قضايا

النَّصُ القُرآنِّيُّ بينَ التَعالي والتَأريخيَّة

التأريخيَّةُ هي: (مذهبٌ أَو نزعَةٌ تُقَررُ أَنَّ القوانينَ الاجتماعيةَ تَتَصِفُ بالنِسبِيَّةِ التأريخيَّةِ وَأَنَّ القانونَ من نتاجِ العقلِ الجمعيِّ).(1)، ويُعَرِّفُ روبير (التأريخانيَّة) بانَّها:(العقيدة التي تقول: بأنَّ كلَّ شيءٍ أو كلَّ حقيقةٍ تَتَطورُ معَ التأريخ وهيَ تهتمُّ ايضاً بدراسةِ الاشياء والاحداث وذلكَ من خلال ارتباطها بالظروفِ التأريخيَةِ . (2)، وَالتأريخيَّةُ عندَ نصر حامد ابي زيد تعني: (الحدوثُ في الزمن، إنَّها لَحظَةُ الفصلِ والتمييزِ بينَ الوجودِالمُطلَقِ المتعالي (الوجود الالهي)، والوجود المشروط الزَّمانِّي (وقولُنا بأَنَّ العالَمَ حادثٌ أومُحدَثٌ يعني زمانيتَهُ وَتَأريخيَّتَهُ، فمفهومُ التأريخيَّةِ إذَن مُحايِثٌ لِوجودِ العالَمِ أو ايجاده). (3)

والتأريخيَّةُ عندَ غادامير وهيدغر تعني: (تراكماٌ لخبرةِ الوجودِ في الزمن).(4)،وَيُعَرِّفُ اركون التأريخيَّةَ بأنَّها: (التحول والتغيرُ اي تحول القيم وتغيرها بتغيُّرِ العصورِوالازمانِ) .(5)

تأريخيَّةُ النصِّ القُرآنِّي

فكرة تأريخانيّة النصوص، فكرةٌ غربيَّةٌ، وطبقها الغربيون حتى على النصوص الدينيّة عندهم، اذ لم يفرقوا بينَ نصٍ دينيٍّ ونصٍ بشري، ولابينَ نصٍ مقَدَس ونصٍ بشريٍّ ؛ فطبقت على التوراة والانجيل؛ واعتبرت كلُّ النُصوصِ نصوصاً تأريخيَةً .

وتلقف هذه الفكرةَ الحداثويونَ في عالمنا العربي، وطبقوها على القران الكريم، وقد تبناها نصر حامد ابو زيد في كتابه (مفهوم النص)، الذي اعتبر في كثيرٍ من عباراتهِ ان النص الدينيَّ تَشَكَّلَ في ارض الواقع في محاولة لتجريد النص القراني عن مصدره الالهي، بالرغم من ان ابا زيد يقول بانه يؤمن بالمصدر الالهي للقران .ومن الذين قالوا بتاريخية النص القراني، محمد اركون، والعروي، والجابري، وحسن حنفي، رغم اختلافاتهم في فهم تاريخيَّة النص القراني.

من القرائنِ والشواهدِ التي استفادها محمد اركون للاستدلال على تأريخيَّةِ النص القراني، اسباب النزول، والناسخ والمنسوخ .

المفهوم والمصداقُ في النص القُراني

الذينَ تحدثوا عن تاريخيةِ النصِ القُراني، استندوا الى ان الايات نزلت في اشخاصٍ محددين، ووقائعَ محددة، وازمنةٍ محدَدَةٍ، وامكنةٍ محددة، وهذا دليل على تاريخيةِ هذه النصوص . الا ان هؤلاء فاتهم التمييز بين المفهوم في النص القراني، وهو مفهوم متعالٍ ومفارق، وبينَ مصداق النص القراني، وهو تأريخيٌّ مشروظٌ بزمانٍ ومكانٍ وشروطِ محددةٍ.وعلى هذا الاساسِ؛ استنبط الاُصوليونَ قاعدةً متصيدَة من النصوص هي:

(العبرةُ بعمومِ اللفظِ لابخصوصِ السبب) .

فايةُ الظهارِ التي نزلت في شأنِ اوس بن الصامت وزوجته، مصداقها تاريخي محدد باوس وزوجته، اما مفهومها فهو لاتاريخي، عابر للتاريخ والزمان والمكان، فهي تنطبق على كل من تلبس بحالة الظهار . الايةُ مصداقها تاريخي ولكنَّ مفهومها ليس مفهوماً تأريخياً، بل هو مفهومٌ عابرٌ للتاريخ .وايات اللعان نزلت في عويمر وزوجته، مصداقها تاريخي، ومفهومها لاتاريخي، واية السرقة نزلت في شخص سرق رداء صفوان، مصداقها تاريخي، ولكن مفهومها عام .

الانزال والتنزيل في القران

الفرق بين الانزال والتنزيل، هو ان: الانزال يكون دفعيا، والتنزيل يكون تدريجيا . في الانزال هناك بعدٌ علويٌّ، بعدٌ متعالٍ مفارق، وفي التنزيل هناك البعد التدريجي المرتبط بالزمان والمكان، في التنزيل هناكَ بُعدٌ تأريخيٌّ، وفي الانزال هناك بعد لاتاريخي.

في الانزال المرتبط بالله، هناك جانب علوي مقدس لاتاريخي، كما في الايات الكريمة:

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ). ال عمران: الاية :3. وقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) القدر: الاية: 1.

وقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) . الدخان: الاية :3. وفي التنزيل يقول الله تعالى:

(وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا) الاسراء: الاية: 106.

وفي الختام: في القران الكريم جانبٌ متعالٍ مفارق لاتاريخي هو المرتبط بالله وهو مايتعلق بالمفاهيم من النص القراني، وجانب تاريخي يرتبط بالناس الذين خوطبوا بهذا الكتاب.

 

زعيم الخيرالله

.........................

مصادر البحث

1- يوسف كرم، مراد وهبة، يوسف شلالة، المعجم الفلسفي، ص 33.

2- اركون، محمد، الفكر الاسلامي، قراءة علمية، ص 139.

3- ابو زيد، نصر حامد، (النص، السلطة، الحقيقة)، ص 71.

4- ابو زيد، نصر حامد، (اشكاليات القراءة واليات التأويل)، ط 4، 1996م، المركز الثقافي العربي، ص 42.

5- اركون، محمد، (من الاجتهاد الى نقد العقل الاسلامي )، ص 26 .

 

في المثقف اليوم