قضايا

علي عبد الرازق: إصلاحيًة اسلامية بروح ليبراليًة (4)

علي رسول الربيعيإن هذه الحلقة الأخيرة من سلسلة الدراسات عن طروحات علي عبد الرازق جاءت في سياق تفكرنا في قضيا الفكر السياسي العربي الحديث، وبوصف الإصلاحية الإسلامية أحد التيارات الفكرية المهمة في هذا السياق. وايضاً في سياق تساؤلاتنا عن: ما الذي بقى صالحا من خطاب الإصلاحين؟ هل نجحت محاولات تقييد الأستبداد أم فشلت ولماذا، أي البحث في الأسباب الفكرية والتاريخية التي أدت الى ذلك؟ وأذا فشلت سياسيا ماذا كان البديل عنها؟ وماهي راهنية خطاب الإصلاحين في الموقف من الحداثة والعلمانية وهل فتحوا أفقا لأمكانية قيام حداثة غير علمانية في المجال الأسلامي؟

في شأن الإسلام والدولة

احدث رأيً عبد الرازق ان الرسالة النبوية هي رسالة دينية وليست سياسية، هزة عنيفة في الفكر السياسي الإسلامي "واثار كتابه دويا هائلا لم يعرفه كتاب آخر منذ وصول المطبعة الى مصر"(شكري، 1978، 235.) وقد استحوذت المضاعفات السياسية التي نجمت عن هذا الرايَ الجديد، اهتمام المعنيين بالموضوع وادت الى نقاش صاخب حول العلمانية والعلاقة بين السلطات الدينية والمدنية . ولم يحظ أي كتاب منذ زمن طويل في الفكر الإسلامي بالتمحيص الذي حظي به هذا الكتاب، ولا كان لاي كتاب مثل الاثر العميق الذي تركه على الفكر العلماني. (خدوري، 1972،224) واذا كانت مسألة فصل الدين عن الدولة قد لاقت معارضة عنيفة من قبل الرجعية الاسلامية واصحاب المنفعة الشخصية، فان رفض الخلافة التي تجعل السلطة الدينية المقرونه بالسلطة السياسية مصدرا للظلم والاستبداد قد لاقت قبولا، بحيث اجمع مؤيدو عبد الرازق و خصومه على ان هذا الاستخدام لمنصب الخلافة قد ادى الى كوارث سياسية واجتماعية. ويعترف فهمي جدعان (جدعان، 1998، 348= 349)، وهو ممن يخالفون طروحات عبد الرازق،" ان عبد الرازق على حق في نقده للتصور الذي يحيط الخليفة بهالة من القوة والقداسة والسلطة التي لا حدود لها. كما يجعل سلطته مستمدة من الله، لكنه يستدرك فيرى " أن هذا التصور- الثيوقراطي- لمنصب الخلافة ليس هو التصور المقبول والمُجمع عليه عند المسلمين، اذ غالبيتهم يرون على الخليفة ان يستمد سلطته من الامة."

 قد يكون صحيحا انه ليس هو التصور المقبول والمجمع عليه عند المسلمين، ولكنه هو السائد، وهو الذي ينفذ على ارض الواقع، وقد عانى الناس من استبدا الخليفة وكذلك المفكرون والمناضلون السياسيون وحتى علماء الدين الأحرار أمثال الكواكبي؛ واما القول بان سلطة الخليفة مستمدة من الامة، فلا فائدة منه ولا معنى له، طالما انه لا يطبق .

 لقد نظر عبد الرزاق الى الموضوع من زاوية جديدة تعكس فهما جديدا للإسلام قائلا: "ان الدين الاسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة . والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية " (عبد الرزاق، 1978، 210). ليست الخلافة وحدها خارجة عن الخطط الدينية، بل ان كل ما لهم علاقة بالتنظيم السياسي للشعوب، وكل ما له علاقة " بالقضاء ووظائف الحكم ومراكز الدولة كلها خطط سياسية لا شأن للدين بها.. فقد تركها المشرع لنا لنرجع فيها الى احكام العقل، وتجارب الامم وقواعد السياسة " (عبد الرزاق، 1978، 210).

 بذلك يكون عبد الرازق قد دعا بكل وضوح، ان الدين شيء والدولة والحكم شيء آخر، والى الفصل النهائي بين الدين والدولة، فصلا يستند الى فهم جديد للدين الاسلامي، مخالف للفهم الذي كان سائدا طيلة احقاب زمنية طويلة، والذي لا يزال ربما سائدا في اوساط المسلمين حتى يومنا هذا، وما زالت اصداؤه تتردد بين الحين والآخر لتقول: ان الاسلام دين ودولة . وان الاحكام الشرعية غايتها خدمة الدين وليس الدولة. (وكل ما جاء في الاسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات، فانما هو شرع ديني خالص لله تعالى ولمصلحة البشر الدينية لا غير. وسيان بعد ذلك ان تتضح لنا تلك المصالح الدينية ام تخفى علينا، وسيان ان يكون للبشر منها مصلحة ام لا) (عبد الرزاق، 1978، 171).

   لكن تبقى هناك بعض الجوانب الغامضة التي تشوب طروحات عبد الرازق، وفي هذا السياق نوافق نصار (نصار، نصيف، 1986، ص185) في ملاحظاته واسئلته التي طرحها عن " معنى المصلحة الدينية والمصلحة الاخروية والمصلحة المدنية؟ وباي معنى تكون احكام المعاملات القرآنية شرعا خالصا لله؟ "ونرى معه ان كل هذه الاسئلة تحتاج الى معالجة، ولا نجد عند عبد الرازق اجوبة عنها، لكن كان يمكن ان يشرح عبد الرازق ما كان غامضا او ناقصا في دعوته، لو انه استمر في الكتابة ولم تصدمة مسالة الحكم الذي اصدره الازهر بحقه، اذ يقول خدوري (خدوري، 1972، 224) اتصلت بعبد الرازق وبحثت معه بعض المسائل التي لها صلة بطروحاته، وبعد الاستيضاح تبين انه يقول: " ان جميع القوانين يجب ان تعدل، عدا القوانين الدينية الصرف، لتتناسب مع الظروف القائمه، من ذلك ان قوانين الارث، كما جاءت في القرآن، سليمة ويجب ان تنفذ من قبل الدولة دونما تغيير. اما القوانين الاخرى التي لا تتناسب مع المجتمع المعاصر، يجب ان تزول... والنبي لم يقل ابدا انه خير العارفين في الشؤون المدنية، بل اوضح لصحابته انه ليس معصوما عن الخطأ. فالقوانين التي تنظم حياة المسلمين الروحية صالحه لكل زمانى واوان ولا تقبل التغيير، اما القضايا الاخرى فيجب ان تعتبر زمنية وعرضة للتغيير من قبل الدولة وفقا لاحتياجات المجتمع"

 وبالفعل لم يكن ذلك بعيدا عما جاء في كتابه عندما ناقش موضوع الخلافة، أصلها وتطورها، و عرضه لتطور أصول الحكم في الإسلام، وإقامته تمييزا فاصلا بين النبوة والممارسة السياسية، وايضا دفاعه عن ضروروة الأحتكام في مجال السياسة الى" أحكام العقل، وتجارب الأمم وقواعد السياسة "؛ وبكلمات أخرى، ان تدبير امور الدولة السياسية الداخلية والخارجية،، لا شأن للدين بها، وانما يرجع الامر فيها الى العقل، او تجارب الامم وبخاصة الامم الأوربية المتقدمة في مجالات العلوم والقوانين المدنية المنفصلة عن الدين (عبد الرزاق، 1978، 201)

ان الاسلام لم يقرر نظاما معينا للحكومة، ولم يفرض على المسلمين نظاما خاصا يجب ان يحكموا بمقتضاه، بل ترك لهم الحرية في ان تنظيم الدولة طبقا للاحوال الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي توجد فيها، مع مراعاة التطور الاجتماعي ومراعاة مقتضيات الزمن (نصار،1986، 185). هذا ما اراده عبد الرازق من خطابه؛ أيً هدم النظام العتيق واقامة نظام جديد للحكم على احدث ما انتجته العقول البشرية، أي اقامة الدولة على الاساس القومي الحديث، مع المحافظة على دور الدين الاخلاقي واعتباره رسالة روحية لا حكما سياسيا

الخلاصة

 أنّ جوهر ما تضمنه الخطاب السياسي الإصلاحي لعبد الرازق هو، أنّ الإسلام رسالة لا حكم، ودين لا دولة، وأنه لم يقرّر نظاما معيّنا للحكومة، كما لم يفرض على المسلمين نظاما سياسيّا محدّدا يُـحكمون بموجبه، فقد ترك لهم حرية أختياره بما يناسبهم؛ فقد رفض تلك الحكومة التي ابتدع اسمها الفقهاء "الخلافة"، ولم ير هناك من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور الدين والدنيا؛ وأنها ليست من الدين، ولم يأمر بها القرآن، فهي نكبة على الإسلام و المسلمين، وينبوع شرّ وفساد، ولم تكن سوى نظام من العسف والقهر ومصدرا لانحطاط الشعوب الإسلاميّة وعاملا أساسيّا في منع تقدّمها.

 وضع عبد الرازق القواعد السياسية للخلافة موضع شك، ومساهمته في السجال الـمُثار حول إزالة الخلافة شجعته على نقد الإسلام من الداخل من أجل تفريغه من محموله الأنثروبولوجي والسياسي واعتباره رسالة دينية تريسندنتالية بحيث أي تدخل منه في الشأن الزمني قد يسبب الأستبداد.

 يورد عبد الرازق شواهد تاريخية متعددة من تاريخ الإسلام السياسي والعقائدي ليثبت أن التصور الذي يقول أن الخلافة مركز دينيّ هو خطأ وقع فيه عامة المسلمين، وهي في حقيقة امرها ليست اكثر من شأن سياسي يرجع فيه الى الناس ومصالحهم لا الى نصوص الشرع وتعاليمه وأن شرعيًة الخلفاء الذين تعاقبوا على حكم دولة " الإسلام " كانت تتعلق بظروف تاريخية وكان هناك دائما مَنْ يعارضها بوصفها تدبير بشري. وبهذا أراد قطع الصلة بين الدين و السياسة والدولة.

 يبرز خطاب عبد الرازق الفارق الجوهريّ بين الرسالة الدينية ونظام الحكم السياسي، ويخلص إلى إنّ الإسلام دعوة دينيّة ومذهب من مذاهب الإصلاح لهدايتة البشر، وأنّ النبيّ محمّد لم يكن ملكا، كما ليس معروفا عنه إنشاء حكومة أو دولة، فهو رسول بعثه الله ليهدي البشر إلى الإيمان بقيم الإسلام ومبادئه الروحية والإنسانيّة،

 وجد عبد الرازق أنً أنّ علم السياسة عند المسلمين شبه معدوم، وأنّ القليل الذي أتى به المسلمون لم يتعدى التأكيد على دور الحاكم في إدارة شؤون الأمّة، وإقامة العدالة ؛ في حين أنً السياسة مســألة دنيوية تقوم على العقل، والتجربة،و هما الاطار المرجعي للدولة ونظام الحكم. فيدعو الى الأنتقال من احكام الشريعة الاسلامية، الى قوانين اوربا المدنية، من الاسلام الذي هو دين ودولة، الى الاسلام الذي هو رسالة، وليس دولة. من الخلافة التي لابد منها، الى الغاء منصب الخلافة نهائيا، وهو بهذا الموقف النقدي يصوغ أطروحة هامة في سياق الخطاب السياسي الإصلاحيًة الإسلامية تتجاوز التناول اللاهوتي، والطريقة الفقهية، أطروحة تقدما تاصيلا في الفكر السياسي الإسلامي الحديث.

 لم يقدم عبد الرازق أجابة من خلال تحليل لمقومات العمل السياسي ومستلزماته كما يفعل علماء السياسة المعاصرون، ولم يناقش بشكل خاص مسـألة امكانية أو استحالة جمع الشعوب الإسلامية بوصفها جزء من البشر لا كافة البشر، تحت سلطة حكومة واحدة، وبأعتبار الإسلام دعوة عالمية، وأن جمع المجتمعات التي التي أنتشر بها الإسلام في وحدة سياسية وتحت حكومة واحدة مسألة تاريخية تتعلق بالأوضاع السياسية لتلك المجتمعات ولا تتعلق بالإسلام كدين لقد تَمَثَلَ خطاب عبد الرازق " الإسلام وأصول الحكم " في روحه العامة النموذج النظري الليبرالي في تحليله التاريخي وهو يدافع عن تاريخية السياسة؛ أيً أنكار البعد الدنيوي في الإسلام يأتي بقصد فسح المجال لأستقبال أحكام العقل المعيارية المقبلة من فكر الحداثة، وليقترح ضمن سياق الخطاب هذا البديل الليبرالي رؤية تقول بدنيوية وتاريخية الممارسة السياسية في السياق الإسلامي، خطاب متشرب للإشكاليات المُثارة في سياق الحداثة من قبل توماس هوبس وجون لوك يؤكد أنه لم يجد حجة لا في القرآن ولا في السنة لصالح رأي إسلاميًة الخلافة، ولكي يدعم حجته يحيلنا الى كتاب " الخلافة " لـ سير توماس آرنولد، فما كان يرمي اليه هو الدحض النظري لنظام الخلافة من أجل أضفاء الشرعية السياسة على النظام العلماني المطبق عمليا، في ذلك الحي، من قبل مصطفى أتاتورك في تركيا. إنه موقف راديكالي لم يحاول تسويغ آراءه بإيجاد مرادفات مصطلحيًة تؤيدها ولم ينشغل بمســألة التوفيق والمماثلة بين مفاهيم الحداثة السياسية وما يقابلها في الإسلام .

 

د. علي رسول الربيعي

....................

جدعان، فهمي (1998): اسس التقدم عند مفكري الاسلام،عمان، دار الشروق.

خدوري، مجيد (1972): الاتجاهات السياسية في العالم العربي، بيروت، الدار المتحدة للنشر .

شكري، غالي (1978): النهضة والسقوط في الفكر العصري الحديث، بيروت، دار الطليعة.

نصار، ناصيف (1986): تصورات الأمة المعاصرة، دراسة تحليلية لمفاهيم الأمة في الفكر العربي الحديث، ط1، الكويت.

عبد الرازق، علي (1978): الاسلام واصول الحكم، بحث في الخلافة والحكومة في الاسلام، نقل وتعليق ممدوح حقي، بيروت، دار مكتبة الحياة.

 

 

في المثقف اليوم