قضايا

التشريح النفسي لمعلقة إمرؤ القيس!! (1)

صادق السامرائيهذه قراءة نفسية سلوكية لمعلقة إمرؤ القيس التي مضى عليها خمسة عشر قرنا من الزمان أو يزيد. وقد صور فيها ملامح مهمة من دوافعنا السلوكية التي لازالت تتحرك في عالمنا المعاصر.

وقد عبر عن إبداع شعري وفكري متميز حينما ضغط الأفكار الأساسية في ملحمة الفواجع العربية في صدر البيت الأول .

لقد جعل خماسية الوجع العربي مركزة وخلاصتها

قفا  نبكي   من ذكرى   حبيب   ومنزل

أولا: الوقوف

العربي يتوقف ليوم، لشهر، لعام، لعقد أو لقرن وربما لعدة قرون، واجما جامدا مذهولا لا يحرك ساكنا ولا يأبه لواقعه.

وإنما يعيش في عالم بعيد يتهادى أمامه بفنتازيا عالية، فيرضعه من خيالاته وتصوراته وكل طاقات تعويض عجزه وانكماشه وغيابيته عن عالم الحياة.

التوقف صفة واضحة وفاعلة في سلوكنا، وهذا التوقف يدفع إلى الإجترار وإستجلاب الأفكار السلبية، لأن الشخص في زمن التوقف يكون أهلا لها وأكبر مستثمر لمشاريعها، ويبتعد عن الأفكار الإيجابية وينكرها ويشوهها ويمنحها الكثير من مفردات التداعي واليأس، ويقسو عليها ويمعن في إيلامها وإلغائها من ذاكرته الحضارية ووعيه المعاصر، فيركن إلى كهوف العدمية والبؤس والحرمان.

ثانيا: البكاء

نحن نستلطف البكاء ونكره الفرح، وفي حالة توقفنا تتراكم عندنا كل أسباب البكاء والعويل والنواح والكثير من الممارسات البكائية المؤلمة، التي نتلذذ بها ونأنس لآلامها وتأثيراتها الموجعة في نفوسنا ومحيطنا الذي نتوقف فيه كالأصنام.

ومن ينظر إلى حالة وجودنا اليومية في القرن العشرين، يكتشف عظيم بكائنا ونواحنا الذي شمل كل جوانب حياتنا.

فأغانينا بكائيات وتوجعات، وسياساتنا تفاعلات تراجيدية مأساوية قاسية تزيد في توفير عوامل البكاء والنواح والتأسي واليأس.

وكتاباتنا هي نتاجات لعالمنا الباكي الحزين وجرحنا الدفين، فما أكثر الكلمات الحزينة الباكية في مفردات تعاملاتنا اليومية وعلى شتى مستويات الحياة.

إنها تفاعلات إستنقاعية راكدة لا تعرف الحركة، وتجيد ذرف الدموع واللطم على الخدود والصدور والرؤوس، والإمعان في إيلام الذات والقسوة عليها لكي تبقى تستلطف البكاء، وتجعله ممارسة لذيذة تعبر فيها عن أوجاعها وموتها الروحي والفكري والإنساني وحتى الأخلاقي.

ثالثا: الذكرى

التوقف والبكاء والتذكر، ثلاثية مفزعة متفاعلة في أعماقنا، فالبكاء لا بد له أن يكون مقرونا بذكرى قاسية وبوجع أليم يتسبب في ديمومته.

والوقوف عند الأطلال، إن كانت شواهدا قائمة أم أحداثا حاصلة، يكون مشحونا بقوة عاطفية هائلة وإرتباط لا يمكن للعقل أن يفسره، لأنه إنتماء موجع وفجائعي الدرجة. إن الإلتصاق بالذكرى يعوّق إمكانية الحوار أو النقاش أو التفنيد.

نحن نلتصق بالصورة التي تخلقت في ذاكرتنا ونمنحها مالا يمت بصلة إليها من الصفات والمعاني والمفردات، التي نجيد إبداعها ولصقها بالشيئ المخزون في ذاكرتنا، فتتحول الذكرى إلى وقفة مأساوية وفاجعة عظمى تستحق إلغاء حياتنا وتوقفنا عن الحركة، وبكائنا وإيلامنا لأنفسنا بإمعان وقسوة، لكي نستخرج أقياح الذكرى من كل خلية في جسدنا الساكن الكسول.

ووفقا لهذا فإننا نلغي أي نشاط فكري وإبداعي يرتبط بالحاضر ونركزه على نقطة الذكرى وموقعها، وما دار ويدور لتلميعها وتحويلها إلى نشاط يومي وفعل درامي يؤسس لمسيرة حياتنا الجامدة المرتعشة حد الموت.

وهكذا ترانا نتخندق في الماضي ونمعن في حفر خنادق إنكماشنا فيه، ونتأمله بعيون دامعة وأدمغة ساخنة بالعواطف والإنفعالات، التي لا تترك منفذا للتعقل والإدراك الواعي الصحيح.

وبهذا نكون قد إستثمرنا الذكريات وتمادينا في تطويرها لتكون حاضرة حية في عالمنا المعاصر. ومضينا وكأننا لا نعرف الحاضر، فهو غريب عنا وما علينا إلا أن نغوص في سباتنا الحضاري وتذكرنا لما فات، ولا شيئ نستطيع فعله إلا إبداع البكائيات وجلد النفس والروح، وإلغاء أية قدرة للعقل على القول والفعل.

وهنا تكمن مصيبة أجيال الأمة التي ربما ستتواصل في القرن الحادي والعشرين ويا ويلاه.

رابعا: الإرتباط العاطفي

نحن نرتبط عاطفيا بما نتذكر والحبيب هو الرمز لذلك الإنتماء العاطفي الجياش بما نتذكره ونحنّ إليه ونملي عليه من صفات. وفي أغلب الأحيان يتحول المتذَكَر في أعماق لا وعينا إلى إله، لأننا نصبغ عليه الكثير من المميزات اللابشرية، ونخرجه من إطار الواقع وندفع به إلى عالم كوني وإلهي بعيد المنال.

فمثلما تتحول الأصنام إلى آلهة، كذلك ما نتذكره يكون إلها في أعماقنا اللاواعية، ويؤثر على سلوكنا وفعلنا اليومي وتفاعلاتنا مع بعضنا.

فلكل منا إله في أعماق وعيه قد صنعه من أمهات خيالاته وتصوراته بإضفائه ما لا يمكن أن يتصوره بشرٌ على ذلك "المتذكَر"

أي أن الذكرى في أعماق لا وعينا تتحول إلى طاقة فائقة ذات إمدادات كونية تستحق منا كل الألم والإذعان والانتماء المطلق إليها، والانقياد إلى ما نتصوره عنها من الصفات الإلهية الشمولية المطلقة.

فالذكرى في أعماقنا ليست ذكرى واقعية، وإنما هي ذكرى وهمية ومتخيلة، لها أساس لكنها قد تشوهت وتطورت وتنامت حتى غدت شيئا لا أساس له في وعينا الانفعالي الجياش، الذي لا يعرف للعقل مكانا وصوتا، ولا يمكنك أن تمس هذه الذكرى المقدسة وهذا الإله الكامن في الأعماق.

فنحن لا نتذكر مثل باقي البشر، وإنما ننفعل ونتفاعل مع ما نتذكره ونضفي على "المتذكَر" الكثير من الصفات البعيدة عنه، ونسعى إلى تأليه الذكرى والإنتماء العاطفي إليها بقوة وشدة لا يصدقان.

ووفقا لهذا التفاعل العاطفي المنفعل مع ما نتذكره يكون الماضي عندنا حالة مقدسة. فالأب بعد وفاته يكون مقدسا والشيئ بعد فقده يكون عزيزا ومعبرا عن حياتنا ومحورا لها فلا قيمة لشيئ عندنا ما دمنا قد فقدنا ذلك الشيئ.

أي أننا نحقن المفقود والضائع والماضي بالعاطفة والمثالية والألوهية وتكون طاقاتنا للبحث عن المفقود والمتذكر قد تفوقت على طاقاتنا في السعي للبناء والتطور في الحياة.

أي أن لدينا عزم وإرادة شد إلى الوراء أقوى من عزمنا وإرادتنا في التحرك إلى أمام.

وهذا مبعث الإستنفاع الحضاري والتخندق في ذات المكان والزمان، وعدم القدرة على الحياة في عصر مشحون بالتطورات والإبداعات الفكرية على شتى المستويات.

خامسا: المكان

بعد التوقف والذكرى والبكاء والإنفعال المرتبط بها يأتي المكان، ليكون موضعا جامعا لتلك المميزات الأربعة.

فالمكان الذي تتحقق فيه الذكرى ويرتبط به الشيء المتذكَر، لا بد له أن يكون مقدسا ومنزها ومؤلها، لكي يبرر التفاعل معه بالأسلوب الفجائعي المؤلم الذي يسترخص الأرواح.

فالمكان يكون أكثر قدسية من البشر الذي يتفاعل معه بسبب ما إمتلكه من المعاني والقدسية والتبجيل.

فالطلل المكاني هو ليس طللا في منظور من يتذكر، وإنما هو حالة أخرى، إنه حافز ليقظة ما في أعماقه اللاواعية من تصورات وتخيلات عن ذلك الحبيب، وكيف كان يسعى في المكان المتصور، وكيف كان يقول وما هو شكله وكل حركاته، التي تتحول إلى ملحمة رومانتيكية يستحيل إستخراجها من أعماق الخيال، بل يتم البناء عليها وفقا لطاقات العقل الجمعي المتفاعل مع ذلك المكان أو الطلل الذي يقف أمامه هذا البشر، فالطلل يتحول إلى عالم مقدس مليء بمعاني المطلق والإبتعاد عن حالة الواقع المعاش.

هذا الوجود السرابي للأشياء هو الذي يجعل العربي يتصور السراب ماءا في الصحراء الكالحة فيسقي ظمأ لاوعيه ويحقق إستمراريته.

أي أن الخداعات الفكرية من المؤثرات اللازمة لتحقيق الإستمرارية والحياة وتأكيد الإحساس بهما.

وبدون هذه الخداعات يكون الواقع القائم جحيما ومعركة من الصراعات والتفاعلات الدامية، التي لا تبقي شيئا صالحا للحياة من حوله.

إن إلغاء المكان بمفرداته الواقعية الملموسة وإضفاء القدسية عليه، وتحقيق قدر عالي من الإنتماء العاطفي القوي نحوه، يجعل الفرد البشري لا يرى ذلك المكان أبدا ولا يبصره إطلاقا، وإنما كل الذي يكون شاخصا أمامه هو ما هو قائم فعلا في دنيا أعماقه اللاواعية، وأنه يُفرغ ما فيه على المكان ويتوهم بأنه قد تلمس ما فيه.

فهكذا هو قد إلتقى بالمكان الذي إرتبط به عاطفيا وعاش حالة التذكر المشوهة المقدسة المؤلهة، وذرف دمعا على أضرحة تصوراته وخيالاته، وحقق إرضاءا لحاجاته العاطفية المسكونة بهاجس المكان أيا كان معناه وموضعه وشأنه.

ومن هنا فان امرؤ القيس قد جمع خماسية الدمار العربي في صدر بيته العتيد الذي افتتح به معلقته الرائعة الخالدة، وهو يلخص الأسباب الجوهرية لمعاناة أمة على مدى العصور!!

إن ديناميكية التفاعل ما بين هذه المرتكزات تؤسس لسلوكياتنا التي نحصد نتائجها في كل عصر وجيل، فالأجيال التي تحاول أن تعبر عن نفسها في مسيرة الحياة تسقط في قيد خماسية الفواجع المدمرة، التي تحولها إلى وجود مشلول وطاقات متوقفة موؤدة إلى الأبد.

إن أي جيل يريد أن يقدم شيئا ويتحرر من القيود الثقيلة ويتعامل مع الواقع القائم يسقط في وادي "قفا نبكي" فلا يقدم شيئا نوعيا كالجيل الذي سبقه.

ويمكننا التعمق والإمعان الفكري والبحثي في هذه الآليات الخمسة وتفسير الكثير من سلوكياتنا النهضوية والتقدمية من خلال منظارها الشمولي الثابت.

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم