قضايا

القوة لا تؤسس الحق

احمد شحيمطينطلق جون جاك روسو من الفكرة القائلة أن القوة لا تخلق الحق ولا تؤسس للمجتمع المدني السليم بالقواعد المأمولة للعبور نحو إقامة المجتمع التعاقدي المبني وفق المشترك بين الناس والقائم على أساس التنازل عن الحرية المطلقة وحق القوة .نداء روسو وفلاسفة العقد الاجتماعي ومنهم توماس هوبس وجون لوك بعبارة أن القوة لا تبني الحق ولا تؤدي إلى بناء السلطة المشتركة كان بالفعل نداء نحو طرح القوة واستبدال التحايل والمكر والدهاء نحو بناء مجتمع وفق مرامي إنسانية وقانونية . وتشمل أهدافهم تحليل مكامن النزوع عند الإنسان الذي لا يعتبر عند توماس هوبس خيرا بطبعه أو مدني بالمواصفات الأرسطية .هذا الإنسان تخترقه نوازع القوة والميل نحو التسلط والهيمنة على أملاك الغير .عبارة الإنسان ذئب لأخيه الإنسان لا يؤمن جوانبه .الغدر والحذر والكبرياء والميل لاستعمال كل أشكال القوة من مواصفات الإنسان في حالة الطبيعة . خير أن يعيش الناس في السلم وتحت سلطة مستبد عادل أفضل من العيش في الفوضى والقتل أو حرب الكل ضد الكل .

تبدو الحرب الأهلية الإنجليزية حاضرة بقوة في تحليل توماس هوبس .الحرب الشاملة .ومن الثورات تتولد الحاجة نحو التغيير وبناء المجتمعات على أسس تعاقدية في تنازل الأفراد عن جزء من الحرية المطلقة وإقامة الدولة المدنية والمجتمع السليم ." اللوفيتان" الدول المركزية القوية .التنين الوحش المهيمن والمسيطرة .لا سلطة تعلو فوق سلطتها وقوتها . نقطة تمركز القوة والسيادة ورمز للهيمنة والسلم .وعلاقة توازن بين الحاكم والمحكوم حتى في ظل السلطة المطلقة والحق الإلهي الذي نال نصيبا كبيرا من النقد لآراء توماس هوبس في رأي ذوي النزعة الحقوقية والأفكار الديمقراطية للقول بالسلطة المقيدة للحاكم المدني الذي يستجيب لسلطة الشعب والسلطة التشريعية .هذا الحاكم المنتخب يعتبره جون لوك ذو شرعية وإذا تجاوز السلطة المعقولة والمتفق عليها فمن حق الشعب الثورة عليه أو شي من العصيان لإزالته أو إجباره في الامتثال للسلطة التشريعية .هذا النوع من السلط بالمواصفات المعقولة والمشتركة يكرس دعائم شرعية الحاكم من جهة ويبني سلطة مشتركة ومنتخبة تؤدي إلى الانتظام السياسي والتوازن في تدبير الشأن العام للمجتمع . هنا يبدو واضحا تباين الرؤى بين رواد الفكر التعاقدي ويضعنا جون جاك روسو في صلب الفكرة الأساسية عن السلطة وبناء المجتمع من العواطف النبيلة والسمو الأخلاقي والروحي . ومن قوة القوانين الوضعية والإرادة العامة للشعب التي تعني المصداقية والثقة في البناء . وينقلنا الفيلسوف إلى التناقض الحاصل بين حالة الطبيعة وحالة التمدن . من الحالة الأولى التي تعتبر اللحظة السعيدة في اطلاقية الحرية بدون سلاسل وقيود القوانين المدنية جاءت الحالة الأولى كنتيجة مباشرة للصراعات والنزاعات والقلاقل في السيطرة على أملاك الغير . ويعطي مثلا برجل سيج أرضا وادعى أنها ملك له . فصاح واحد من الناس يندد ويعتبر هذا العمل الشنيع غير مقبول بالقول أن الأرض ملك للجميع . وان الخيرات تكون للكل مناصفة . هذا النوع من الاحتيال والهيمنة على الخيرات المادية كانت بالفعل وراء عدم المساواة .

فالصراع بين البشر يعود إلى الملكية الخاصة والى الجشع وازدياد المتاعب بازدياد البشر . من هنا يبدأ التفكير العقلاني في الإعلان عن  نهاية مرحلة القوة والنزوع نحو السيطرة وسيادة حالة الطبيعة إلى الاعتراف بمكامن الخلل في عواطف الناس لتي تبدلت وتلونت بألوان الجشع والقوة . لا بديل إلا في الانتقال بالمجتمع إلى المدنية والدولة الحديثة . حالة التمدن تنادي أن يكون الإنسان في قلب الحضارة والتمدن وينتقل من التوحش واللاسلم إلى حالة السلم والتحضر . سيربح الإنسان كثيرا من المكاسب في حالة التمدن ويسمو بالملكات . فالقوة لا تخلق الحق . وبدل حق القوة المبني على الشهوة والرغبة الذاتية في انتزاع الحقوق بدافع الحق المطلق . ومادامت القوة لا تخلق الحق بل قوة الحق هي المعيار في التأسيس، والحق يبنى على القانون الطبيعي المنظم والمؤسس للحياة الكريمة، والقوانين حسب روسو ليست واحدة بل تختلف من بلد إلى آخر باختلاف المناخ والثقافة السائدتين . وكل بلد يجرب القوانين المناسبة للعبور إلى مجتمع مدني سليم .والحق الطبيعي مجموع الصفات والقدرات التي تملي على الإنسان أن يتصرف وفق طبيعته. والناس ليسوا على درجة واحدة من الأخلاق والنبل في المشاعر والعواطف الإنسانية . نزعة الإنسان نحو الشر واضحة في رأي توماس هوبس . والتزام الناس بالقوانين الوضعية ينبغي أن يكون بالإجماع في البحث عن سلطة مشتركة ودولة قوية وإرادة الكل للعبور نحو تأسيس المجتمع الديمقراطي وفلسفة حقوق الإنسان. بعدما كان الإنسان يقتات على الطبيعة ويقطف الثمار ويصارع الحيوانات بالوسائل الممكنة ويعيش وفق طبيعته الخاصة .

حصلت الأشياء التي كان الإنسان لا يرغب في حصولها من القوة الفيزيائية والحرية المطلقة في غياب ضوابط ردعية ومؤسسات ضامنة للحق الطبيعي والحق المدني . وكان لزاما على الناس الاختيار بين العيش طبقا لقوانين العقل والفطرة السليمة والمنطق الذي يجزم بالعيش المشترك أو اختيار حق القوة والاندفاع وبالتالي العيش الدائم في توجس وترقب دائمين . ومن هنا لا يمكن للإنسان أن يشعر بالسعادة أو العيش في كنف القوانين المنصفة. ولما كف الإنسان عن القوة والمضي نحو إرساء مجتمع تعاقدي وتجسيد الإرادة العامة التي تعني عدم الاستفراد بالسلطة واحترام بنود ومواد العقد الاجتماعي الذي ينص على احترام الحريات وحق الإنسان في العيش والتمتع بكل المزايا التي يتضمنها هذا العقد وإلزام الناس باحترام مضامين الاتفاق وصيانة الحقوق الطبيعية والمدنية. حالة الطبيعة والاندفاع نحو القوة لم تعد ممكنة في ظل الشروط الجديدة للمجتمع والدولة الحديثة . وفي ظل اندفاع الناس بطواعية نحو العيش المشترك . فالدولة الحديثة التي أرسى معالمها الفكر السياسي والاجتماعي والقانوني واقع مادي وكيان حقيقي في قمع نزوات الفرد ونزعته في الاستقواء وانتزاع الحق من ذوي الحقوق الشرعية بدافع حق القوة .دولة عقلانية تحققت بفعل إرادة الناس ورغبتهم في القضاء على الجور وانتزاعه من العقول والنفوس .

فالدولة هي الروح الموضوعي في رأي هيجل التي تحققت بفعل الوحدة بين الفكرة المجردة والملموسة وتعينت في الواقع المادي وأصبحت تعبر عن القيم العقلانية و وروح الأمة في الثقافة الميالة للتنظيم وتجسيد عالم المؤسسات والتنظيمات وهي أرقي الأشكال التي أوجدها الإنسان بإرادة وحرية . فعبرت الدولة عن أسمى ما كان يطمح إليه الإنسان الغربي في تحقيق الدولة المدنية العقلانية . من حق القوة إلى قوة الحق . ومن حالة الطبيعة إلى حالة التمدن .من زمن التوحش والجور إلى العدالة والمساواة . كانت الأفكار الواردة في الفكر الاجتماعي والسياسي  ثمرة النضال والثورات ضد الاستبداد وثمرة الجهود الفكرية والذهنية في بلورة نماذج معقولة في صيانة الحق الطبيعي والمدني وبالتالي يمكن اعتبار الدولة الحديثة وليدة التأملات الفلسفية  والثورات الاجتماعية في تجسيد الفكرة الصائبة للعبور نحو مجتمع تعاقدي بديل عن مجتمع سلطة الفرد الواحد. وبديل عن الحق الإلهي الذي يعطي الشرعية للحاكم في الاستفراد بالقرار والحكم والمستبد والاستناد في تأويل النصوص الدينية في شرعية الحاكم والخروج عنه بمثابة عصيان وذنبا في حق الله .

كانت الرؤى في صميم البناء والتحقق للمجتمع التعاقدي وبناء فلسفة حقوق الإنسان وفق منطق الحق الطبيعي في الدفاع عن الحريات دون أن يخسر الإنسان شيئا من الحقوق الشرعية بموجب العقد الاجتماعي . وانتقاله من حق القوة إلى قوة الحق .لا سلطة تعلو فوق سلطة الحق والدفاع عن مشروعية تأسيس الحق على القوانين وعمل المؤسسات والعواطف النبيلة في الإنسان دليل على مكاسب الانتقال للمدنية .وان كان لجون جاك روسو رأي مغاير عن باقي المفكرين والفلاسفة فان الأمر يمكن أن يكون فيه عدم التناسب بين منتظرات المدنية واللحظة الطبيعية السعيدة التي كان يعيشها الإنسان من الحرية دون قيود القوانين. الإنسان خلق حرا فلماذا يستعبد كما يقول روسو؟ عموما القوة المادية لا تخلق الحق . وما يؤسس الحق هي تلك القوة القانونية وبناء المجتمع التعاقدي على الإرادة العامة والسلطة المشتركة المأمولة النتائج وغير محفوفة بالمخاطر . وتلك السلطة النابعة من القرار الكلي ومن شرعية المؤسسات السياسية .

تبلورت أفكار الرواد الأوائل في مجال الفكر الاجتماعي والسياسي والقانوني وفلاسفة القرن السابع والثامن عشر في تأملاتهم عن الدولة والمجتمع المدني والحرية السياسية والانتقال من سلطة الفرد الواحد إلى السلطة العامة من خلال صيغة توفيقية في الحفاظ على الحقوق الطبيعية والحقوق المدنية .دون الانجرار للحرب الشاملة والدخول في الفوضى .ومن فلسفة الأنوار تشكلت رؤية الغرب لذاته ونهضته التي أقيمت على العقل والحرية ودور المؤسسات وفي النظام الرأسمالي من فلسفة ليبرالية . فحاول الغرب نقل الأنوار لباقي الشعوب وتبلورت الدراسات الثقافية والاجتماعية للشعوب الأخرى ونالت نصيبا في التعرف على الآخر بمرآة الثقافة الغربية المتمركزة على الذات . وفي القرن التاسع عشر بداية عصر الاستعمار والتقنية والعبور بالأنوار نحو البلدان الأخرى في استعمارها ونهب خيراتها المادية . تحركت الآلة العسكرية وشكل ذلك تناقضات صريحة بين الخطاب المبني على الفكر العقل والحرية وإشاعة الأنوار والفكر الموجه للآخر المتوحش والقابل للتحضر ونقل معالم التفكير العقلاني لاستنباته وفرضه بالقوة في سبيل تفتيت البنيات التقليدية ورواسب المجتمع القبلي القائم على العصبية والنزعة القبلية والتمهيد أكثر في بناء الدولة بالقوانين والمؤسسات .يمكن القول أن التناقض ظل صارخا في الخطاب الغربي الاستعلائي الميال لاستغلال خيرات الآخر .

 

بقلم احمد شحيمط - كاتب من المغرب

 

في المثقف اليوم