قضايا

الاستبصار تجربة بين الحرية والأخلاق

مجدي ابراهيملولا الأطماع الكاذبة لما استعبد الأحرار بكل شئ لا خطر له. هذه حقيقة لا شك فيها؛ إذ الطمع كما قيل رق مؤبد، فما بالك فيما لو كان كاذباً، فالحر الذي يستعبده الطمع الكاذب يغله بأغلاله ويقيده بقيوده، وهو من بعدُ لا خطر له، فكأنما يتركه مدحوراً في سراب خادع لأوهام مريضة، طاقته وقعت على لا شئ، وبددت في لا شئ، فالرق يطويها كما يطوي الوهم كل ضعيف مغلول.

لم يكن للمُدْرِكْ لمثل هذا الإدراك سبيلٌ يعَرَفَ به من فوره طريق الحرية؛ إذا لم يكن من قبل قد عَرَفَ ذَاَتَهُ، واستبصر ما فيها من نقاط القوة ونقاط الضعف، وغلّب الأولى على الثانية ضرورة. وطريق الحرية واحد بوحدة "الذات" لا يتغير ولا يتبدل لأنه طريق يحمل قيماً غير القيم المتعارف عليها ظاهرياً، لا بل هو فوق حدود المفاهيم جميعاً، وفوق قيودها وسدودها وحواجزها.

الحرية هنا فوق المفهوم؛ لأن المفهوم قيد وحَدّ، حاجز هو وَسَدُّ، فإذا كانت قيم الحرية تتعدد حسب النظرات الفلسفية إليها، سواء كانت أخلاقية أو سياسية أو ميتافيزيقية، وتتعدد حسب مفاهيم القيم واختلافها وتضاربها أحياناً عند أصحابها، فهى من أجل ذلك قيم وضعيّة لا تعرف الانفتاح ولكنها تنحصر في المفهوم، وتنحسر في التصور، إذْ لو كانت قيم الحرية مأخوذة من طريقها المُفْرَد الواضح، إذْ الإنساني لا يكتمل إلا بالإلهي ولا يتحرّر إلّا به، لكانت تحرُّراً من هوى الإرادة في كل مرغوب فيه، ولصارت تحرُّراً من كل عوائق "الذات" في تفرُّدها، ولأتفق الجميع على تحديد معنى "القيمة" التي تحِدُّ الحرية ولا تدع لمعناها حَدَّاً إلا وربطته بقيم الوجود الروحي الباقي، والموصول بالإلهي، وأدخلت عليه طريقاً يمكن أن يكون مأخذه سهلاً بمقدار ما يكون سبيله أيسر وغايته في التوجُّه سَمْحَاء.

هنالك يعمل الاستبصار عمله الفاعل في ملاقاة الجوانب الوضيئة للحرية الإنسانية المجردة عن عوالق الأهواء، والمتصلة بسبُل المصير الإنساني إن في التوجه ووحدة القصد، وإن في التفرد في السلوك والثبات عليه.

مشكلة الحرية في بلادنا أنها تختلف باختلاف الأفراد الذين يزعمون لأنفسهم أو يظنون عندها قَدْرَاً من التحرُّر، وهى في الحق الذي لا مرْيَة فيه أنها مُكبَّلةٌ بقيود الهوى مقرونة بتحقيق المنفعة الخاصّة بالأشخاص بعيداً عن التَّجَرُّد والنزاهة.

من أجل ذلك؛ فلن تكون هنالك حرية ما لم يكن هاهنا في الأصل تحرُّر عن القيود الجُوَّانيَّة المُكَبَّلة برغائب في النفوس مستشرية على غير ما من شأنه أن يكون متوقعاً ممّا عساه ينحدر في أعماق وعينا بهاته النفوس.

وفقدان الاستبصار بداهة مدعاة إلى الرق والاسترقاق والخضوع المزري لأوهام لا حصر لها من الأشخاص والمجتمعات سواء بسواء. وليس من قيد يَرق المرء ويذله أمضى وأقوى فتكاً من الطمع.

وبما أن الطمع في الشيء دليل على الحبِّ له وفرط الاحتياج إلى نيله، الأمر الذي يدل على عبوديته وعلى الصغار الذي ينطوي عليه صاحبه، فكذلك يكون اليأس من الشيء دليلٌ على فراغ القلب منه وغناه عنه، وفي ذلك حرية منه، فالطامع عبدٌ، واليائس حرُّ، وقد قيل:

العبـدُ حُرٌّ ما قنع            والحـــرُّ عبـــدٌ مــا طمَـــع

فاقنع ولا تطمــع فما       شيء يشين سوى الطمع

فالطمع رقٌّ مؤبَّد كما يقول العارفون. وما بَسَقَتْ أغصان ذُلُّ إلا على بذْر طمع. وملاك الدين هو الورع، وفساده الطمع. وفي الحِكَم العطائية :"أنت حرُّ ممّا أنت عنه آيس، وعبدٌ لما أنت فيه طامع". وقد روىَ عن النبي صلوات الله وسلامه عليه في معنى قوله :"فَلَنُحْيِينَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً" قال : هى القناعة.

وليس هناك من عيب أعظم لآفات النفوس ولا أقدح في عبوديتها من ذلك الطمع الذي هو أصل جميع الآفات؛ لأنه محض تَعَلُّق بالناس، والتجاء إليهم، واعتماد عليهم، ليس هذا فقط بل وعبودية لهم كذلك، يفقَد معه المرء حريته تماماً ويرتد  من فوره عبداً ذليلاً لا يعرف له عزة ولا كرامة ولا مهابة ولا إيماناً ينقذه من ذل الهوان.

وفي هذا من المذلة والمهانة ما لا مزيد عليه، ولا يحلُّ لمؤمن يعرف لعقيدته كرامتها ولدينه عزته ولنفسه عتادها ومهابتها أن يذل نفسه بالطمع الذي هو مضاد لحقيقة الإيمان؛ إذْ الإيمان يقتضي وجود العزة. والعزة التي اتصف بها المؤمنون إنمّا تكون برفع الهمّة إلى مولاهم بطمأنينة قلوبهم إليه وثقتهم به دون سواه :"ولله العزَّة ولرسوله وللمؤمنين".

هذه العزة التي منحها الله عبده المؤمن، أساسها الورع، ملاك الدين. ووسيلتها الاستبصار الباطني والتفتيش في المقاصد. ولم تكن الحرية في لب لبابها إلّا فرعاً يتفرع عن عزة المؤمن بإيمانه واستبصاره بمرقاه صعداً مع هذا الإيمان، ومع الورع الذي هو ملاك الدين.

وكما تكون العزة والحرية والإيمان أموراً هى من صفات المؤمنين، كذلك تكون الذلّة والمهانة والنفاق أموراً هى من أخلاق الكافرين والمنافقين :"إنّ الذّين يُحَادُّونَ اللهَ ورَسُولَهُ أولئك في الأذَلّيِن" (المجادلة : آية 20).

إنّ التقديس الذي نتوخَّاه ليس تقديس النفوس ولا الأشخاص ولا الأهواء ولا المنازع الخاصّة ولا العقائد ولا الآراء ولا آفات النفس الظلمانية بل هو تقديس "القيمة" في مَظَانَّها ومواطنها، إذا ما كانت القيمة علوية ذات مصدر إلهي، وكانت أهدَافُها مستمدةً ممّا هو مقدس لا يُمَسُّ بفعل الهوى أو بفعل النزوع الذاتي المعبَّأ بالآفات الشخصية والأوهام الذاتية الأنانية، وكل ثورة على "المقدس"، ذي المصدر الإلهي باسم الحرية إنْ هى إلا عبودية للنفس غارقة في الاستعباد فيما لا عساه تدرك، رقٌّ مؤبّدٌ وعبودية للنفس بكل ما في النفس من آفات وأمراض وكفران وأوهام تعيش فيها وتتمثلها حتى الرمق الأخير؛ إنْ هى إلا عَمَايَة، أو ضرب من ضروب الظلمة، ليس يسعى المرء إلى الخلاص منها، وهو مقيد وأسير.

كل ثورة على الوحي النزيه الحُر المقدس ما هى إلا خدمة للهوى الفتاك وضلال يقود إلى الضلال! إنّ فهم المقدس والاجتهاد في الترقي إليه، ومحاولة تأويله واستخراج مراميه ودلالاته، وإبراز أفقه الواسع الرحيب شيء، ثم التحرر منه وإقحام العقل المحدود لنقده -  ونقد المقدس لا يستثنى منه عمل العقل! - شيء آخر.

كل محاولات التّحَرُّر من قداسة المقدس ذي المصدر الإلهي والتي تتم بواسطة بعض العقول المعزولة عن ملابسة جوهر الإيمان وحقيقته الباطنة إنْ هى إلا محاولات باغية من نفوس ظلمانية وَقَرَ فيها الضلال حتى منتهاه. وَبَغْيُ الناس للناس بغير الحق مردودٌ على الناس أنفسهم، إنما هو بَغْيٌ بغير الحق على أنفسهم :" يَأيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلىَ أنفُسِكُم، مَتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنيَا، ثُمَّ إلينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " (يونس: آية 23).

تلك المحاولات التي يتخذها البعض موجة عصرية يركبونها كيما يشتهرون بين ضعاف القلوب والعقول ليشار إليهم بالبنان، إنما هى محاولات تعيش في ظلال العبودية للنفس لا العبودية لله، وعبودية النفس عبث فكري فوق كونه اعوجاجاً باطنياً لا يَنمُّ إلا عن قصور في الرؤية وخواء في التفكير والتقدير، مَا إنْ تقرأها وتصبر على قرأتها حتى تشعر من فورك بالقذارة الفكرية.

إنها لأمراض نفسية باطنة لا تزول إلا بزوال أصحابها، إذْ ليس لها علاج؛ لأن صاحبها ليس بجاهل حتى يَعْلم، ولكنه ضال ومنحرف، وغارق إلى أبعد الحدود في الضلالة والانحراف.

لا ريب كانت محاولات تعيش في ظلال العبودية للنفس أو للعقل لا العبودية لله وهى، من ثمَّ، ظلال لها من الأبعاد الذاتية التي تخدم المآرب الشخصية الخاصّة الباغية ما من شأنه أن يمنع تحقيق الحرية.

وعليه؛ فالحرية الحقيقية لا تعني ممارسة الأهواء والخزعبلات الشخصية ولا القدرة على تنفيذ ما يستطيعه الفرد بغير رقابة داخلية من عصمة الضمير المبْطُون في أعماقه الجُوَّانيَّة، أو حتى رقابة خارجية، والرقابة الخارجية ليست شيئاً على الإطلاق بغير معونة وإمداد الرقابة الداخلية : رقابة الضمير الحي اليقظ ورقابة الفاعلية الروحية.

إنما الحرية الحقيقية تعني معرفة الذات، ودوام البحث عن الذات، والقدرة على امتلاك الذات، والتحرر من عبادة الأصنام والأوثان التي نعبد فيها صباح مساء، وكشف أسرار البذرة الإنسانية : السّرِّ الإلهي العجيب في الجوهر الإنساني ثم التّحَرُّر من كل شيء يعوقه ويقف حجر عثرة في طريقه.

وموالاة هذا السّر، والعمل على اكتشافه، وشهوده في الإنسان، هى مهمة الاستبصار الصوفي، ومهمة كل من يواليه في الإسلام ويقتدر عليه. والاستبصار تجربة بين الحرية والأخلاق. وهو الرابط الوطيد بين هاتين القيمتين في عالم الفكر وفي عالم التطبيق، فلا تكون حرية ما لم تمارس ولا تكون معرفة مالم تطبق ولا تكون فكرة ما لم يجريها التحقيق.

وبهذا تتم الحرية، إذْ يَتم معرفة الوجود الإنساني، ويمكن أن يجيء معه حكم الممارسة حكماً صادقاً وفعالاً ليس يشك فيه مجرب بوجه من الوجوه؛ لأن الحرية تجربة وممارسة قبل أن تكون إطاراً نظرياً وكفى.

الإطار النظري بعيدٌ عن التحقيق والمعايشة والحياة لا يشكل من الحرية شيئاً ذا بال، ولا يحقق في الضمير عصمة ولا شعوراً بالتبعة، قد يجيءُ الإطار النظري معرفة سطحية معزولة عن الوجود، ولكن هذا كله على صعيد النظر الذي يخلو من الفاعلية والتطبيق سهل المأخذ قريب المورد تتناوله الإرادة العالمة وكفى، ولكنه يظل بمعزل عن التجريب، ويبقى السؤال قائماً : أين هى الأمانة التي تتوافر في الفرد القادر على حفظ الأمانة بعد تحملها لممارسة فعل الحرية؟!

إنما الحرية تبعة مسئولة تحتاج لفعل الأمانة - كيما تصبح قيمة باقية نافعة ومؤثرة - لتنزيلها من أعلى إلى أسفل، أعني من التجريد النظري وعالم المفاهيم إلى دنيا الواقع الممارس بالتجربة التي تُشَكّله ناهيك عن تنظيرها وتقديرها في مجال الفكر أولاً ثم مجال العمل الواسع والحياة المعاشة ثانياً فهلا كانت هذه الأمانة، وأين هى؟

تكمن الأمانة في الإرادة التي تحقق تلك التبعة المسئولة، وممارستها على صعيد النشاط العام، وتتمثل في الأخلاق، وتنشَّط بالتربية على "الفعل"، وبالتدريب والتهذيب والتقويم، وبامتلاك عادات الإرادة (التَّعَوِّد، والمران، والدُّرْبَة، والتكرار).

من الممكن - لا من المستحيل - أن تجيء الأخلاق مشروطة بالحياة؛ فنحن نقول على الدوام الحياة الأخلاقية ولا نعني بها إلا أن تكون الأخلاق لب لباب الحياة عندنا. أمَا وَقَدْ فَارَقَتْ حياتنا في أخص خواص الإدراك فيها مثل هذه الصفة الأخلاقية، فقد نقع عند ذلك في محظور الوعي ومحظور الفكر والعمل؛ إذْ تَسْقُط كل القيم والدلالات المؤكدة للفعل الحيوي؛ لتصبح الحياة غير جديرة بمعناها، إذا نحن حذفنا منها الجانب الأخلاقي المسئول الكامن في جوهرها : جوهر الأحياء. ولولا وجود هذا الجانب في جوهر الأحياء من الآدميين، ولولا الطرْقُ الدائم على فعاليته التهذيبية في العمل والسلوك، وفي أنماط الإدراك الإنساني على وجه العموم لسقطت منَّا قيم الحياة مجتمعة، إذْ ما قيمة الحياة إذا هى خَلَتْ في الجوهر من الأخلاق؟

ما قيمتها إذا انفعلت فينا جوانبها جميعاً غير جانب واحد منها هو الجانب الأخلاقي؟ ما قيمة الحياة إذا فرضنا أن القوانين التي تحكمها ليست تخضع في الجملة فضلاً عن التفصيل لروابط خُلقية؟

الحياة بغير أخلاق لا قيمة لها؛ لأن الأخلاق في أبسط معانيها قرابة إلى سلوك الأحياء هى أنها لابد أن تمارس في بطن الحياة واقعاً معاشاً وفعلاً يقبل الممارسة والتسليك، وليست هى بالفكرة النظرية يُفَارقها السلوك ويغادرها العمل ثم تلوكها الألسنة، من بَعْدُ، توصيفاً وتنظيراً. وما كان الطابع التنظيري أبداً إلا بمثابة الإطار الخارجي للفكرة الخلقية : الغطاء البَرَّانيِّ والشكل الظاهري الذي يحمله التصور الإنساني المحيط بالأفكار والأقوال حول ما ظهر من العمل فكان مدعاة للتنظير أو ما نقص منه فكان مدعاة للتقويم، لكأنما التنظير أطار خارجي لنواقص العمل ولتوافر العملية النقدية في الناحية النظرية إذا هى لم تسدد في الناحية التطبيقية، إذْ التطبيق أحياناً لا يدع الفرصة سانحة دوماً إلى العلاج : علاج القصور الناشئ في الحركة التهذيبية؛ فينتقل قصور العمل إلى تفكير النظر ليحيطه بالسداد والاكتمال بعد أن كان أصل الحركة التهذيبية فكراً خالصاً وعلماً دائماً، لكن هذا الفكر النظري الخالص أو هذا العلم السطحي الدائم لا وجود له حقيقةً في الواقع الفعلي ما لم يخضع لاستمرارية التهذيب والتطبيق، حينذاك يكشف عن وجوه القوة فيه ووجوه النقص الذي يعتريه.

فشأن الأخلاق كشأن التجربة الصوفية : أولها فكرة نظريّة. وثانيها: تطبيق وممارسة. وثالثها : حركة فكرية لما كان طُبق بالفعل. فالتطبيق الذي هو بالاصطلاح الفني للقوم يُدْعَي "التسليك" وسط بين محورين. أولهما : الفكر الداعي للحركة الفعلية؛ وهذا محور النظر قبل العمل. وثانيهما : الفكر التنظيري الذي يتمخض عن التجربة العملية، وهذا محور النظر بعد العمل، وهو بالطبع يختلف عن المحور الأول؛ لأنه يشرح التجربة ولا يكادُ يكون ممدود العلاقة بمحور التنظير الذي يأتي قبل العمل.

هكذا تكون التجربة الفاعلة هى المحركة لعبارات القوم إنْ على مستوى التذوق وإنْ على مستوى المقول.

ومن فيض التجربة تجيء العبارة - ناهيك عن الإشارة - وَيُفْهَم من ثمّ مدلول الخطاب.

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم