قضايا

صورة "الآخر" وتنامي صراع الهويات الفرعية

علي المرهجصورة الآخر هي ليست الآخر (كما يقول الطاهر لبيب). صورة الآخر بناء في المخيال وفي الخطاب". لذلك فمفهوم الذت الآخر هو من اختراع الذات، لا بمعنى إنكار وجوده الواقعي، وإنما وجوده هو وجود تصوري " من وحي المُخيَلة "مُخيَلة الأنا".

من النادر القليل أن ترى الذات في الآخر خيارها الإيجابي في الوجود وفي التكامل المعرفي، وأغلب الأمم تُعاني من تضخم النظرة للذات "القومية" أو "الوطنية" أو "الدينية" وتحصيل الحاصل"الطائفية"، وكلما ازدادت الذات تضخماً، إزداد حضور "الآخر"، في الغالب سلباً، إن كان هذا "الآخر" مُغايراً للذات في المعتقد الأيديولوجي أو الديني أو الطائفي، ويكون الحضور إيجابياً في حال كان هذا "الآخر" مُتماهياً مع مقولات "الأنا" المتضخمة أو مُدرك لسيكالوجيتها المرضية القائمة على النظر للذات بوصفها أكثر نقاءً في الأصل "الوجود" وفي "المعرفة" وإدراكها للـ "اليقين".

هذا الوعي المتضخم للذات هو الذي أنتج ما يُسمى "الهويات الفرعية" التي تأتي كرد فعل للممارسة الاقصائية للذات الشمولية التي تدعي أو يتبنى دُعاتها مقولة "الاصطفاء" ووصف الجماعة الذين هم منها أنها "شعب الله المُختار" أو "سُفن النجاة" من الذين اصطفتهم الإرادة الإلهية، أو اقتضت وجودهم "الحتمية التاريخية" ليكونوا "المخلصين" أو مُلًاك الحقيقة ورُبَانيي "سفينة النجاة"، وأصحاب "الفرقة الناجية" بالمفهوم الإسلامي، الذي تجسد في خطاب بعض الحركات واالأحزاب الدينية مثل "حزب الله".

وقد وظف هذه الرؤية كثير من الأحزاب العلمانية ومنها الأحزاب (القوموية) التي  صيَر بعض مُنظَريها حزبهم بمصاف "الحزب القائد" وأن قائد الحزب والدولة هو الحاكم الفليسوف أو الفيلسوف الحاكم أو "القائد الضرورة" الذي أنجبه التاريخ كي يكون "المخلص" للأمة العربية من هيمنة الاستعمار والتبعية للغرب!!.

الجدير بالذكر أن هذه المفكرة تختلف في مضانَها عن فكرة "البطل" الفرد، أو دور الأبطال في التاريخ، لأنك في التاريخ شواهد لها، ولكن هذا (البطل) لا يُمثل حزباً بعينه، ولا يُدافع عن جماعة بعينها ويُقصي جماعة أخرى، ولا يُعامل مواطنيه على أنهم في مراتب هرمية، فهُناك الكثير من هؤلاء القادة في التاريخ العربي والإسلامي والدولي من الذين آثروا على أنفسهم واتخذوا من أنفسهم أضاحي من أجل تحقيق الحرية لشعوبهم.

من أمثال هؤلاء هُناك مُصلحون ومنهم الأنبياء، ومُفكرون إحيائيون من أمثال "كونفشيوس" و"لاوتزه" و"مارتن لوثر" و"أراسموس" و"مارتن لوثر كنك"، و"الأفغاني و"محمد عبده" و"الكواكبي، وآخرون. وهُناك قادة سياسيون أمثال: "غاندي" و"نلسن ماندلا" و"جيفارا" و"لنكولن" و" عبدالناصر" وآخرون. وهُناك فلاسسفة أمثال: "جون لوك" و"كانت" و"جان جاك روسو" و"فولتير"، وماركس.

وهؤلاء وغيرهم كُثر ممن تنطق عليه صفة "البطل التاريخي" من الذين غيَروا تاريخ أمم بكاملها بتخليصها من تشضي الهوية والتكور حول "الهوية الفرعية" إلى الإنتماء للـ "الهوية الوطنية" والحُلم ببناء هوية أشمل ألا وهي "الهوية القومية" ومن ثم "الهوية الإنسانية" بحثاً عن مُجتمع إنساني أفضل.

لكن فكرة "القائد الضرورة" هي على النقيض من ذلك، فيها تصنيف لهذا القائد هذا على أنه خُلق من طينة غير طينة بني البشر من أبناء جلدته، وهو يفوقهم بدرجات من حيث القوة والحكمة التي حباها الله له دون غيره من البشر، على قاعدة التصنيف الإفلاطوني الثلاثي للناس على أن بعضهم خُلق من (ذهب) وآخرون من (فضة) وغيرهم من (النُحاس)، لذا سيكون الحاكم هو وجماعته من الصنف الأول وباقي الناس بدرجات حسب صيغة الولاء له ولجماعته لا للوطن، فهو الوطن والوطن هو، فيُشبه نفسه بالأولياء والأنبياء، ويُسمي نفسه بأسماء الله الحُسنى!.

إن مثل هكذا رؤية تدفع باتجاه تنمية "الهويات الفرعية"، للمستوى الذي يجعل منها هوية مُباينة لـ "الهوية الوطنية" تحت مظلة "الأنظمة الشمولية"، فبدل من أن تبني هذه الأنظمة ذات الطابع "التوتالتاري" في الحكم وطناً ذا بُعد قومي، غيبت "الهوية الوطنية" بامتدادها القومي، فصار البعض يبحث عن مُماثلات لـ "هويته الفرعية" خارج حدود الوطن كي يحتمي بها، ولربما نكون سدَها المنيع ضدَ كل من لا يرتضي لرؤييتها الأيديولوجية وجوداً، الأمر الذي أدى إلى غياب "الوعي المواطني"، فتخلت بعض الأقليات عن انتمائها "الأثني" لا لقناعة منها بأيديولوجيا "الحزب القائد"، بل لأنها لن تجد لها موطئ قدم في المُشاركة في إدارة الدولة إن لم تُعلن ولائها للحزب والقائد، وإن كان فيهم بعض الشخصيات مؤثرة، فليس لأنها لها القُدَرة على أن تُعلن ولائها الوطني أو القومي أو الديني أو الطائفي، بل لأنهم أمعنوا  في القساوة على أبناء جنسهم لصالح تحقيق وتنفيذ مرامي "الحزب القئد" و"القائد الضرورة"!.

إن وعي الهوية المتضخم يؤدي بالضرورة إلى تنامي "الهويات الفرعية"، وكلما إزدادت "الذات المُهيمنة" تعالياً، ازدادت "الهويات الفرعية" عناداً في إعلانها عن وجودها سواء أ كان هذا الوجود يُمكن تحققه بالمماثلة أو بالرفض والممانعة، وستزداد "الهويات الفرعية" تماسكاً كلما ازدادت "الذات الشمولية" الحاكمة توهماً بأنها تمتلك آليات "الخلاص" بوصفها المالكة للحق والوصية على تطبيقه، لتبحث "الهوية الفرعية" عن تشاكل هوياتي لها خارج المُحيط الجُغرافي والتفاعل الاجتماعي "المواطني"، بل خارج هيمنة السلطة الحاكمة "التوتاليتارية".

إن خطاب "الأنا" أو الذات "المُتضخمة" ينتج بالضرورة خطاباً مُغايراً، يجعل "الآخر" ضداً نوعياً يُهدد وجود "الأنا"، كما هو حاصل اليوم في في خطاب القومويين والإسلامويين، و"المتفرنجين"، بعبارة علي الوردي.

"الآخر" بوصفه مكمل للذات:

هناك من يرى أن صورة "الأنا" لا تكتمل إلَا بوجود الضد "الآخر"، سلباً أو إيجاباً، ففي نفي "الأنا" بترٌ لوجود "الآخر" وحضوره.

نجد (ريكور) يؤكد أن لا اكتمال لوجود الذات "الأنا" من دون وجود "الآخر"، لأن وجود "الذات عينها كآخر"، ومع (ديكارت) نجد أن وجود الذات كذات مُفكرة هو الوجود الحقيقي بمعزل عن وجود "الآخر"، بينما نجد (تشارلس ساندرس بيرس) يصف هذا "الشك الديكارتي" بأنه "شك لا منهجي" بل ليس سوى شك مُفتعل، لأن وجودنا الحقيقي يُدَرك عبر وجودات أخرى، فهُناك كثير من الكائنات الحية مثل "الحيونات" موجودة، تأكل وتتنفس، والشك بوجوودها لا يُمكن أن يكون شكاً منهجياً، "لأنه شك مُختلق لأن ينطلق من بديهية اختلقها هو وسلم بها هو وأنكر من خلالها وجود الأشياء جميعاً والشك في كُل شيء إلَا في كونه إنساناً يُفكر"، لذلك فكل إدعاء للشك في وجودات في واقعنا إنما هو مُعاندة شكية لا منهجية، لأنها خارج مُقتضيات التجربة الحسية.

قيل في المثل العربي "أن الناس أعداء ما جهلوا"، لذلك يُبادر الكثيرون منهم في رفض "الآخر" لمُجرد عدم معرفتهم به، ولكنني أرى أن معرفة "الآخر" تكون في بعض الأحيان أحد أسباب رفضه، وجهل "الآخر" به سبب أكبر للرفض، فمعرفة "الآخر" تعني الغوص أكثر في أنماط تحولاته المعرفية وجذور مُتبنياته الأيديولوجية التي ـ ربما ـ فيها اختلاف في التبني، فعادةً ما يكون أساس التبني عند "الآخر" قائم على الاستنباط والمعرفة البرهانية، فيما يكون نمط المعرفة عندنا قائم على الوجدان والمعرفة الباطنية أو "العرفانية"، وربما يكون هذا الفارق المعرفي أحد أسباب الرفض لا القبول لـ "الآخر"، لمعرفتنا باختلافنا وافتراقنا في الرؤية والمنهج، بل وفي نزوعنا العقائدي والأيديولوجي. أما في جهلنا له ففيه قصد واضح وإمعانٌ في الرفض، فليس من ثقافتنا قبول المُعارض وليس منَا من كان مُخالفاً لنا في الرأي والمُعتقد بحكم "الألفة" مع مُتبنياتنا المعرفية والأيديولوجية التي ورثناها من مُحيطنا البيئي والاجتماعي والتاريخي فجعلنا منها مناط الحُكم على صواب الرؤية المُغايرة لرؤانا من خطئها!، ولم نُكلف أنفسنا فحصها وفق مبدأ "التفنيد" البوبري نسبة لـ "كارل بوبر" أو للتشكيك الديكارتي، فصيَرناها مُسلمات أو بديهيات لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من خلفها!.

إن وجود "هويات فرعية" ذلك من طبيعة الوجود الإنساني، وهو ليس مُشكل بحد ذاته، ولكن تناميها للمستوى الذي تغيب فيه "الهوية الوطنية" ذلك هو المُشكل الأكبر والأعظم، فلكل منَا انتماء هوياتي فرعي، إما أن يكون عرقي "أثني" أو "ديني" أو "مذهبي"، وأميزها في قبول التنوع هو "الهوية الثقافية" والهوية الثقافية هذه يُمكن أن تكون هوية بلد وتاريخ حضارة ويُمكن أن تكون هوية جماعة مُعينة، ولأنها "هوية ثقافة" فهي بطبيعة وجودها هوية تقبل التنوع والمُغايرة في الرؤية والتوجه الفكري، وحينما تنحو باقي "الهويات الفرعية" باتجاه تفعيل وجودها الحضاري بوصفها "أيقونات" للتنوع الوطني والتكوين المُجتمعي الأشمل، فهي إغناء معرفي وإضافة تنويرية للـ "الآخر" المُختلف، ولكن حينما ينغلق أصحابها على هويتهم ولا يقبلون بوجود "آخر" مُشاركاً لهم في الوجود الاجتماعي والجغرافي المُسمى وطن تلك هي العقبة الكُبرى في بناء "هوية ثقافية" جامعة.

لقد تحولت بعض الجماعات المُتعايشة في الوطن الواحد إلى جماعات مُتصارعة بسبب شيوع الفكر "الدوغمائي" في مُجتمعاتنا سواء في غباء أحزاب السلطة المُنكفئة على رؤاها الأيديولوجية وسوء تقديرها لكيفية إدارة الدولة، أو بسبب تفشي الحركات "الراديكالية" = (الاقصائية) ذات التفكير الأحادي الذي لا يقبل دُعاته ولا مُريدوهم بوجود "آخر" يتبنى وجهة نظر مُغايرة لمُتبنياتهم "العقائدية"، الأمر الذي دفع الكثير من "الأقليات" إما للهجرة، أو الاحتماء بهوية مُماثل لـ "هويتهم الفرعية" فصنفهم البعض بـ "العُملاء" للأجنبي، أو "الولائيين" وتلك صورة لتشظي "الهوية الوطنية" إلى "هويات فرعية" بدَت جليَة وواضحة في المجتمع العراقي بعد الاحتلال الذي مهد لفكرة تشظية "الهوية الوطنية" في العراق إلى "شيعة" و"سُنة" و"كُورد"، وكل مُكون مُجتمعي من هؤلاء إنما صار يُدين بالولاء لجماعة أُخرى مُتضامنة مع نزوعه في التوجه "العرقي" أو "المذهبي" فصار العراق هويات لا هوية واحدة له، وازاد تشضي الهوية إلى أقليات صغيرة صارت تبحث لها عن ملاذات آمنة للخلاص من "داعش" مثل "المسيحيين" و"الأيزيديين" و"التركمان" وكل يبكي على ليلاه، ليلى "الجريحة" = (العراق) أو ما أطلق عليه سليم مطر "الذات الجريحة"، ألا وهي "الهوية الوطنية" التي غيبتها النُخبة السياسية العراقية وتجريحها وتشظيتها بحسب انتماءات هذه النُخب "الولائية" للمُحيط الخارج وطني.

كان بامكننا الاستفادة من "تجربة "مصر" ـ كما يقول سليم مطر في كتابه "الذات الجريحة"ـ ونجاح النُخبة المصرية في خلق "هوية مصرية" تعترف بديمومة الشعب المصري منذُ الفراعنة والأقباط حتى التكوين العربي الإسلامي. أي مُحالولة المُجانسة بين الأصالة المصرية من ناحية، والانتماء العربي الإسلامي من ناحية ثانية". لكن الذي حصل عندنا نحن العراقيين هو العكس تماماً غياب تأثير النُخبة في بلورة وعي وطني حقيقي، الأمر الذي جعل الكثير من العراقيين يشعرون أنهم في واد والنخبة الثقافية في واد آخر.

النتيجة أن صراع الهويات الفرعية بدأ بالأفول لا لأن النُخبة تمكنت فعلاً من إيصال رسالتها، بقدر ما كان لتوازن قوى العُنف وإيمان المكونات المُتصارعة بأن لا إمكانية من إلغاء الآخر المشارك له في الوطن، فالشيعة يمتلكون آلية السطو والغلبة بامساكهم بالسلطة والدعم الخارجي، والسُنة يمتلكون الامكانية على رد الفعل وفض سياسة التهميش بالقوة والدعم الخارجي، وكذا الحال مع الأكراد، وبما أن الديمقراطية لم تفعل فعلها في تهدئة الصراع لأنها (ديمقراطية توافقية) تحمل في مضانها نسفاً للديمقراطية ذاتها، فآثر قادة المكونات الرجوع للصف الوطني بعد أن فعلت قوى العُنف أفاعيلها في تشظي الهوية الوطنية

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم