قضايا

العنف وصناعة الكراهية

احمد شحيمطالعنف والترهيب يضرب بعيدا في نيوزيلندا ويخرج من رحم المجتمع دعاة التعصب والكراهية ويستندون في أقوالهم برجال السياسة والتاريخ وفكرة صفاء العرق ونقائه . من قلب المجتمع المسالم والمتسامح والبعيد عن صخب السياسة وصراع الأمم . يخرج قاتل وينهي حياة خمسون قتيلا في مشهد رهيب .لا أخلاقي ولا إنساني . عمل منحط خال من الرحمة والإنسانية بدعوى الاجتياح الإسلامي لأوروبا وتهديد القيم المادية والنموذج الغربي . خطاب الكراهية وليد الأمس واليوم . كان في مرحلة كمون عند البعض ومن يدعي غير ذلك يمكن العودة للخطاب العام الذي تحرض عليه قنوات أخرى مناهضة للآخر . من الإعلام المرئي والمنظمات واطر في الأحزاب السياسية وفعاليات أخرى في المجتمع المدني .عندها تصبح الفاشية والنازية والحركات الراديكالية الاستئصالية الفكر الجديد في الغرب وتتلاشى القيم المادية والقوة الناعمة التي أرسى دعائمها ذوي العقول الخيرة والضمائر الحية في تكريس قيم الدولة الحديثة من الحق والمواطنة ونبد أشكال العنف والقوة وحق الإنسان في العيش المشترك بدون النزوع نحو العنف والترهيب . الآن يطرح السؤال من الذي يغذي موجة العنف في العالم ؟ وما هي الدوافع وراء الفعل الشنيع في نيوزيلندا ؟ وما هي الأسباب المساهمة في تأجيج العنف واستفحاله في العالم ؟

تتناسل الأسباب والدوافع . ذئاب منفردة كما قيل عن العنف العابر من الشرق للغرب . والإرهاب الآتي من الحركات الإسلامية الراديكالية وتبنيها خيار القوة والمواجهة الشاملة مع الغرب . لا تهدأ أصوات عدة في الغرب عن ترسيخ الفكرة في عقول الأطفال والكبار . وفي الغرب تزداد صناعة الكراهية من خلال جلد الآخر وتشويه صورته في الإعلام والبرامج وتكريس نمطية العداء التاريخي بين الشرق والغرب . وتتحمل الشعوب آفة العنف ونتائجه الخطيرة في وحدة الأمم من جهة وفي الصورة الملتصقة بشعوب وثقافات علما انه ظاهرة العنف تنتشر في كل بقاع العالم . ليس العنف ظاهرة جديدة ويخترق دولة بعينها بل العنف موجود في التاريخ وقابع في الفرد والجماعة وتغذيه أسباب جمة .من عوامل عرقية وثقافية . وعنف الطقوس والقيم والعنف الناتج عن العوامل الديمغرافية . وأقوى أشكال العنف المادي الإرهاب كنزعة تدميرية في خلق الفتنة والرعب في النفوس .

في  نيوزيلندا حالة الإرهاب بحق مواطنين يمارسون الحق في ممارسة شعائرهم الدينية في بلد بني على التعدد والاختلاف والديمقراطية . شعب متنوع الأعراق والخيرات . فالفعل الإجرامي لا يمكن تبريره بوفود عناصر متطرفة لأوروبا ونيوزيلندا واستراليا . بل نعرف أن من خيرة الأطر والكفاءات تلك التي هاجرت إلى استراليا ونيوزيلندا بحثا عن الحرية وتحسين مستوى العيش . هاجرت وتركت أمكنة وذكريات من المكان في سبيل البحث عن فضاء للتطور والعيش في الحرية . وكانت قرارات المهاجر اختيارية وقسرية نتيجة أوضاع في أوطان معينة . المثال ينطبق على الحروب التي عاشتها لبنان والعراق وسوريا والجزائر . والشتات والمنافي للشعب الفلسطيني . ورغبة المهاجر المسلم للبحث العلمي وتحصيل العلم والمعرفة. وفي سبيل ذلك قطع الإنسان مسافات طويلة فأصبح المكان وطن جديد ومستقر للعيش . لا مكان امن في العالم اليوم من العنف . الفكرة قائمة في العقول والزيادة في تبنيها يستند على نشرها وتنفيذها. في التحريض على العنف والكراهية تتعدد الآليات من الشتم والنبذ والإقصاء إلى آلية القتل والتدمير في وجدان الناس وزرع الخوف والتوتر في حياة الناس . صناعة الكراهية من وسائل التحريض وتطويع العقول وفق غايات ومقاصد معينة . الكراهية سائدة في الكتب الدراسية . والإعلام المرئي وفي شبكات التواصل الاجتماعي .وفي طبيعة الخوف المستبطن من الآخر وخصوصا من القيم الإسلامية التي تشكل نوع من التهديد الواضح للقيم المادية الغربية . الرئيس جورج بوش ودونالد ترامب ومعهم خبراء في الدراسات الدولية ورجال العلوم السياسية والقانونية ومنهم بالطبع صامويل هنتغتون فوكوياما والمحافظين الجدد ... هؤلاء من يعتبرون السنوات القادمة تحمل عداء قويا من خطر الحركات الإسلامية الراديكالية ومن كل قوى الشر في العالم المتربصة بالحضارة الغربية في بعدها القيمي والفكري . اليمين المتطرف وكل الجماعات الجديدة المؤيدة لتفوق العرق الأبيض والقوميون في أمريكا والغرب والأحزاب المدافعة عن وحدة الغرب ضد ما تسميه ب"الاسلمة" الشاملة لأوروبا وأمريكا .

أصيبت الجالية المسلمة في العالم بفزع شديد أمام هول العنف ونتائجه. الخوف يولد هواجس أمنية والاحتياط من الآخر . ويولد التقوقع عل الذات وعدم ارتياد الأماكن العامة والخاصة خوفا من الذئاب المنفردة والجماعات الراديكالية. سرطان العنف والإرهاب  يستشري في الأذهان وينتشر كالنار في الهشيم ويهدد السلم ويبدد التعايش بين الحضارات. ومن شعارات جوفاء لا يرغب هؤلاء المهاجرون من إفريقيا  واسيا في العبور من بلدانهم إلى مجتمعات جديدة .العنف يتغذى من الفكر الأحادي العنصري وحق القوة . وتحرض عليه القنوات المضادة للأجنبي المهاجر والقادم من بعيد والعابر للحدود حتى أصبح مواطنا . ومن يفكر بالمنطق السليم وبالعودة للتاريخ سيجد "الماوريون" هم السكان الأصليون لنيوزيلندا و"الابوريجين" السكان الأصليون لاستراليا والهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية وكل الوافدين على البلدان الثلاثة من أوربا وإفريقيا واسيا . لا يوجد عرق خالص في العالم . هناك تنوع ثقافي وتهجين بين الأمم والحضارات . وحدة الجنس البشري رغم التنوع الثقافي . فهل يعقل أن  يسير العالم نحو العنف والهاوية ؟

المهاجر في نيوزيلندا ساهم في تطوير البلد والرفع من مكانته في العالم من خلال الخبرات والمهارات العملية التي حملها المهاجرون من بلدانهم الأصلية ووجدوا في البلد فرصا كبيرة للنجاح والاستقرار . فمن الصعب أن يتحول هذا البلد من واحة وجزيرة للديمقراطية والتعايش إلى بلد يضربه الإرهاب والعنف. في خطوة إنسانية معبرة عن أسلوب التضامن والمساندة عبرت رئيسة الوزراء النيوزيلندية عن الإدانة والرفض والتضامن المطلق مع الجالية الإسلامية فكانت مراسيم الدفن بحضور مكثف ورفع الآذان في الإعلام دليل آخر في محاربة العنصرية والكراهية والثبات على فكرة التعايش والمواطنة الكاملة للكل .

العنف مرفوض مهما كانت دوافعه . ولا يؤدي العنف لأضرار مادية ومعنوية فقط . بل يبدد التعايش ويخلق صراعات  قيمية ويؤدي لانهيار التوازن بين الخير والشر عندما تميل جهات معينة للدفاع عنه وتبريره وتصنيف العالم بين محاور للخير وأخرى للشر . نحن اليوم  في عالم يتباهي بالحداثة والقرية الكونية والقيم الإنسانية النبيلة . التبادل للقيم والرموز . والتواصل من سمات عالم اليوم . يرفع الإعلام الغربي شعارات وكلمات من قبيل " الاسلاموفوبيا " في توليد الخوف من الآخر العابر من الشرق والحامل للقيم الإسلامية. ويتم نشر صورة معممة ونمطية  عن الآخر المخيف والحامل للعنف والتدمير. مغالطات من برامج تستهدف التعدد والتنوع وتكريس صورة نمطية عن العدو المخيف والمهدد للسلم والقيم الغربية . فقد كان المفكر الفلسطيني ادوار سعيد بارعا في تحليل أدبيات الاستشراق والاستعمار من خلال صورة الإسلام في الغرب وفي مواقف الاستشراق الذي ما فتئ يحرض ولا يبني جسورا من الثقة والمصلحة المتبادلة بين الشرق والغرب .

نحن ندين العنف والإرهاب في كل مكان ونشدد بالفعل على المثاقفة والاعتراف بالآخر ككيان يمتلك حضارة وهوية . والخوف أن يتحول سرطان العنف ويتغلغل في النفوس والقلوب . ان يجد لنفسه سلطة تدافع عن منطقه. من قبيل أن الأزمة الآنية في بعض البلدان الغربية مردها إلى تدفق المهاجرين والباحثين عن الحرية والمقهورين في بلدانهم . عوامل موضوعية ومادية من عالم يعيش اختلالا في توزيع الخيرات . فالعنف خيار بليد وإجراء متعمد في حق الآخر. وان تنوعت الأسباب والعوامل يبقى سرطان العنف يستشري في النفوس ويؤدي للضرر النفسي والمادي . سمعة الأوطان بكرامة أهلها ومواطنيها . فعندما يشار إلى بلد بذاته عن انعدام الأمن فيه . تتعالى درجات الترقب والحيطة والتحذير لأقصى درجة من التأهب فيخسر البلد كثيرا في ميدان السياحة والاقتصاد . فاللوم ينصب بالدرجة الأولى على الأشخاص وحماية الدولة للمؤسسات ومحاولة التقليل من المخاطر بالتوعية والمراقبة والضرب من حديد لكل من يحرض ويدعو للعنف والترهيب ويساهم بذلك في صناعة الحق الكراهية  .

سرطان العنف ينتشر في العالم ولا يستند على رؤى إنسانية . نزعته التقويض والهدم لأسس الأخلاق ومبادئ الضمير وأخلاق الواجب . وحماية الحق الطبيعي والمدني. وفي الزيادة في العنف وانتشاره يعتبر الفيلسوف الفرنسي "جون بودريار" أن الزيادة في حقوق الإنسان ووسائل الاتصال وتقليص المسافات بين دول العالم لم يمنع من انتشار العنف كشبح جرثومي ينتقل بانتقال الناس وينمو كالطفيليات العالقة فوق الصخور . ويستند بالأساس على انهيار ثنائية الخير والشر . وتكريس الخطاب الواحد الميال للإقصاء وتحميل المسؤولية لطرف دون غيره . مساس بالقيم والتعايش ونسف للاختلاف الثقافي والتسامح الديني . وعدم الاعتراف بالعنف والترهيب يولد ثقافة الكراهية. فالعنف والترهيب الذي شاهده العالم من الحادي عشر شتنبر إلى القتل والترهيب في الشرق والآن في نيوزيلندا عنف لا أخلاقي ولا إنساني ولا يمكن تبريره بل وجب رفضه وإدانته والقضاء عليه حفاظا على امتيازات الحضارة الإنسانية من لغة التدمير وسفك .

 

بقلم : أحمد شحيمط كاتب من المغرب

 

في المثقف اليوم