قضايا

الحُرية الفردية "داخل الجماعة" ـ "خارج الجماعة"

علي المرهجفي اتصال ليَ مع صديقي القديم (د.علي الربيعي) الذي أختلف معه كثيراً قبل غربته الزمانية أيديولوجياً، وأتفق معه قبل غربته المكانية وبعدها معرفياً، لا سيما في قراءاته في الفكر السياسي وفلسفة السياسة، فهو في هذين المجالين مرجع يُحتذى، ولا اتفاق لي في منشوراته السياسية و(الوعظية) في الفيس بوك، ولكنه عقل نقدي في في النظرية السياسية والفكر السياسي أفدّت منه كثيراً، وبسياق الحديث معه قُلت له أنني أكتب عن موضوع بعنون (الأنا والآخر وتنامي صراع الهويات الفرعية)، وفي خضم الحديث نصحني بقراءة كتابات (نادر كاظم) ولم أقرأ من قبل لهذا الكاتب، وبينما أنا في مكتبة (خالد حنش) أرمق بعين مُتفحصة جديد ما يستنسخه، فإذا بعيني تلتقطان كتاب (نادر كاظم) "خارج الجماعة"، وكُنت قد بحثت في فضاءات العم "غوغل" عن (نادر كاظم) فوجدَته من الكُتَاب العرب القلائل الذين انشغلوا بكتابات حول التعددية الثقافية، وهو شاب بحريني مواليد 1973، أستاذ "الدراسات الثقافية" في جامعة البحرين، تنحدر أصوله من عائلة شيعية، وليس مستغرب لمن يعرف وضع الشيعة في البحرين أن يربط بين الحال السياسي في البحرين واهتمامات (نادر كاظم) في الدفاع عن مفهوم الجماعة ودفاعه عن فكرة "التعددية الثقافية"، أو عن علاقة الفرد بالجماعة الذي يدور حوله كتابه "خارج الجماعة"، وله كتاب (استعمالات الذاكرة: في مُجتمع تعددي مُبتلى بالتاريخ).

جُلَ همَ نادر كاظم هو توكيد قيمة (الاعتراف) بـ "الآخر" بوصفه وجود مُكمل لمعنى وجود (الأنا) في هذا العالم، ليصل إلى نتيجة فحواها: "أن الاعتراف بالتعددية الثقافية هو المخرج لأغلب أزماتنا السياسية في المجتمعات المتصارعة أثنياً، فلا مناص لنا من "الاعتراف" بالتنوع، ولأنه بحريني، ونحن نعرف أن البحرين تعيش مشكلة سياسية واجتماعية بحكم التنوع الأثني (الطائفي) فيها، نجده يلجأ لتأصيل رؤيته وتجذيرها عبر الإفادة من رؤى فلاسفة "التعددية الثقافية".

يعمل (نادر كاظم) على تفعيل النظر لـ "فلسفة الاعتراف" بوصفها فلسفة تطبيقية لها فعل تأثير في تغيير مسار الرؤية في المجتمعات التي تحكمها رؤية أحادية.

ينتقد نادر كاظم تعنت الدولة وتطرفها في اقصاء التنوع وقمع رؤى التعبير الحر عن الوجود المجتمعي الذي تقتضيه طبيعة التكوين والصيرورة التاريخية لمكون مُجتمعي، ربما تكون مُتبنياتها تبدو وكأنها "خارج الجماعة"..

كل جماعة تتماهى مع تاريخها (الذاكرة الجماعية)، ولكن في تفعيل (الحرية الفردية) ضرب لهذا المفهوم ودفع باتجاه البحث عن الذات (خارج الجماعة).

العيش (خارج الجماعة) فيه نزوع نحو التحرر الفردي وبحث عن الذات المُتفردة، ولكنه في الآن ذاته يحمل بين طياته تنكر لـ "المديونية للجماعة"، وتلك هي حالة "المثقف النقدي" أو "المثقف الحُرَ" الذي يختار العيش "خارج الجماعة" ليكون غريباً، إن لم يكن منفياً، وهو في وطنه، وإن كان مثل هذا الأمر ليس سلبياً بحد ذاته، لأن فيه كشف عن "استقلاية الذات" وتحملها المسؤولية والإرادة التي تجعلها تنحو نحو الحُرية الفردية وحُرية الاختيار بتعبير الوجودية، فتجد هذا "المثقف الحُرَ" يعيش غربة داخلية وغربة مُجتمعية تضعه أمام تحد لقيم الجماعة التي تنبذ قيم النزوع الفردي الحُرَ اليت يصنعها "الإنسان السوبرمان" بتعبير نيتشه، ذلك الذي يسعى للعمل على "إنقلاب القيم" وتغييرها.

لربما يكون "المثقف العضوي" بتعبير غرامشي أحد هؤلاء الذي يسعون لقلب القيم السائدة، ولكن قلب غرامشي للقيم لا يشبه سعي نيتشه لقلبها، لأن غرامشي يعمل لتفعيل دور المثقف العضوي "داخل الجماعة"، بينما نجد نيتشه وسارتر من بعده في رؤيته للـ "المثقف المُلتزم" يسعيان لتفعيل دور المثقف كي يكون "خارج الجماعة"، أو ما سماه إدوارد سعيد "خارج المكان".

المثقف فرد له انحدارات وأصول ثقافية وعرقية وقومية ودينية، وكل هذه مؤثرات لها وجود وتأثير في كتاباته، لذا فهو في الوقت الذي يرنو فيه لأن يكون "خارج الجماعة" نجد في كتاباته ما يُمكننا نحن المُتلقين أو القُرَاء ما يجعلنا نضعه "داخل جماعة" ولنا أن نُعدد تنوعات الفهم بحسب التلقي لادراجه "داخل الجماعة" الثقافية أو "داخل الجماعة العرقية" أو "داخل الجماعة الدينية"!!.

كل مثقف "فرد" وإن كان يترنم بقيمة "الحرية الفردية" ولكنك ستجده في "المسكوت عنه" في كتاباته، ولربما في الظاهر منها ما يكشف ميله للجماعة، ونجد هذا الأمر جلياً وواضحاً عند المثقفين الذين يُصنفون داخل الدولة اجتماعياً وسياسياً على أنهم أقليات.

لم تستطع الدولة الحديثة بكل انجازاتها العلمية والثقافية والسياسية القضاء على فكرة "التعددية الأثنية"، حتى في الدول الأكثر "ديكتاتورية" وقسوة.

ولك في الشيعة في العراق والأكراد مثال، ولك في أكراد إيران أو أكراد تُركيا وسوريا أمثلة.

ما يؤكد عليه "نادر كاظم" في كتابه هذا، هو ليس الدفاع عن حرية الفرد في أن يكون "داخل الجماعة" مُنتمياً إليها، أو يكون "خارج الجماعة" والسماح له بحرية اختيار الجماعة التي يرغب بالانتماء إليها. الأمر الذي يدفعنا إلى ضرورة رفض قمع الجماعة بضرورة انتماء الفرد الذي أوجده القدر فيها، وفي الوقت نفسه ضرورة رفض قمع الدولة في حساب الفرد على جماعة شاء القدر أن يُخلق فيها، وهذا لا يعني أن الفرد رافض في أن يَحسبَ نفسه على جماعة أو ضمن جماعة، ولكن عليه أن يرفض أن يحسبه الآخرون مجتمع أو سلطة على جماعة ما من دون أن يكون هو بذاته قد قرر وأعلن أنه داخل جماعة ما.

إن المُهم والأهم هو في قُدرة الفرد على إنتزاع ذاته وإنسانيته من محاولات الاختزال والتحجيم لفردانيته عبر الممارسات القهرية للدولة أو الجماعة في نزع حريته وادماجها "داخل الجماعة".

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم