قضايا

لكي لا نخللع بابا مفتوحًا

نور الدين صمودالأستاذ ماجد الغرباوي السلام عليكم وبعد فإن احترازك على ما بدا لك في مضمون قصيدتي الحائية الذي يحتاج الخوض فيه إلى (زمكان) طويلين عريضين، فقد بدا لي أنك وضعتني في غير موضعي رغم أني كنت جازما بأني وجهت القصيدة إلى مُستحقها، وأعطيت القوس باريها كما يقال، ولما لمست في تعليقك عليها أنك تراها خالية من روح التسامح التي يجب أن تعم الجميع،عدت إليها فوجدت فيها تمشيا معك في مشروعك المفتوح للنقاش والداعي إلى الأخوة البشرية مهما كانت ألوانهم ومللهم ونحلهم وأديانهم السماوية والوضعية وحتى من المشركين الذين جاء عنهم في القرآن: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا(48) سورة النساء). ورغم شركهم الذي لا غفران بعده، فقد أثــَّرتْ هذه الآية حتى في غلاة المكفـِّرين لمخالفيهم، ومن أطرف ما قرأت في قريب من هذا الموضوع أن عصابة من المكفرين لمخالفيهم انتصبوا في مكان لقطع الطريق على المارة، وأخذوا يسألون من يمر بهم عن دينهم ومذهبهم، فكل من وجدوه مؤيدا لهم أطلقوا سَراحه وسمحوا له  بالمرور، ومَن وجدوه مخالفا لهم قتلوه، وذات مرة قال لهم أحد المارين: (أنا من المشركين) فأيقن الجميع بأنه هالك لا محالة، وعندما همُّوا بقتله، ذكـَّرهم بالآية التالية: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ(6) سورة التوبة)

فتأمل هذه الآية وما قبلها وما بعدها لترى التسامح والدعوة إلى التعايش السلمي رغم البون الشاسع بين المؤمن والمشرك.

أضف إلى ذلك فإن عدم الغفران للمشركين يوم القيامة أمر موكول للخالق لا دخل للمخلوق فيه َ لذا ا يجوز أن يكون إشراكـُهم سببا في عدم التسامح وعدم التعامل معهم ففي ذلك حرمانهم من حرية الرأي والمعتـَقـَد، وهم الذين جاء عنهم في القرآن أمرٌ لرسوله محمد: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2) وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(3) وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6))،(سورة الكافرون) فقد يكون ذلك المُخالف أنفع للناس ممن تراه موافقا لك فتحسبه إنسانا في زيِّ ملاك، ولكنه كان بذلك يصطاد ثقة الناس بتلك (الزبيبة المصطنعة) التي رسمها على جبينه واللحية الطويلة العريضة التي رباها على عارضيه وذلك العُثنون الذي طال على ذقنه، واللهُ يعلم ما في الصدور، وقد ينتفع المجتمع الإنساني من المخالف في الدين، في حين أن إشراكه بالله لا تقع أضراره إلا عليه يوم الحساب، وقد عبر عن ذلك رهين المحبسين في إحدى لزومياته:.

سبِّحْ وصَلِّ وطفْ بمكة خاشعـِا*سبعين لا سبعًا فلسْتَ بناسِـكِ

جهِل الديانة من إذا عرضتْ لهُ *أطماعه، لم يُلـْفَ بالمتماسِكِ

فهل من المعقول أن يعادي إنسانٌ ورث دينا عن أبويه، إنسانا آخر ورث بدوره دينه عن أبوين يعتنقان دينا غير ذلك الدين، فالحساب والثواب والعقاب أمر لا يقوم به إلا الله يوم الحساب فهو الذي خلق كل نفس وقد جاء عنهم في القرآن: (لكم دينكم ولي دين).

أما الآية التي تشير إلى أن من ابتغى غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه، فإن المعنى المراد فيها) الإسلام (بمعناه الشامل لجميع الأديان السماوية التي أنزلها الخالق على أبي البشرية بداية من آدم إلى آخر أنبيائه، فالإسلام ليس مقصورا على ما جاء به محمد بعد المسيح بن مريم وهذا ما جعلني أختار لقصيدتي عنوان (إن الدين عند الله الإسلام) وهو يساوي (الإسلام سلام) بالمعنى المشار إليه آنفا.

فالدين واحد من مصدر واحد قال عنه رب الأديان  جميعا وباعثهم إلى البشر كافة (إن الدين عند الله ألإسلام) وهو الذي أرسله إلى الناس بواسطة أنبيائه عليهم جميعا السلام، ولا يمكن أن يكون إبراهيم يقصد أنه أول المسلمين الذين آمنوا بنبوّة محمد قبل أن يُرسل بزمن طويل ولكنه يعني أول المسلمين برسالة الإسلام التي أرسلها الله للبشر عن طريق جميع الأنبياء، ومن هنا كان عنوان قصيدتي وقد أردت به أن الدين الصحيح هو الدين الذي أرسله إلى البشر بواسطة الأنبياء فهو واحد وهو الإسلام الذي يعني السلام والسِّلم والسَّلم، غير محدود بما اشتهر وعرف بالإسلام الذي يقارن بالديانات اليهودية والمسيحية وما سبقهما من الديانات التي هي في حقيقتها جميعها إسلام. وفي القرآن ما يجعلها جميعا تدعو إلى الخير ويجازَى معتنقوها الجزاء الأوفى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(69) رغم أن (الصابين) ليس لهم نبي مبعوث يتبعونه فإن الله عدهم: (مِمَّنْ آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا.)

وبالمناسبة أذكر أن صديقا لي يعمل أستاذا جامعيا وكان والده إمام جمعة في جامع بمسقط رأسي زارني في مكتبتي المنزلية ومعه يهودي تونسي لا يجيد الكلام بالعربية أثناء حديثنا حول هذا الموضوع، فقدمت له من ترجمة القرآن التي قام بها إلى الفرنسية الصادق مازيغ للآية السابقة فقال لي إثر قراءتها: إذن فقد ضمنا مستقبلنا يوم الحساب. كما أذكر أنني سألت أستاذنا بالجامعة اللبنانية في بيروت 1958/59 الدكتور أسد رستم صاحب كرسي في كنيسة الله العظمي بأنطاكية عن رأيه في الإسلام فقال لي: اسمع يا ابني، كل ما يدعو إلى الخير فهو  من عند الله، وأذكر أنه قال لنا في درسه: لقد سميت أحد أبنائي صلاح الدين وقلت فيه قصيدة منها البيت التالي الذي فيه تورية طريفة وهو:

بصلاح الدين قد سميتـُهُ*وبه قد قـَرَّ قلب الأسدِ                                                                           

وإزاء هذا التنافر بين أتباع الرسالات السماوية فإن أطرف ما أثر في نفسي ما قرأته لامرأة يهودية تجيد الكتابة والكلام بالعربية التي قالت ما خلاصته أن كثيرا من أصدقائها المسلمين سألوها عن سبب عدم اعتناقها الإسلام؟ فقالت: عندما يتفق العرب على دين واحد لا يختلفون فيه دون جدال ودون أن يكفر فيه أحد أحدا، فإني سأعتنقه دون أن يجبرني أحد على الدخول فيه وأترك ديني الذي ورثته عن أجدادي.

وأضيف إلى ما سبق أن شيخ الإسلام ومفتدي الديار التونسية محمد الطاهر ابن عاشور شيخ جامع الزيتونة وفروعه في تفسيره الكبير التحرير والتنوير أنه أخبر أصحابه بأنه زار مدينة (الفاتيكان) بروما ولما وقف على ضريح القديس بولس، قرأ على روحه سورة الفاتحة، فتعجب أصحابه من قوله ذاك، فقال لهم: إن بولس بالنسبة إلى عيسى  بن مريم كان من الحواريين الذين جاء في القرآن عنهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِين(14سورة الصف) وبهذا المنطق اقتنع أصحابه بأن قراءة الفاتحة كانت على روح أحد الحواريين الذين كانوا للمسيح بمثابة الصحابة الذين ناصروا صاحب الرسالة المحمدية، وبهذا الذهن المتفتح برر شيخ الإسلام بتونس قراءته لفاتحة القرآن، وقبل إبداء هذا الرأي كان كثير من الشيوخ لا يسمحون لأنفسهم بالدخول إليها فما بالك بقراءة الفاتحة داخلها على روح أحد رؤوس المسيحية.

 

ا. د. نورالدين صمود

أستاذ محاضر ومدير قسم القرآن والحديث بجامعة الزيتونة

.....................

للاطلاع على القصيدة

إن الدين عند الله الإسلام / ا. دز نوري الدين صمود

 

 

في المثقف اليوم