنوي. كما انها ظاهرة مؤسفة للغاية. لكنها تشير في الوقت نفسه إلى ما يمكن دعوته بالهشاشة الخفية والمبطنة للفكر والثقافة العربية وبالتالي عدم قدرتها على مواجهة اغراءات الرشوة والابتزاز أواخر العمر بأثر ضعف الصحة وثقل العيال وأشياء اخرى!

 

 

في المثقف اليوم