قضايا

لماذا تنتصر الدول الضعيفة علي الدول القوية بحرب العصابات؟! (1)

محمود محمد عليمن غير المستغرب أن تكون حرب فيتنام هي الأكثر دراسة في تاريخ الحروب الحديثة؛ إذ إنّ الأدبيات الهائلة التي تناولت الحرب ترتبط بشكل مباشر بالفشل الذريع الذي منيت به الولايات المتحدة الأمريكية، ومن قبلها فرنسا، في تحقيق الأهداف السياسية المنشودة من الحرب. وفي الجهة المقابلة، شكّلت هذه الحرب نموذجاً حياً لثوار جنوب العالم من جميع التيارات السياسية والأيديولوجية، ودرساً ناجعاً لخصمٍ ضعيفٍ يواجه جبروت إمبراطورية عظمى ويخرج منتصراً.

استمرت الحرب على مدى أكثر من عشرة آلاف يوم، نالت فيتنام بعدها حريتها من الاستعمار الفرنسي، وأعادت توحيد طرفيها في دولة واحدة، مُسقِطَةً بذلك المشروع الأمريكي؛ الذي هدف إلى الإبقاء على فيتنام الجنوبية دولة تابعة وقابلة للحياة في قلب الهند الصينية. وقد أسفرت الحرب عن مقتل أكثر من ثمانية وخمسين ألف جندي أمريكي وما بين ثلاثة إلى أربعة ملايين فيتنامي.

لقد تركت الحرب الفيتنامية، أثراً غائراً في المجتمع الأمريكي بأكمله، فظهرت الأعراض النفسية علي الجنود، وكذلك علي الأفراد العاديين، تعكس حالة من عدم الشعور بالأمان. وقد ظلت الأفلام السينمائية الأمريكية زمناً ” تتعرض للحرب الفيتنامية ضمن أحداثها، ويظهر بها الجحيم الذي تعرضت له الجيوش الأمريكية، وسط أحراش فيتنام التي يتصاعد من جنباتها ألسنة النار التي تصل إلي عنان السماء، حتي أنها تطول الطير في السماء فتحرقه، والجنود في داخلها كالجرذان داخل المصيدة لا يكاد الواحد فيهم يطمئن لموضع قدمه هل سيطأ الأرض سالماً أم سيسقط في كمين .

وقد ظلت عقدة فيتنام تلاحق الشعب الأمريكي فضلاً عن أفراد الجيش من الجنود أو القيادات العسكرية ذاتها، رغم المحاولات المتعددة التي قامت بها الولايات المتحدة لإزالة هذه الذكري المؤلمة من نفسية أفراد الشعب الأمريكي، ففي أعقاب المعركة، تم طرح عد كبير من الأفلام التي تمجد من المحارب الأمريكي الشجاع الذي لا يخاف من الأهوال مهما تكاثرت عليه، بل إن منها ما مس العصب مباشرة بعرض قصة الكتيبة الأمريكية التي حققت نصراً مؤزراً في حرب فيتنام نفسها أو الجندي الأمريكي الذي عاد لفيتنام بعد نهاية الحرب، لإنقاذ زميل له أو إنجاز مهمة ما، وتتوالي المشاهد وهو يفرغ رشاشه في جموع الفيتناميين الذين يتساقطون أمامه بالعشرات صرعي من غير أن يتمكن أحدهم من أن يلحق بالأمريكي مجرد خدش بسيط.

هذا علي المستوي الشعبي ، أما بالنسبة للسياسيين الأمريكيين فقد صار لديهم “حالة من الرفض لأي شكل من أشكال التورط العسكري للولايات المتحدة في نزعات العالم الثالث، حتي إن كثيرين “أطلقوا علي هذه الأعراض Vietnamic Syndtome ومعناها الحرفي الأعراض الفيتنامية أو ما اشتهر باسم ” عقدة فيتنام” ، وعقب التسوية التي تمت عام 1973 ظلت الإدارة الأمريكية ملتزمة الصمت لسنوات تجاه ما يحدث علي الساحة الدولية، وبقي الوضع كذلك حتي نهاية السبعينات لدرجة أن كثيراً من الأمريكيين أنفسهم انتقدوا هذا الصمت.

ومن هؤلاء الذين خرجوا من هذا الصمت ” أندرو مارك ” Andrew Marc وهو أحد المحللين السياسيين ، الذين أخذوا يحللون أسباب انتصار الدول الضعيفة على الدول القوية، وذلك من خلال بحث صدر له في سنة 1975 بعنوان ” لماذا تخسر الأمم الكبيرة الحروب؟” . وفي هذا البحث يتساءل “مارك” : لماذا خسرت الولايات المتحدة الحرب في فيتنام ؟ ، وذكر أن هذا سؤالٌ طالما شغل رجالات الدول والباحثين، العسكريين والسياسيين؛ فقد تكشفت حروب النصف الثاني من القرن العشرين، من الهند الصينية والجزائر، إلى فيتنام وأفغانستان، عن حقائق مذهلة: إنهزام جيوش كبرى أمام تنظيمات شبه عسكرية، صغيرة العدد، ضعيفة التجهيز، محدودة الوسائل، في نمطٍ جديد من المواجهات العسكرية أطلقت عليه تسمية: الحرب اللا تماثلية .

ثم قدم ” مارك ” في هذا البحث محاولة لفهم ديناميكيات الصراعات غير المتكافئة؛ حيث يقول :” بأنه كلما زادت الفجوة بين أطراف الصراع من حيث القوة زادت فجوة المصالح وتوقعات الجماهير، حيث إن القوة العظمى تكون لها مصالح واسعة، وتوقعات جماهيرية عالية، ورغبة في إنهاء الصراع بقوة وحسم. هذه التوقعات تضع السلطة السياسية والعسكرية في حالة من الضغط الدائم لتحقيق النصر العسكري؛ فإذا طال أمد الصراع فإنه يُسبب نوعاً من الغضب الجماهيري في النظم الديمقراطية، أو يعطي ثقلاً لحركات المعارضة؛ فكلما زادت قوة الدولة الاقتصادية والعسكرية، تقل مصالحها خاصة في الصراعات غير المتكافئة. ولذلك الحساسية السياسية تجاه تأخر النصر أو أمام الخسائر البشرية والاقتصادية، تؤدي بالعامة وحركات المعارضة إلى الضغط علي قيادتها لإنهاء الحرب، ووفقاً لهذا المنطق فإن الفاعل القوي لديه أسباب أقل للنصر من الفاعل الضعيف الذي تقع حياته نفسها علي المحك.

ويفسر “مارك” هذه الحساسية السياسية عند الفاعل القوي، بأن الجماهير أو حركات المعارضة سوف تجبر الفاعل القوي علي الانسحاب من الحرب أو إنهائها قبل انتهاء أهدافها الاستراتيجية، نظراً لكثرة الخسائر العسكرية أو الاقتصادية، بينما الفاعل الضعيف تمثل الحرب له نقطة حشد معنوية، واقتصادية، وحياتية للدفاع عن وجوده ذاته؛ حيث تصبح حياته نفسها علي المحك مما يدفعه لأخذ الحرب إلى نهايتها .

ويذكر “مارك” أنه حتى الحرب العالمية الثانية، كان السائد أن التفوق في القدرات العسكرية يؤدي تلقائياً إلى الفوز في الحروب، بيد أن المواجهات الدراماتيكية التي شهدتها الساحات الدولية في الحقبات اللاحقة، والتي انتهت بمعظمها إلى انهزامات مروعة لجيوش جبارة، أثبتت أن التفوق العسكري الكبير للقوى العظمى لا يمكن الاعتداد به للانتصار ضد دولٍ أضعف، كما أدت إلى سقوط المفهوم التقليدي للحرب، حين تتورط الجيوش الكبرى في صراعات مسلحة خارج أراضيها ضد قوى محلية، محفزة بدوافع مختلفة، ومستعدة للانخراط في قتال مديد ذي طابع مختلف، يحمل القدرة على قلب المعادلات وتغيير النتائج .

فعلى المستوى التكتيكي، يقول مارك :” تسقط في الحرب اللاتماثلية معظم الاعتبارات التي ترتكز عليها الحرب التقليدية، لمصلحة منظومة قتالية مختلفة، تصبح الأفضلية فيها لقوى التمرد المنخرطة في مواجهة الجيش الدخيل، وعلى النحو الذي يسمح لتلك القوى بإجهاض وتعطيل مكامن القوة والتفوق عند الطرف الأقوى، وجره إلى مواجهات من النوع الذي يلائمها، تسمح باستغلال نقاط ضعفه واستنزاف قواه في معارك مباغتة، وضربات خاطفة تضع القوات النظامية، بطلائعها وخلفياتها، بوحداتها القتالية كما الإسنادية واللوجستية، ضمن دائرة الاستهداف وتحت تأثير أشكال مختلفة من الصدمة والرعب” .

ومن هنا تصبح القاعدة الأساسية للحرب اللاتماثلية كما يري ” مارك”، “رفض قوى التمرد مواجهة العدو النظامي وفقاً لشروطه، بل وفقاً للقواعد التي تناسبها والظروف التي تختارها، وفي هذه القدرة على تغيير قواعد الصراع، ما سمح لقوات التمرد الفيتنامي بأن تتحول إلى أسوأ كوابيس الجيش الأمريكي الجرار في فيتنام، من خلال هجمات تنفذها أرهاط صغيرة مجهزة بعبوات ناسفة محلية الصنع، قادرة على إنزال خسائر قاسية بالوحدات الأمريكية المتحركة رغم تفوق أسلحتها وتجهيزاتها.

ومن جهة أخري يذكر “مارك” أنه في الحرب التقليدية يتم تقويم الصراع على أساس الخسائر العسكرية للأطراف المتحاربة، وهي التي ترسم اتجاهات الحرب ونهاياتها. أما في الحرب اللاتماثلية فإن الحسابات تتجاوز ذلك لتأخذ في الاعتبار تأثيراتها الاستراتيجية ومفاعيلها السياسية عند الطرف الأقوى، ذلك لأن الغاية الرئيسة لقوى التمرد، ليس تدمير القدرات العسكرية للعدو الأقوى، ولا ضرب معنوياته وإرادته القتالية؛ بل نقل تأثيرات الحرب ومفاعيلها النفسية والسياسية، إلى ما يتعدى المسرح الميداني للصراع، ليصيب الدولة العدوة في عقر دارها، بكل ما ينطوي عليه التعبير من معنويات واقتصاديات ومؤسسات سياسية. وعلى النحو الذي يربك مراكز القرار فيها ويحرض الرأي العام ضدها، بما يؤدي إلى إعادة الحسابات وتجريد خيار الحرب من أهم مرتكزاته، أي القبول الشعبي به .

ويستطرد ” مارك” فيقول “في ظل انعدام القدرات المادية، والتقنية، والوسائل الكفيلة بتدمير القدرات العسكرية للعدو، يصبح الهدف كسر إرادته السياسية على متابعة الصراع؛ ذلك هو جوهر ما كشفته الحروب التي خاضتها القوى العظمى ضد دول أقل منها شأناً وإمكانات، فالولايات المتحدة لم تخسر قدراتها العسكرية في فيتنام، بل إرادتها السياسية على متابعة الحرب. ذلك أن التأثيرات النفسية والمعنوية لتورطها العسكري في “هانوي” تخطت في الداخل الأمريكي تأثيرات الحروب التقليدية التي خاضتها، وإلى الحد الذي جعل الإدارة الأمريكية آنذاك، تستسلم أمام عاصفة الرأي العام المعارض للحرب، وتنسحب من فيتنام مهزومة، ما دفع وزير خارجيتها يومذاك، “هنري كيسنجر”، إلى القول “نحن خضنا في فيتنام حرباً عسكرية، وأخصامنا خاضوا حرباً سياسية”. هذه النتائج السياسية التي أفضت إليها حرب الفيتنام شكلت في الواقع الانتصار الأكبر لقوى الفيتكونغ.

ثم أخذ “مارك” يسأل سؤالاً خطيراً : كيف تتصرف القوى الكبرى والحال كذلك؟ كيف تردع قوة أضعف منها لا تخشى الهزيمة ولديها ميول انتحارية ؟ وكانت الإجابة هي أن “نجعل العدو يقتل نفسه بنفسه. لماذا أقتله، وهو يمكن أن ينتحر؟ لماذا أوحده ضدي، وانقسامه في مصلحتي؟ لماذا أطلق عليه الرصاص والقنابل، فى حين أننى لو استثمرت واحد بالمائة من التكلفة على الإعلام الخبيث والشائعات  المضرة لتمزقه كل ممزق؟ .

وهذا لا يكون إلا من خلال حرب يتم فيها احتلال عقلك لا احتلال أرضك.. وبعد أن يتم احتلالك ستتكفل أنت بالباقي.. ستجد نفسك في ميدان معركة لا تعرف فيها خصمك الحقيقي.. إنها حرب ستطلق فيها النار في كل اتجاه.. لكن يصعب عليك أن تصيب عدوك الحقيقي.. وبالأحرى هي حرب من يخوضها يكون قد اتخذ قراراً بقتل كل شيء يحبه.. إنها “حرب تستخدمك أنت في قتل ذاتك وروحك.. وفى النهاية ستجد نفسك كنت تحارب بالوكالة لصالح رجل جالس في مكان أخر اختار أن يخرج مشهداً سينمائياً جديداً لفنون الانتحار الجماعي.. حرب المنتصر فيها لم يدخلها ولم ينزل الميدان” . وللحديث بقية!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم