قضايا

وَحْدَةُ القَصْد

مجدي ابراهيمالقرآن الكريم قانون الله في أرض الله. معرفته سهلة، ولكن العمل به عسير . والناس لا يتفاوتون كثيراً في معرفة القانون، ولكنهم يتفاوتون جدَّ التفاوت في تطبيق القانون. ووحدة القصد هى غاية الغايات من عمل الناس في رحاب هذا القانون، وهى التي يؤدي إليها كل شيء وينتهي عندها كل شيء، ولا شئ يسلم في النهاية على القصد من شرف البقاء معها على الدوام. ولا تنفصل "الحلاوة" مُطلقاً عن "وحدة القصد"، بل تكاد تشملها جميعاً؛ لأنها تشمل روح القرآن كله:

أُثر عن "الوليد بن المغيرة "؛ أنه قال حين سمع شيئاً من القرآن: "والله .. إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمثمر، وما يقولُ هذا بشر..!".

ونحن نسأل: من أين؟ من أين لك - يا وليد - بهذه الحلاوة وبتلك الطلاوة؛ وأنت من بعدُ لم تسلم، ولم تعتقد عقيدة الرجل الذي نَزَلَ عليه هذا القول حين وصفته بالحلاوة وبالطلاوة؟ إن الوليد حينما عَبَّر عن حلاوة القرآن بهذه الكلمات اللطيفة النافذة، كان يَتَّجه مباشرة إلى"وحدة القصد" لما في القرآن من تأثير على الشعور والوجدان. وأن سليقته الجُوَّانيَّة الباطنة التي يتغلب فيها حكم الطبع لم تستطع أن تقاوم "وحدة القصد" الغلابة لوقع القرآن: وَقْعُهُ على بؤرة الضمير وعلى شغاف القلب، وَوَقْعُهُ على الشعور الدفين وعلى الإحساس بالغيب.

كلام لا ككل كلام ولا كأي كلام، كلام ألفاظه من لغة العرب بيد أن معانيه الغريبة تُمَيِّزه عن أجناس الكلام البليغ. هذا الوقع ليس شيئاً ! لا بل هو كل شيء فيه : خَاصَّة ذاتية تتجه إلى وحدة القصد بالمباشرة. ويمكن القول أن التفسير الإشاري وبخاصّة لدى القشيري قائم على تلك الوحدة القصدية : لأنه كان حرص أشد الحرص على النص القرآني، وأنه ألتزم بالنظر إليه نظرة اعتبار وتقديس؛ وكان عمل القشيري في لطائف الإشارات أشبه بمن يقتبس قطفات من الضوء من مشكاة كبيرة ينير بها الطريق أمام الأولياء والعارفين، دون أن يتورط في تعسف أو ينزلق في درب من دروب الشطط، والسبب الهام الذي يعود إليه هذا المنهج أنه سني حريص على سنيته بقدر ما هو صوفي حريص على صوفيته، فكان عليه أن يرضي أوساط أهل السنة في الوقت الذي كان عليه أن ينفع الصوفية، وأن يوضح لكلا الطرفين أن الأصول والفروع في الحالتين مستمدة من كتاب الله الكريم .

والوصول إلى وحدة القصد بالمباشرة منهج عامل ذو فاعلية وحياة، جاءت أمثلته تصور منهج القشيري في التفسير الإشاري وتعطينا نموذجاً من هذا التفسير؛ فقد نسمعه يقول في العبادات مثلاً عند قوله تعالى:" كتب عليكم الصيام"، "الصوم على ضربين صوم ظاهر وهو الإمساك عن المفطرات مصحوباً بالنية، وصوم باطن وهو صون القلب عن الآفات، ثم صون الروح عن المساكنات، ثم صون السر عن الملاحظات؛ ونهاية الصوم إذا هجم الليل، ولكن من أمسك عن الأغيار فصومه نهايته أن يشهد الحقَّ. والصوم لرؤية الهلال والإفطار لرؤيته كما يقول عليه السلام، فالرؤية عائدة على الهلال، وعند أهل التحقيق عائدة إلى الحق؛ فصومهم لله حتى شهودهم، وفطرهم لله، وإقبالهم على الله، والغالب عليهم الله".

هذه هى وحدة القصد تعتمد منهجاً فاعلاً وتتخذه طريقاً في التعبد وفي النظر على السواء، ولك أن تنظر في قوله تعالى:" والله غالب على أمره "؛ لترى وحدة القصد تتحقق بهذه "الغلبة" : نفوذ القرآن في الضمائر والقلوب، وفناء ما دونها من مظاهر الغلبة الظاهرة، تلك التي تبدو (أي الغلبة الظاهرة) وكأنها من جنس الغلبة، وهى في الحقيقة لا غلبة لها ولا سلطان.

إنما الغلبة لله في قوله وفي فعله، وفي كل صفة يتجلى بها على عباده بنسب ومراتب لا يعلمها إلا هو، لكنها على الجملة في حكم الغلبة على وجه التحقيق. الله غالب على أمره بشرف التجليات الإلهية في حضراته الخمس : حضرة الذات، وحضرة الأسماء، وحضرة الصفات، وحضرة الأفعال، وحضرة الأحكام. وكلها حضرات مباركة تعطي قوة الغلبة الظاهرة والباطنة في قوله تعالى: "والله غالب على أمره". فإذا شاء الحق تبارك اسمه أن يعطي مثل هذه الغلبة لكلمته العليا، ويمنع ما سواها أن تكون له على الحقيقة غلبة أو سلطان قال:"ما فَرَّطنا في الكتاب من شيء".

والدلالةُ فيه صارمةٌ بحكم الغلبة على احتواء القرآن على أصول العلوم والمعارف في كلمته المقدسة:"ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء"؛ ما استثنى شيء ولا فاته شيء ولكنه بيَّن كل شيء في كل شيء، وأحصى كل شيء في كل شيء، ثم إنه لهُدَى، ورحمة، وبشرى للمسلمين. فإذا وجدت وحدة القصد في شعور أحد يريد أن يعرف من تجليات المراتب والحضرات الإلهية شيئاً، كان كل ما يريد أن يعرفه من علوم ومعارف مَجْلَىَ من هذه المجالي الإلهية، وكان كل ما يطلبه من هذه المعارف والعلوم موجوداً في الكتاب :" مَاَ فَرَّطْنَا في الكتَاب من شَيء "!

ذلك هو حكم الغلبة، وذلك هو هو حكم الإعجاز الباهر الوضَّاء؛ خاصَّة ذاتية لا نملُ من تكرارها أبداً تتجه إلى وحدة القصد بالمباشرة . أين موطن"الحلاوة" فيما سمع الوليد، وأين موطن "الطلاوة" فيما شعر به من قوة هذه الوحدة القصْديَّة في ذلك القول؟ ذلك ما لم يقدر الوليد على الإجابة عنه سوى أنه قال : ليس بقول بشر..! (والله .. إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمثمر؛ وما يقولُ هذا بشر !).

كُلُّ ما هنالك أنه استسلم لحكم السليقة فيما تصيبه السليقة من وقع على الشعور والوجدان، وأن تذوّقه الرفيع - مجرد التذوِّق - لمعاني هذا القول الغَلاَّب قد أصاب منه كوامن النفس الصَّفِيَّة وبواطن البؤرة الدفينة في منْبَت الشعور. لقد اتجه الوليد بالسليقة الذواقة والشعور الوجداني اتجاهاً مباشراً إلى وحدة القصد في القرآن. هذه الوحدة التي تشمل روح القرآن كله، وهى روح عليا : ذاتية خاصَّة له، لا توجد في سواه، روح عليا لا وصف لها عندنا ولا حدَّ سوى سرَّ قوله تعالى:"والله غالب على أمره ". لقد قدرَّ وحكم أزلاً أن تكون كلمته تعالى هى العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وبهذا التقدير الإلهي وبتلك القدرة النافذة تسري حضرات التجليات الإلهية في الكون كله على ما يشاء، وفيما يشاء الله أن يُسْريها:" قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً".

سبحان الله! الكون كله بما فيه ومن فيه عاشقُ لله بالضرورة إلا الإنسان فعشقه بمقتضى الفهم والتَّدبُّر والرويَّة ووهب التوفيق .. الله .. الله على القرآن ساعة أن ينفذ بسلطانه إلى شغاف القلوب. ويا ألطاف الله على هاته "الحلاوة" التي تخرق أسجية الضمائر وتقوِّى معادن النفوس.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم