قضايا

مفهوم العدو في حروب الجيل الثالث والرابع (2)

محمود محمد عليناقشنا في مقالنا السابق فكرة صناعة العدو في حروب الجيل الثالث، ونستكمل المسيرة هنا في الجزء الثاني في هذا المقال مفهوم العدو في حروب الجيل الرابع؛ حيث يمكن القول بأنه في عام  1989 أخذت الإدارة الأمريكية في التخلي الاستراتيجي عن مفهوم "الحرب على الإرهاب"، وتستخدم بدلاً منه "الإرهاب الداخلي" وتقصره علي فكرة " الدكتاتور ونظام العنف"، والدكتاتورية هي أحد أشكال أنظمة الحكم، التي شغلت حيزاً هاماً من نشاط السلطة السياسية الحاكمة في العصر الحديث شملت بلداناً مختلفة، ولا زالت أحد الخيارات المفروضة في بعض الدول النامية، بوجه خاص، مستمدة شرعيتها الواقعية من معاناتها وأزماتها الاجتماعية والسياسية، وقد وجدت جذورها التاريخية في النظام الروماني القديم.. فهي مصطلح سياسي، يوصف به نظام الحكم، الذي تتركز فيه السلطة بيد حاكم فرد، يتولى السلطة عن غير طريق الوراثة، وبطريق القوة، أو يتولاها بطريق ديمقراطي يفضي فيما بعد إلى تركيز السلطة بيده. يمارسها بحسب مشيئته، ويهيمن بسطوته على السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويُملي إرادته على القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من دون أن يكون هناك مراقبة حقيقية على أداء نظامه أو معارضة سياسية في المجتمع .

والسلطة في النظام الدكتاتوري، تستند إلى الأمر الواقع أكثر مما تستند إلى النصوص وفي حال وجود النصوص، فإنها تطبق بروح غير تلك التي أملتها، وقد لا نرى الطريق على التطبيق. وكما تعددت الأنظمة الديمقراطية، فقد تعددت الأنظمة الدكتاتورية. فمنها دكتاتوريات أيديولوجية، أو عسكرية، ومنها ما يستند إلى حزب واحد، وبعضها ذو توجيهات محافظة رجعية، وأخرى تقدمية ثورية. وقد يمارس السلطة الدكتاتورية فرد أو هيئة، غير أن السمة الرئيسة التي تميزها هو جوهرها الاستبدادي .

وعلى الرغم من تعدد واختلاف الأنظمة الدكتاتورية، من حيث الوسائل والأهداف، إلا أن هناك خصائص مشتركة تميزها من غيرها، وهي أن معظم الدكتاتوريات حين تستولي على السلطة بالقوة والعنف إلى تغيير أسس النظام الذي انقلبت عليه، وهذا يقتضي تغييراً دستورياً ينعكس في شكل النظام السياسي، وتبديلاً في التوجيهات السياسية والاقتصادية. كما تلجأ الأنظمة الدكتاتورية، حين تستولي على السلطة، بالقوة وبغير الطرق الدستورية، ولاسيما عن طريق الانقلاب العسكري، إلى الإعلان عن أن إجراءاتها المتعلقة بتعطيل الدستور أو تغييره، وحجب الحريات الفردية والعامة، تمثل مرحلة مؤقتة للعبور إلى مرحلة قادمة، أكثر استقراراً ورغداً وحرية. وأن هذه المرحلة المؤقتة مرهونة بأوضاع استثنائية تمر بها البلاد .

علاوة علي أن الدكتاتورية تمثل نظاماً شمولياً كلياً؛ بمعني أن سلطة الدولة تمتد إلى كل نواحي نشاط أو حياة الفرد في المجتمع، فلا شيء يتعلق بالفرد، سواء حرياته أو حقوقه أو معتقداته. ينبغي أن يمارس بعيداً عن سلطة الدولة التي تمثل المجتمع، فالدولة كلٌ كتلةٌ لا تقبل فصل السلطات. فهي سلطة مطلقة كلية سياسية، فليس في الدكتاتورية رأي خارج فكر الدولة، ولا حق فردي يعلو على الدولة وتعد الحريات بمثابة منحة منها للأفراد تقررت من أجل الصالح العام .

ومن  هنا  فإنه في ضوء حروب الجيل الرابع، فإن  صناعة العدو تتمثل في فكرة "الدكتاتورية"، حيث يمكن وصف الدول المارقة أو دول محور الشر كما وصفت ذلك الإدارة الأمريكية كلاً من إيران وكوريا الشمالية، بأنها دول دكتاتورية ذات أنظمة شمولية وبوليسية، وبالتالي يجب إسقاط تلك الدول التي لا تراعي المصالح الأمريكي، ولكن إسقاطها يكون من خلال شعوبها، حيث تكون هذه الشعوب هي التي بإمكانها إسقاط هذا النظام، وذلك لا يتم إلا من التدريب علي حروب اللاعنف .

وهنا نتساءل : ما الشروط الواجب توافرها في الدولة المستهدفة لكي ينفذ عليها حروب الجيل الرابع؟

يري المنظرون لحروب الجيل الرابع أنه لإسقاط أي نظام، لا بد من أن تقوم بعض منظمات المجتمع المدني الممولة من الخارج، ومعها سلسلة من الطابور الخامس ليلاً ونهاراً، عن طريق الإعلام الممول التصدير للشعب الموجود في الدولة المستهدفة، بإبراز فكرة أن هذا النظام  دكتاتوري، وفكرة الدكتاتورية هنا هي نوع من صناعة الوهم الذي يمكن استشفافها من واقع الفساد الذي كانت تعيشه الدولة المستهدفة ، وهذا الواقع لا تخلو منه أي دولة (مثل: انتشار الفساد المالي، والإداري، والرشوة على نطاق واسع- انتشار الغلاء وزيادة الأسعار- الاستيلاء على أراضي الدولة- ازدياد معدلات البطالة في وسط الشباب- وجود أزمات في المواصلات والعلاج والتعليم- سوء الأوضاع المعيشية بشكل عام- زيادة معدلات الفقر وشيوع مظاهره- الاضطهاد والاستبعاد وعدم احترام حقوق الإنسان- هيمنة رجال السلطة على المناصب السياسية والإدارية العليا في الدولة- غياب الديمقراطية وعدم السماح بتكوين نقابات وأحزاب سياسية- تزوير الانتخابات بجميع مستوياتها وأشكالها- غياب الدور الرقابي للمؤسسات المعنية وإخضاعها للسلطة التنفيذية - ازدياد وتيرة الاعتقالات التعسفية والخطف والتغيب القسري- التنكيل بالمعارضين وتعذيبهم بمختلف وسائل التعذيب حتى الموت أو حرمانهم من أبسط حقوقهم- تغييب الحلول الأمنية على الحلول السياسية في معالجة المشاكل والأزمات  السياسية .. وهلم جرا .

وبالتالي يمكن تبعا لذلك تســليط الضــوء علــى فســاد المســؤولين فــي دائـرة السـلطة، أو ما يطلق عليه الفساد الرئاسي، ويعد هذا الفساد (في نظر المنظرين لحروب الجيل الرابع) هو الذي يجب التركيز عليه، فهو يمثل الصورة الواجب دراستها بعمق والتركيز عليها من بين صور الفساد السياسي الأخرى، حيث تشكل المرتكز الأساس لفساد المستويات الدنيا منها، ويشمل هذا النوع من الفساد ذروة الهرم السياسي، إذ ينصرف إلى فساد الرؤساء والحكام مستغلين سلطاتهم لتحقيق منافع شخصية بطرق غير مشروعة، وهذا النمط من الفساد من أخطر صور الفساد. وترجع خطورته إلى ارتباطه بقمة الهرم السياسي في كثير من أشكال النظم السياسية لانتفاع من يتولى القمة بالخروج عن حكم القانون بالمكاسب الشخصية التي تجني الثروات الطائلة، لذلك يوصف استشراء هذا النمط بأنه "فساد القمة المكثف" corruption heavy-Top حيث يجري العمل على أساس آلية تعرف بإطار "الرئيس-العملاء tiers Client-Patron " التي تتعامل القمة من خلاله لجني ريع فالعديد من قيادات الدول النامية تولت الحكم وهي شبه معدمة ولكنها عقب سنوات من ممارسة السلطة - ونتيجة لاستخدام السلطة في تحقيق الصالح الخاص- أضحت تملك ثروات هائلة، ومن الملاحظ أن تلك القيادات الفاسدة عادة ما تقوم بتحويل جزء كبير من الثروات إلى البنوك الغربية، حيث يتم الاحتفاظ بها في حسابات سرية تكفل لهذه القيادات الاستمرار في الحياة الرغدة التي اعتادتها إذا ما أطاح بها انقلاب عسكري أو ثورة شعبية .

وإذا ما تم الكشف عن حقيقة ذلك، يمكن بالتالي (في نظر المنظرين لحروب الجيل الرابع) دعوة الجماهيـر عـن طريـق قنـوات إعلامية وكـوادر إعلامية شبابية، تم إعدادها في مراكز أعدت لهـذا الغـرض، مثـل "فريـدم هـاوس وغيرها، بالإضافة إلـى إعـداد كـوادر سياسـية عاشـت لسـنوات فـي حضـن الولايات المتحدة،وســبق أن ســاهمت فــي التآمــر علــى الدولة التي احتضنتها وتربت فيها، وهؤلاء انطلقوا في تحقيق ذلك من خلال فكرة مظلومية الشعب وحقه في العيش بكرامة ليصلوا به إلى نتيجة "عبقرية" وهـي أن المشـكلة الرئيسـية للدولة المستهدفة تكمـن فـي الفسـاد والاستبداد وغيـاب الديمقراطيـة أساسـا، وليـس الاحتلال والتبعيـة .

ومن هنا يمكن قطع حلقـة الوصـل بيـن حالـة التخلـف والفسـاد التـي تعيشها الدولة المستهدفة، والدور الذي تسعي من خلاله الولايات المتحدة فـي تجذيـر وتأبيـد واقـع الفسـاد في الدولة المستهدفة، ولأجل ذلك حاولت الولايات المتحدة فـي المعركـة استخدام قنـوات إعلامية، تم الأنفـاق عليهـا بسـخاء، ورجـال ديـن، ووعـاظ، وجيـوش مـن المحلليـن السياسـيين المرتزقـة الذيـن يُطلـون علينـا صبـاح مسـاء مـن شاشـات التلفـاز .

كل هـذه الأدوات التي تصورها منظرو حروب الجيل الرابع، كان الهدف منها هو توصـل الصـورة التاليـة إلـى أذهـان الشعوب في الدولة المستهدفة وإقناعهـم بهـا، وهـي أن المشـكلة الحقيقية هـي مشـكلة ديمقراطيـة، وأن محاربـة الاستبداد أولـى مـن محاربـة الاحتلال، فبـدل أن يتـم تثويـر الشـارع علـى إسرائيل وأمريكا، لا بد من أن يثورونه علـى أنفسـهم وعلـى قـوى المقاومـة ( تبعا لاستراتيجية حروب الجيل الرابع)، وبالتالي يمكن بث دعوات تبرز أن الفتنـة الطائفيـة مـن الصهيونيـة حرام وحركات  المقاومـة كافـرة، وحـزب الله حـزب "رافضـي" كافـر، وحـزب البعـث حـزب كافـر، والنظـام المقـاوم فـي سـورية نظـام شـيعي "نصيـري"، بينمـا اليهـود هـم أهـل كتـاب وأمريـكا أقـرب إلينـا مـن روسـيا الشـيوعية الملحـدة.. وأصبـح التقييـم لا يقـوم علـى أسـاس الموقـف مـن الاحتلال والصهيونيـة، بـل علـى أسـس طائفيـة، فيعبـر "الثائـر" مـن أرض فلسـطين مـن دون أن يطلـق رصاصـة واحـدة علـى الصهاينـة ليقاتـل إخوانـه المقاوميـن فـي سـوريا، لا بـل ويتـداوى فـي مشـافي الصهاينـة فـي صفـد وغيرهـا كمـا هـو حـال جبهـة النصـرة .

ولتنفيذ هذا المخطط قررت الإدارة الأمريكية اعتماد تكتيكات حروب اللاعنف؛ وهذه التكتيكات صممها 'جين شارب' الشهير 'بميكافيللي اللاعنف، وهو مهندس تصميم سلاح العصيان المدني، وصاحب مؤلفات عديدة من ذخائر حروب الجيل الرابع، أهمها علي الإطلاق، ذلك السلاح الفتاك المسموح به دولياً 'كتاب "من الديكتاتورية إلي الديمقراطية'، حيث يقدم فيه تحليلاً سياسياً عملياً عن الحراك السلمي كوسيلة لممارسة القوة في فترات النزاع. ومن أهم الأفكار التي يطرحها شارب هو أن السلطة ليست أحادية ثابتة، أي أنها ليست أمراً لا يمكن انتزاعه من أصحاب السلطة، ولكنه يرى أن السلطة السياسية، أي سلطة الدولة، بغض النظر عن طبيعة تنظيمها، هي نابعة في المقام الأول من المواطنين فيها. وهو يرى أن أي قاعدة للسلطة إنما هي قائمة على طاعة المواطنين لأوامر الحاكم أو الساسة، فإن امتنع المواطنون عن الطاعة، ففي هذه الحالة يفقد الحاكم سلطته .

وهذا الكتاب وصفه البعض بأنه كتاب دخل التاريخ الإنساني من بابه الواسع لعلاقته بالعمل الثوري السلمي ونظرية التغيير السلمي للأنظمة الدكتاتورية، فهو يضاهي كتاب "الأمير" لميكافيلي، أو "صراع الحضارات" لهنتجتون، أو "نهاية التاريخ" لفوكاياما، حيث يمثل دليل عمل الثورات التي شهدها العالم منذ أن صدر لأول مرة في أكتوبر 1993 ؛ حيث تم تطبيقه بحذافيره في الثورات الملونة في أوربا الشرقية وثورات الربيع العربي، ولعل هذا ما جعل ألقاباً كثيرة تُطلق علي هذا الكتاب منها " صندوق معلومات المتظاهر"، و" مرشد الثورات الملونة"، و"خطوات إسقاط الأنظمة"، و" خطة المخابرات الأمريكية لإعادة رسم خرائط السلطة السياسية في العالم" وألقاب أخري كثيرة .

ومن جهة أخري يؤكد هذا الكتاب علي فرضية خطيرة، وهو أن حرب اللاعنف، هو التكنيك الجديد للغزو بلا تدخل عسكري، حيث يتم الضغط على الدولة من الداخل، عن طريق الطابور الخامس، بإضعاف أجهزة الدولة، واختراقها، وإحراقها، وإضعاف النظام في الدولة عن طريق الإضراب، ولزوم المنازل، ورفض التعامل مع مؤسسات الدولة، لإسقاط الدولة في الفوضى والديون، وبالتالي تدميرها بدون تدخل خارجي .

ويعد العصيان المدني آخر الحلول التي يضعها جين شارب في حرب اللاعنف والكفاح السلمي، فإذا فشل هذا الحل لإسقاط الدولة يتم الكفاح المسلح والنضال الغير سلمي ضد الدولة من الداخل عن طريق الطابور الخامس وميليشيات تلك المنظمات، تمهيداً لإضعاف الدولة والتدخل العسكري الحربي .

لقد تأثر شارب” بحركة الزعيم الهندى “المهاتما غاندى” اللاعنفية،وبأطروحات داعية السلام الأمريكى “ديفيد ثورو 1817-1882”، والزعيم الأمريكي الأسود “مارتن لوثر كنج”، وملخص نظرية شارب أنه يمكن نزع السلطة عن الحاكم إذا توافق المواطنون على عدم طاعته، فأى سلطة تستمد تواجدها من موافقة المواطن على حكمها له، وذلك بأن يطيع أوامرها، فإذا تخلى المواطنون عن طاعة هذه السلطة تفقد شرعيتها وتسقط .

 

د. محمود محمد علي

مركز دراسات المستقل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم