قضايا

قراءة نفسية للقرن الثالث عشر!!

صادق السامرائيهذا قرن شديد ومدوي في أعماق القرون والأجيال العربية، وهو مغفول تأريخيا وغير مدروس، وما أستُخلِصت منه الدروس والعِبر، ولا أدركت الأجيال مفرداته وعناصره وما أصاب الأمة فيه، وكيف تمكنت الخروج من قبضة الهلاك والفناء الأكيد، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بآليات الإزاحة والنكران والكبت والتبرير والتوهم بغير الذي كان.

قرن نصفه الأول مضطرب، ونصفه الثاني أشد إضطرابا ودمارا وتأثيرا، ففي سنة 1258 إحترقت بغداد عن بكرة أبيها، وقتل عشرات أو مئات الآلاف من الأبرياء فيها دون ذنب إلا لكي يعبّر المتوحشون عن وحشيتهم، فيزعزعون نفوس القِوى الأخرى في الدنيا تمهيدا لإستباحتها.

وسقوط بغداد تم تبريره بأكاذيب وتعليلات ساذجة لتخدير الأجيال وعقرها في أماكنها، فتم تهويل قوة الهولاكيين وإضفاء الأساطير والخرافات عليهم، حتى صار ذكر إسمهم يثير الرعب والموت ويشيع الذعر والفرار المهين.

وما فكر الناس في بغداد بالمجابهة ورفع رايات الجهاد، ولا برز فقيه أو مفكر أو قائد ينادي " حي على الجهاد"، ويأتي على رأسهم الخليفة العباسي الذي شله الذعر وأجبنه الخوف، وتوطنه الإستسلام، بعد أن تحققت الهزيمة النفسية في داخله وإنعكست على الذين من حوله.

فبرغم قوته الكبيرة وجنده الخبير وقادته المهرة، لكنه أذعن لنفسه المهزومة وإنتهى إلى نهايته المشينة، تحت سنابك خيول المتوحشين المتوهمين بالقوة، وما هم إلا مهرة في بث الإشاعات وزعزعة الإرادات والقدرة على قتل الأبرياء، وما أجادوا الثبات في المواجهات.

لكن الذي يقرأ التأريخ ستتكشف أمامه أكاذيب وتصورات وتعليلات هذيانية مبعثها الخوف ومحاولة الحفظ على ماء الوجه، فيُتهم هذا أو ذاك بأنه قد فتح أبواب بغداد، والقراءة السلوكية تشير إلا أن العديد من أبناء القبائل والمسلمين كانوا مع الغازين، وأنهم هم الذين مهدوا الطريق للفتك ببغداد.

أي أن الخيانة قد بلغت ذروتها في هذا القرن، وتآمرُ العرب على العرب في أوجه، وتحالف المسلمين مع أعداء الإسلام أيضا على أشده.

وهذه العوامل قد تجسدت في بغداد وما بعد بغداد، وبسببها تواجد أفراد في الأمة إستجمعوا طاقاتها الفكرية والإيمانية وأعلنوا الجهاد والمواجهة، وبهذا تحققت هزيمة الهولاكيين (التتر ومن إنضم معهم من العرب وغيرهم) والفتك بهم.

وبسبب جبن فقهاء بغداد، برز فقهاء في سوريا حتمت عليهم الظروف وضرورات الحفاظ على الأمة والدين أن يتخذوا طريقا مناسبا للتحدي، فكانت الأصولية الشديدة والتمسك بالنص الديني وعدم التأويل والتفسير، لأن في ذلك إضعاف للأمة والدين، وقد نجح هذا التوجه في رص صفوف الأمة ومحاربة المتعاونين مع أعدائها، وضمها في وحدة جهادية فاعلة حققت إنتصارات واضحة.

وفي مصر نهض قطز ورفع راية الجهاد وهاجم الأعداء بقوة إيمانية مطلقة، برغم ظروف الدولة الصعبة التي تنخر فيها التناحرات والإنشقاقات، لكنه تمكن من صب قدراتها في سبيل المواجهة والجهاد الأكبر، فانتصر لكنه قتل بعد ستة أشهر من إنتصاره على الهولاكيين، وتم إغفال دوره وتأثيره وطمس ذكره في التأريخ العربي، والتقليل من أهمية وقيمة معركة عين جالوت التي خاضها.

أي أن الأمة أوجدت قادة سياسيين وعسكريين ودينيين أخذوا على عاتقهم التصدي للهولاكيين وإنقاذها من الفناء والإنتهاء، وهذا ما كان على بغداد أن تفعله، لكن قدراتها تهالكت بسبب تهالك خليفتها الذي أسلم أمره للمجهول.

بمعنى أن الأمة في أماكن أخرى منها قد تدارست أسباب سقوط بغداد، وتعلمت أن لا بد من المقاومة والتحدي والتصدي والمواجهة المستميتة للحفاظ على الوجود العربي وصون الدين من الدمار والإندثار، وبهذا تمكنت من إسترداد وجودها والتواصل عبر الأجيال.

تلك أحداث أساسية في القرن الثالث عشر تتلخص بسقوط بغداد في (8\2\1258)، ومعركة عين جالوت في  (9\3\1260) ومعركة شقجب أو معركة برج الصُفر في (20\4\1303) التي كان فيها قائد فقيه يحث على الجهاد والمقاومة والتصدي والنصر الأكيد قبل ذلك بعدة سنين، وفي المعركتين تمازج الفقه مع الإيمان والتفاؤل بالنصر والإصرار على هزيمة الأعداء.

ولشدة التوجه الفقهي وقوته وقدرته على المنازلة وإستعادة هوية الأمة وعزتها وكرامتها، تواصل مؤثرا في القرون التي تلته، فأوجد العديد من الفرق والجماعات التي تستقي منه وتترجم منطلقاته الصائبة في وقتها، لكن تطبيقها أو إستحضارها في هذا العصر يسيئ إليها ويتسبب بخسائر حضارية كبيرة.

فالعيب ليس بالمنطلقات الفقهية التي أدت دورها في القرن الثالث عشر، وإنما العيب في العمل بها في غير زمانها، والرجوع إليها كلما إشتدت الهجمة على الأمة، التي تعلمت أن هذه المنطلقات الفقهية طوق نجاتها، بعد أن إحترقت بغداد، وإستجبن فقهاؤها أو لم يشمروا عن سواعدهم ويعلنون الجهاد، والتصدي للعدوان الغاشم الذي أفناهم.

بغداد التي أزيلت منها آثار بني العباس وأحرقت معالم مسيرتهم الحضارية فيها، بسب عدم التصدي والتحدي والإذعان للضعف والخوف والرعب، الذي بثته الإشاعات والدعايات العاصفة في أرجاء البلاد والمحنطة للعباد، حتى ليقال أن الهولاكي كان يقول للرجال قفوا في مكانكم حتى أأتي بسيفي لأقتلكم، ويأتيهم وقد تجمدوا في مكانهم فيحصد رؤوسهم.

هذا التهديد المرعب للذات العربية وللإسلام قد أوقد روح البقاء والغيرة على الأمة والدين، فإنطلقت رؤى أفذاذ الفقهاء والمجتهدين ليتخذوا من الدين قوة باعثة وطاقة محفزة وإرادة متوثبة للقضاء على الغازين، وقد تم لهم ذلك وتحققت البسالة والتضحية والتعبير الأمثل عن الإيمان الصادق بالعروبة والدين.

ومن هنا فأن طاقة التعبير الديني بذلك الأسلوب الخارق والنادر في التأريخ هو الذي أمده بصيرورة بقائية عاتية وتأثيرات قوية في مسيرات الأجيال، وجعل منه مولدا وباعثا للأمة من رماد إحتراقها ودمارها وخرابها العظيم.

ولهذا فأن الأصولية قوة مطلقة لا يمكن الجزم بالقضاء عليها ومحقها، لأنها ستندلع كلما إنتكست الأمة وتحطمت أركان وجودها وتوالت إنكساراتها وهزائمها، ولكي تهدأ الأصولية أو تغيب، على الأمة أن تتجاوز الهزائم وتنتصر على الضعف وتؤمن بقدرات التفاعل المعاصر، الذي يحققه التفكير العلمي والبحث العلمي والثقافة العلمية الرصينة.

فالتوجه نحو العلم هو الطوق الأقوى للنجاة من أهوال الأصوليات والإتجاهات المتطرفة العاصفة في أرجاء الأمة.

وما يعزز ولاداتها المتكررة في حالات ضعف الأمة وإنهيارها، أنها كان لها دور فعال في هزيمة الهولاكيين ورفع المعنويات، وتأهيل الأمة للبقاء والنماء والتحدي والتواصل الأمين.

والتأريخ يؤكد أن الأصولية تولد من رحم الأمة الموجوعة والمفجوعة بذاتها وموضوعها، وكانت بداياتها عندما قاتل المسلمون بعضهم في صفين، ومضت بين صعود وهبوط توافقا مع أحوال الأمة، وكلما سقطت بغداد تعاظمت الأصوليات الدينية، وكلما نهضت بغداد وتقوت إندحرت الأصوليات الدينية، وتلك علاقة كيانية بقائية متلاحمة.

والعجيب أن المقارنة تكاد تكون متماثلة ما بين سقوط بغداد في 1258 وسقوطها في ألفين وثلاثة، وما أنجبته من معطيات ربما تكون متشابهة، ولهذا برزت الحركات الأصولية كرد فعل على هذا الحطام الحضاري والنفسي والفكري، وهي متواصلة ما دامت الأمة في محنة الوجيع الدائب والخسران الناكب.

والخلاصة أن ديناميكيات التفاعلات وعناصرها المتداخلة في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، هي التي رسمت معالم وجود الأمة في القرون التي تلته، ولا تزال مؤثرة في الواقع وفاعلة في صناعة التيارات المقررة للمصير.

فتلك الفترة كانت متطرفة جدا وغير مسبوقة، إذ تأرجحت بين هزائم مدوية ومرعبة وإنتصارات كبيرة ومدمرة للأعداء وماحقة لوجودهم العدواني السافر، وما عرفت الوسطية والإعتدال في جميع مناحيها ومواقعها.

وكان للأصولية دورها الواضح في المساهمة ببناء العزائم وشحذ الإرادات وتقوية النفوس وحثها على الصمود والإستبسال.

لكن ذلك زمان، ولكل زمان رجاله ومفكروه وفقهاؤه وقادته، ولا يمكن إستحضار الذي كان في دنيا يكون.

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم