قضايا

غواص في كتاب سيبويه (3)

محمود محمد عليفي هذا الجزء الثالث من مقالنا غواص في كتاب سيبويه نناقش قضية التبعية والأصالة في هذا الكتاب العظيم، حيث نجد بشهادة كثير من الباحثين أن هناك رأيان متعارضان، أحدهما يقول أصحابه بتأثر سيبويه في كتابه بالمنطق الأرسطي والنحو اليوناني . أما الرأي الثاني فيقول أصحابه أن كتاب سيبويه يمثل إبداعا عربيا أصيلاً .

وسبيلنا الآن هو عرض آراء هذين الفريقين، ثم نذكر رأينا، وذلك علي النحو التالي:

الرأي الأول: الأصل اليوناني للمنهج عند سيبويه:

نبدأ بالرأي الأول، والذي يمكن أن نطلق عليه  الأصل اليوناني للمنهج عند سيبويه؛ حيث نجد أنه قد ثبت في أذهان كثير من الباحثين في النحو العربي اليوم سواء في الشرق أو الغرب، بأن المنطق الأرسطي أمد علماء النحو العرب بكثير من أساليب البحث، ووضع بين أيديهم تجربة غنية في الدرس اللغوي، أفادوا منها إفادة مباشرة في جانب، وغير مباشرة في جانب آخر، وقد اطمأنوا في كثير من الجزم إلى أن ما انتهجه نحاة العربية من استخدام القياس والعلة، وما اصطنعوه في تقسيم الكلام إلي اسم وفعل وحرف، إنما يرجع في أصله إلي المنطق الارسطي، وإلي الثقافة اليونانية عامة .

وقد بدأت هذه النزعة في دراسة المستشرق الألماني " مركس " والذي زعم أن مفهوم سيبويه للحرف يشبه ما جاء في كلام أرسطو عن الرباط Syndesmos . ثم توالي بعده المستشرقون ومعظمهم يجمع علي أن كتاب سيبويه أول كتاب مدون وصلنا في النحو العربي ؛ حيث يلاحظون أن سيبويه قد جعله معرضا لآراء أستاذه الخليل المتأثرة بالمنطق والفلسفة الكلامية، وكذلك لأفكاره الخاصة التي تبدو فيها النزعة العقلية.

علاوة على أن سيبويه كما يرى هؤلاء الباحثون أول ما يطالعنا به في "الكتاب" من الموضوعات هو ذلك التقسيم الثلاثي للكلام إلى اسم وفعل وحرف، حيث يقول "سيبويه": الكلم: اسم وفعل وحرف جاء لمعني ليس باسم ولا فعل"؛ وهذا التقسيم يقول عنه أنصار هذا الرأي مأخوذاً عن التقسيم الأرسطي إلى اسم Onoma، وفعل Fhema، وأداة Sundesmos، وإن كان أرسطو يعمد إلى التحديد المنطقي الصارم، في حين أن سيبويه يلجأ إلى ذكر الأمثلة،  فمثلاً عرف سيبويه الاسم فقال عنه هو " رجل وفرس وحائط "، على أن هذا التمثيل ليس بعيداً جداً عن كتابات أرسطو، لأن لفظتي "إنسان" و"فرس" من الألفاظ التي استعملها دائما عند تقديمه  الأمثلة .

والموضوع الثاني الذي يقف عنده دعاة هذا الرأي من الباحثين معتبرين إياه أثراً من آثار منطق أرسطو في "الكتاب"، هو الحديث عن المسند والمسند إليه، يقول سيبويه " هذا باب المسند والمسند إليه وهما مما يغني واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدًا "، وهنا يلاحظ بعض الباحثين أن مصدر سيبويه يرجع إلي أرسطو؛ حيث إن قضية الإسناد هي قضية الموضوع والمحمول، كما وردت في كتاب " العبارة "، و" التحليلات الأولي". يقول روبنـز (في كتابه علم اللغة) "لقد نظر المناطقة القدامى إلي المسند والمسند إليه باعتبارهما مكونين جوهريين لكل الجمل التامة ... ومن هنا فإن التطابق بين المسند النحوي في الجملة والموضوع المنطقي في القضية ليس مستغرباً".

وإذا انتقلنا إلي موضع آخر من الكتاب، وهو "باب اللفظ للمعاني" فإننا نجد سيبويه يعالج قضايا "اختلاف الألفاظ لاختلاف المعاني، واختلاف الألفاظ والمعني واحد، واتفاق اللفظيين واختلاف المعنيين " وهذه القضايا متجمعة في نظر بعض الباحثين تطرح قضية أعم، وهي قضية الصلة بين الألفاظ والمعاني، من حيث الدلالة الوضعية . ولقد بحث أرسطو هذه القضايا في كتبه المنطقية، ومن المعروف أن إحدى تقسيمات مباحث التصورات " في نسبة الألفاظ إلي المعاني "، وهذا التقسيم وإن كانت تغلب عليه النزعة الرواقية إلا أنه في جوهره أرسطوطاليس .

وهناك أمثلة كثيرة تبين مدي الصلة بين منطق أرسطو والنحو العربي عند سيبويه، ونذكر منها الدراسة التي أعدها المستشرق الفرنسي "مركس" Merx في كتابه " تاريخ الصناعة النحوية عند السريان Historia Artis: Grammaticae Apud Syros Merx، حيث حاول أن يثبت تأثر سيبويه بالمنطق الأرسطي، وذلك في المواضع الآتية: مفهوم الجنس (التذكير والتأنيث) – مفهوم الحال – مفهوم الظرف- تقسيم أزمة الفعل – مفاهيم الفعل والفاعل  والمفعول .

بل إن البعض من المؤيدين لهذا الرأي قد أعلن أنه لا يضير كتاب سيبويه كتاب في شئ في أن تتضافر عوامل شتي في تكوينه، وأن يُسهم منطق أرسطو في التوجيه إليه، ويكفي أن نشير إلى ذلك الفصل الذي عقده في الجزء الرابع من الكتاب وعنوانه " باب اطراد الإبدال في الفارسية "، حتى يتضح أن سيبويه لم يكن مغمض العينين عن أمثال تلك المؤثرات .

الرأي الثاني - الأصل الإسلامي للمنهج عند سيبويه:

إذا كان بعض الباحثين من الغربيين والعرب قد مالوا إلى القول بتأثر سيبويه في درسه النحوي بالمنطق الأرسطي والنحو اليوناني، فإن فريقاً آخر من المستشرقين والباحثين العرب قد رفض هذا القول، وهنا بدأوا يوجهون انتقاداتهم للمستشرق "مركس" الذي زعم أن النحو العربي مؤسس وفق منطق أرسطو. فلم يأخذ أحد من المستشرقين كلام "مركس" بعين الاعتبار لسببين اثنين. الأول: وفاة الخليل وسيبويه قبل نقل منطق أرسطو إلى العربية . والثاني: قلة التشابه، بل انعدامه، بين النحو العربي والنحو اليوناني. فأقسام الكلم عند العرب ثلاثة (اسم وفعل وحرف) وعند اليونان ثمانية، ولا يوجد أدنى تشابه في علم الصرف وسائر علوم اللغة بين اللغتين.

بيد أن المستشرق الهولندي "كيس فيرستيج"، (في كتابه نشأة  الفكر اللغوي بين اليونان والعرب)، قد حاول التوفيق بين كلام "مركس" والواقع التاريخي، فبين أن مركس كان يخلط في كلامه بين علوم اللغة أيام الخليل وسيبويه من جهة، وعلوم اللغة أيام "ابن جني" الذي يبدو تأثير الفقه الإسلامي والمنطق اليوناني جليا في كتابه الشهير "الخصائص"، من جهة أخرى. ولما استحال إثبات التأثير اليوناني المباشر على النحو العربي، افترض بعضهم التأثير غير المباشر عليه، أي عن طريق السريان الذين اتصلوا قبل العرب باليونان   وعلومهم .

ويكفينا هنا ما قاله المستشرق الفرنسي "جيرار تروبو" G.Troupeau، الذي نشر بحثا في الرد علي القائلين بالفرضية اليونانية والسريانية لنشأة النحو العربي، وهذا البحث سماه " نشأة النحو العربي في ضوء كتاب سيبويه "، ذهب فيه إلي أن القائلين بالفرضية اليونانية والسريانية يرون أن العرب قد اقتبسوا في دراساتهم النحوية أربعة مصطلحات عن المنطق اليوناني هي: الإعراب، والصرف، والتصريف، والحركة، وأنهم اقتبسوا عنهم أيضاً التقسيم الثلاثي للكلمة إلي اسم، وفعل، وحرف، ويقابلها في النحو اليوناني ثمانية، وهي (الحرف، والمجموع، والرباط، والفاصلة، والاسم، والكلمة، والرقعة، والقول)، ثم يأخذ كل كلمة من هذه الثماني،ويقابلها بالتقسيم الثلاثي العربي، وذلك على النحو التالي:

1- ليس لقِسْم الحرف اليوناني قِسْم يقابله في النظام العربي، لأنَّ "سيبويه" لم يجعل حروف الهجاء قسماً مستقلاً في تقسيمه، كما فعل أرسطو. وكذلك ليس لقسم المجموع اليوناني قِسْم يقابله في النظام العربي، لأن مفهوم المجموع المركّب من حرف غير مصوَّت وحرف مصوَّت، مفهوم صوتيّ يختلف عن مفهوم الحرف الساكن والحرف المتحرك الذي نجده عند "سيبويه".

2- أما قسم الرباط اليوناني فإنه لا يقابِلُ إلا جزءً من قسم الحرف العربي؛ ونجد فرقا بينهما، لأنّ الرباط عند أرسطو لفظ خالٍ من المعنى، بيد أن الحرف عند "سيبويه"  لفظ له معنى .

3- يشتمل قسم الفاصلة اليونانيّ على آلة التعريف، والاسم الموصول، وهما عند "أرسطو" لفظان خاليان من المعنى؛ فليس لهذا القسم قسم يقابله في النظام العربي، لأنّ "سيبويه"  يرى أن الاسم الموصول اسمٌ غير تامّ، يحتاج إلى صلة، فيدخله في قسم الاسم، كما أنه يرى أن آلة التعريف لفظ له معنى، فيدخله في قسم الحرف .

4- أما قسم الاسم اليوناني فإنه يقابِل قسم الاسم العربي، غير أننا نجد فَرقاً بين القسمين، لأن الاسم عند " أرسطو" لفظ له معنى يدل على شيء، بيد أن الاسم عند "سيبويه"  لفظ يقع على الشيء، فهو ذلك الشيء بعينه .

5- وكذلك يقابل قسمُ الكلمة اليونانية قسمَ الفعل العربي؛ فالكلمة عند "أرسطو" لفظٌ له معنى يدلّ على زمان، والفعل عند "سيبويه"  مثال أخذ من لفظ حدث الاسم، فيه دليل على ما مضى وما لم يمض؛ غير أننا نجد فرقا بين القسمين، لأن الصيغة غير المبيَّنة aparemphatos مضمَّنة في قسم الكلمة اليوناني، بيد أن المصدر مضمَّنٌ في قسم الاسم العربي، كما أن الصيغة المشتركة metochikon مضمَّنة في قسمي الاسم والكلمة معاً في النظام اليوناني؛ بيد أن اسم الفاعل مضمَّن في قسم الاسم فقط في النظام العربي .

6- وأخيراً، فليس لقسم الوقعة اليوناني قسم يقابله في النظام العربي، لأن مفهوم الوقعة التي تحدث في آخر الاسم أو في آخر الفعل، مفهوم غير موجود عند "سيبويه" ؛ وكذلك قسم القول، الذي هو عند "أرسطو" مركَّب من ألفاظ لها معنى، ليس له قسم يقابله في النظام العربي، لأنّ سيبويه لم يجعل من القول قسما مستقلاً في تقسيمه .

وينتهي بعد هذه المقابلة إلى أنه من الناحية اللسانية يظهر لنا أنه من المستحيل أن يكون التقسيم العربي منقولاً عن التقسيم اليوناني، لأن عدد الأقسام ومضمونها يختلف في النظامين اختلافاً تاماً .

وللحديث بقية!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم