قضايا

رسائل الفلاسفة

احمد شحيمطظلت الفلسفة ومنذ ميلادها في بلاد اليونان تنشد الحقيقة وتطلب المعرفة لأجل ذاتها للمتعة والشغف المعرفي وتحويل الترسبات العالقة من الفكر الأسطوري وترسبات التقاليد والبديهيات وتنوير الذات بالممكن من الفكر الموجه باليات منطقية ومناهج في قيادة العقل نحو الصواب واليقين . رسائل الفلاسفة ليس كما تفهم دائما أنها موجهة بين الذوات في سياق حكايات الحب والغرام وما كان مستترا في أرشيف الفلاسفة وقام البعض بنشره للكشف عن الوجه الآخر من الحياة العاطفية كتلك الرسائل بين هايدغر وحنا ارندت ورسائل نيتشه إلى لوسالومي ومشاهير الفلاسفة من أفلاطون وشوبهاور وهيجل في علاقتهم بالمرأة. فالرسائل هنا تعني كل ما في سطور الكتب والكلمات من قيم إنسانية وأفكار في إصلاح الذات وتوجيه العالم نحو الحقائق وتنبيه الفكر نحو المفيد والممكن في عالم السياسة والأخلاق والمجتمع . رسائل في الحكمة والتنوير ورسائل في الأخلاق ونصائح للفعل الأخلاقي المناسب في تهذيب النفوس وتحسين المدارك . والصعود في سلم ومراتب العلم والمعرفة وتربية الناس وفق منطق سليم كنتاج ما تركه الفلاسفة من رسائل وتصورات. فالقصد من الرسائل توجيه الفكر بطرق ميسرة في الفهم وتبسيط المتن الفلسفي وإضافة ما هو ممكن للنسق الشامل في التفكير الفلسفي .الأمر هنا ينطبق على أرسطو في كتبه من الطبيعة وما بعد الطبيعة والسياسة والختم برسالة إلى ولده نيقوماخوس .رسالة في القيم وتوجيه الابن نحو نصائح يمكن أن تنير الطريق وفق ما يفهم أرسطو من الأخلاق في تحقيق الغاية التي ينشدها الإنسان وهي السعادة . الخير الأسمى في طلب العلم والمعرفة وتنمية ملكة العقل . طيب العيش وحسن الفعل مرادف لكون الإنسان سعيدا وهذا الرأي الشائع والمشاع عند عامة الناس . والانقسام في نيل الخير الأسمى هو ما يجعل الناس ينقسمون في مراتبهم العلمية والمعرفية وفي الفضيلة التي قال عنها أفلاطون الكثير بين فضيلة الحكمة والشجاعة والعفة والاعتدال . طبائع الناس ومراتبهم في تحصيل الخير الأسمى وان الناس ليسوا على مذهب واحد في الأخلاق والأفكار . الطبائع الغليظة ترى السعادة في اللذة . والعقول النشيطة حقا تضع السعادة في المجد .أما الصواب في نيل الخير الأسمى أساسه الحياة العقلية التأملية .عموما رسالة أرسطو إلى نيقوماخوس في الأخلاق والفضائل والسعادة وهي بالفعل عصارة تجارب الفيلسوف وحوار طويل مع المعلم أفلاطون وفهم اشمل للخير الأسمى والاعتدال في النفس والتناسب في الرغبات . أما في رسائل الفيلسوف اليوناني ابيقور وحكمه فإنها بالفعل رسائل في المعرفة والأخلاق على مقياس الطريقة السقراطية وليس على مقياس الجدل الأفلاطوني أو الارغانون الأرسطي . تخليص البدن من الرغبات واللذات والارتقاء في عالم الجواهر والمثل أو البحث عن الجواهر من وراء الإعراض لا يمنحها الشعور بالسعادة واللذة . حكمة ابيقور في توجيه الناس نحو الاعتراف بكل يحتوي عليه الإنسان من رغبات طبيعية وضرورية تلبى في عالم الواقع وغايتها أن يحس المرء بالسلامة للجسد والهدوء والسكينة للنفس، اللذة خير في ذاتها، مضمون الأخلاق العملية في الإقبال على الضروري والمفيد وفي طرح اللذات الهدامة والماجنة .ومن يريد أن يعرف أكثر يجب أن يقرأ في عمق أفكار ابيقور التي تضمنت حكمة في الاعتدال والإقبال على التفلسف في كل المراحل العمرية من الشباب إلى الشيخوخة. رسائل فلسفية في مضمونها أفكار وحقائق موجهة للإنسان في إثارة الانتباه إلى صلب المشكلات التي يمكن أن تواجه الإنسان وفي حقيقتها رسائل في إسعاد الإنسان وفق نوايا الكاتب وما يروم إليه من نوايا في تحسين العقل وإصلاح الأخلاق . وتثبيت الحق وطلب العدالة والدعوة في إرساء مجتمع السلام والسلم .ولذلك ليست الرسائل في الغراميات ومراسلات الفلاسفة وما يتعلق بالجوانب العاطفية في حياة الفلاسفة . ذلك موضوع آخر يمكن أن يكون عنوانه الأساسي الفلاسفة والحب . للتفتيش عن خفايا تتعلق بالجانب المسكوت عنه في عواطف الفلاسفة وذلك الوجه الخفي الذي يحمل معنى آخر من الحياة الحميمية . ومن الفلسفة الإسلامية هناك رسائل الكندي ومنها رسالته إلى المعتصم بالله في استحسان العمل بالفلسفة وخصوصا الفلسفة الأولى وفي قيمة الفلسفة ومنزلتها كأعلى الصناعات حدها إصابة الحق العمل به . ورسالة للتفصيل في النفس والجوهر وتحسين العقل ورسالة في كمية كتب أرسطو وما يحتاج إليه المرء في تحصيل الفلسفة . الغرض من الرسالة توجيه الفكرة وتقديم صورة مميزة عن منزلة الفلسفة الأولى وصورة الفيلسوف المحب للحكمة والعلم والباحث عن الحقيقة. وليس هناك ما يدعو الناس إلى سوء فهم للغايات القصوى من الفلسفة . رسائل من الفيلسوف إلى الحاكم السياسي ورسائل إلى الفقيه المتزمت للكف عن معاداة الفلسفة وإقناع الكل بقيمة التفلسف وما في الحكمة من علاقة تكامل وتوافق مع الشريعة . تلك من أهم الأهداف التي كانت تسعى إليها الفلسفة الإسلامية . أما في الفكر الفلسفي الحديث فهناك رسائل باروخ اسبينوزا في اللاهوت والسياسة .في الفلسفة والإيمان . وفي السياسة والحرية .جوهر الكائن البشري الحرية وأساس الاختيار مبني على القواعد الفكرية السليمة ومنطق الصواب في تطبيق المنهج الاستنباطي على الأشياء . والعقل أساس كل نظام سياسي واجتماعي . تحسين المدارك وتوجيه العقول نحو الصواب ما يسعى إليه اسبينوزا وتأمل الإنسان في الطبيعة يدرك انه جزء غير منفصل عنها . وان النظام الأكثر صرامة وقوة هو القائم على سلطة العقل وحكم الأغلبية وبالطبع النظام الديمقراطي المناسب في السلطة والتدبير .أما حكم الاستبداد فهو قائم على سلطة الفرد الواحد وتوظيف الدين في مجال السياسية للسيطرة على الجماهير . فالغاية من ممارسة السياسة في ظل دولة مدنية قائمة على سلطة الأغلبية والحريات الفردية والجماعية هي بالفعل الدولة التي يطلبها الفيلسوف في ضمان الأمن والسلم وتكريس الحرية الحقيقية . وليس الدولة التي تخيف الناس أو ترهبهم وتزرع الشقاق والانقسام بين طبقات المجتمع. من يتأمل في سطور الرسائل يجدها بالفعل أهداف وغايات في الفكر والسياسي والأخلاقي وفي إصلاح المجتمع . ونافدة العبور نحو المستقبل من خلال إعادة النظر في الفرد والجماعة .في القيم التي تعلي من قيمة الشخص باعتباره كائنا يسمو بالغايات النبيلة وفي الحكم الرشيد المتفق على قواعده في صيانة الكل من الاستبداد وطغيان النزعة الفردانية في الحكم المطلق . أما في رسالة التسامح لدى جون لوك فهي رسالة موجهة إلى نبذ التعصب والعنف الممارس باسم الدين والقوة . وتحت شعار حق القوة وإلغاء الآخر بسبب الاختلاف الديني والمذهبي . هذا النوع من العنف والتعصب شهدته أوروبا في القرون الوسطى وقبل إحلال الدولة الحديثة بقواعدها العقلانية الديمقراطية . صراعات مذهبية بين البروتستانت والكاثوليك .فالدين لا ينشر بالسيف والقوة بل بالإقناع واستمالة الناس بالعاطفة وما في التدين من سكينة وطمأنينة . وعندما يشتد الصراع في ترسيخ الفكرة بالقوة يقفز التعصب الديني والمذهبي للواجهة ويعزز نفسه باعتباره المنطق السلبي والوحيد في فرض الرأي بالقوة . رسالة الفيلسوف جون لوك في التسامح الديني هي رسالة في تجاوز المذهبية والتعصب الذي ولدته الصراعات في قلب أوروبا . في مرحلة دقيقة من بناء الدولة الحديثة .والمجتمع المدني .التصور الذي رافق ميلاد المجتمع التعاقدي والدولة الديمقراطية العقلانية التي أعلنت من ميلاد الحكم المدني والسلطة المقيدة . لا يمكن السماح بالمجتمع أن يتحول إلى مجتمع متعصب تنتعش في واقعه المذهبية والتعصب الديني والنزوع نحو القوة والسلاح والهيمنة على أملاك الغير . إنها الشرعية الجديدة التي ساهمت في تحرير الإنسان من هيمنة حق القوة والحق الطبيعي المطلق وما يتعلق بحالة الطبيعة نحو أفق جديد في تحرير الإنسان ومنحه حقوق وامتيازات . ومن الفلسفة الحديثة ورسائل الأخلاق والمعرفة إلى الفلسفة المعاصرة ورسائل جديدة في تحرير الإنسان من النزعة المركزية الغربية ومن سلطة العقل وايلاء أهمية بالغة للإنسان باعتباره كائن منتج للأدوات والأشياء ومنتج للرموز والعلامات .الإنسان الذي أصبح محط تأويلات وتفسير من قبل العلوم الإنسانية ومحط العناية من قبل الوجودية في جعل الحرية أسمى الموجودات . هناك رسائل الفيلسوف سارتر موجهة للإنسان والكشف عن أعمال الإنسان المنافية للأخلاق والكرامة خصوصا عندما كتب سارتر عن الجزائر في إدانة الاستعمار الفرنسي ومناصرة للثورات العمالية في العالم والفلاحين في فرنسا والرفض في استلام  جائزة نوبل للآداب في 1964 بدعوى انه لا يكتب لأجل الجوائز بل يكتب لأجل الإنسان وذلك موقف شجاع ورسالة موجهة إلى كل مثقف عضوي ملتزم بقضايا أمته وقضايا الإنسانية . إنها بالفعل الرسائل التي لازالت خالدة في أفكار معبرة عن قيمة الوجود الإنساني في نيل الحرية والاعتراف بالآخر ومحاولة من قبل الفلاسفة في بناء الإنسان فكريا وأخلاقيا ووجدانيا . فالإنسان ما فتئ يقدم نفسه بوصفه الكائن العاقل والمفكر والمريد ضد كل الحتميات والاشراطات في عالم محدد بالأسباب والنتائج لازال هذا الإنسان ينفلت من صرامة الاكراهات الخارجية  ويرتسم في الأفق بوصفه مشروعا يتجدد باستمرار ويحيا في تجاوز الانغلاق وترسبات الفكر المضاد للحياة والتقدم 

 

   بقلم : أحمد شحيمط من المغرب

 

في المثقف اليوم