قضايا

غواص في مقتضب أبي العباس المبرد (2)

محمود محمد علينعود ونستأنف الحديث عن منهجية المبرد في كتابه المقتضب فنقول: إنَّ الناظر في تراث المبرِّد النحوي يلمس شغفَهُ واهتمامه بالتعليل وعنايته الفائقة به، فقلّما يترك حكماً دون تعليل حتى المصطلحات النحوية علّل لها، فعلى سبيل المثال علّل تسمية المضارع بهذا الاسم قال: "واعلم أنَّ الأفعال إنما دخلها الإعراب لمضارعتها الأسماء ولولا ذلك لم يجب أن يعرب منها شئ ".

ويظهر في تعليلاته بداية تأثير الفلسفة التي أدّت إلى تعقيد المسائل النحوية وقد اتضحت جلياً عنايته بالعلّة الثانية التي سمّاها الزجاجي (العلّة القياسية) أو العلّة الثالثة التي سمّاها (العلّة الجدلية النظرية) .

ومع هذا فالغالب على تعليلات المبرِّد أنَّها لم تخرج عن علل البصريين، فعلله شبيهه إلى حدٍّ كبير بعلل الخليل وسيبويه.

ويتضح لنا أنَّ تعليلاته تساق لأجل التعليم فهي تعليمية على الأغلب، ولهذا أصبحت العلة النحوية رديفاً للحكم النحوي عند المبرِّد لا تفارقهُ.

وكان سر تفوق المبرِّد في بغداد على أقرانه من الكوفيين هو شدّة اهتمامه بالتعليل، إذ اتخذ منه سلاحاً للمناقشة والبحث وكانت له يد طولى وحظ في التعليل، لأنَّهُ كان من المجتهدين فيه فكثيراً ما نراهُ يطالب الخصم بالعلة، وهذا يتضح في حديثه مع الزجاج ومنْ معهُ من تلامذة ثعلب، وكان الزجاجُ أوَّل من أحسَّ بهذا المنهج الذي كان يتَّبعُهُ المبرِّد، وقد أولع به هو بعده قال: " لما قدم المبرِّد بغداد جئتُ لأناظرهُ وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب فعزمتُ على إعناتهِ، فلما فاتحتُهُ ألجمني بالحجة، وطالبني بالعلّة وألزمني إلزامات لم أهتدِ إليها، فتيقّنتُ فضلَهُ، واسترجحت عقلهُ، وأخذتُ ملازمتهُ" .

وما من شك في أن شيوع النظريات الفلسفية كان من أثره أن انساح المبرد في طريق الفلسفة، ففلسف النحو بإمعانه في التعليل وإسرافه فيه، ويجدر بي أن أثبت تأثر المبرد بالفلسفة بذكر أمثلة من تعليلاته هي من وحي الفلسفة، ونذكر يعضاً من تعليلاته مثل :-

1- حد الأفعال أن لا تعرب : قال المبرد:" كان حدها أن لا يعرف منها شئ لأن الإعراب لا يكون إلا بعامل فإذا جعلت لها عوامل تعمل فيها لزمك أن تجعل لعواملها عوامل وكذلك لعوامل عواملها إلي ما لا نهاية .

2- تصغير جمع الكثرة : قال المبرد:" اعلم أنك إذا صغرت بناء من العدد يقع ذلك البناء أدني العدد فإنك ترده إلي أدني العدد فتصغره وذلك أنك إذا صغرت كلابا قلت أكليب لأنك تخبر أن العدد قليل فإنما ترده إلي ما هو للقليل، فلو صغرت ما هو للعدد الأكثر كنت قد أخبرت أنه قليل كثير في حال وهذا هو المحال .

3- لا يرخم حبلوي علي لغة من لا ينتظر : قال المبرد: "النحويون لا يجيزون ترخيم رجل في النداء يسمي حبلوي في قول من قال يا حار لا يعتد بما ذهب ويجعله اسما علي حياله فإذا رخم حبلوي لزمه أن يقول يا حبلي أقبل لأن الواو تنقلب ألفا لفتحة ما قبلها ومثال فعلي لا يكون إلا للتأنيث ومحال أن تكون ألف التأنيث منقلبة فقد صار مؤنثاً مذكراً في حال فلهذا ذكرت لك أنه محال .

4- ومنها علي سبيل المثال ما دار بين المبرد وثعلب الكوفي (ت: 291هـ) في مجلس محمد بن عبد الله بن طاهر، فقد سأل المبرد ثعلياً عن همزة بين بين أساكنة هي أم متحركة ؟ فقال ثعلب : لا ساكنة ولا متحركة، يريد أن حركتها روم، فقال المبرد : قوله لا ساكنة أقر أنها متحركة، وقوله لا متحركة قد أقر أنها ساكنة، فهي ساكنة لا ساكنة ومتحركة لا متحركة .

5- ومن مظاهر النزعة المنطقية عند المبرد رده علي ما ذهب إليه الكوفيون من جواز جمع ما ختم بالتاء من أسماء المذكرين كطلحة بالواو والنون، فيقال طلحتون بأن ذلك لو جاز " للزمك أن تكون أنثته وذكرته في حال وهذا هو المحال .  والجدل الفلسفي واضح في قول المبرد مما يذكرنا بقول أرسطو "لا يعرض أن يكون الشيء الواحد موجوداً وغير موجود معاً وذلك محال" .

6- ومن تعليلاته عدم إلحاق الهاء في مثل (طامث وحائض ومُتئِم) لأنَّ هذه الألفاظ تدل على النسب لا على الوصف باسم الفاعل، لأن المراد: لها حيض ومعها طلاق، ويرد قول بعض النحويين: إنَّما تنتزع الهاء من كُلّ مؤنث لا يكون له مذكر فيحتاج إلى الفصل، وينعته بقوله: ليس بشيء، لأن هناك ألفاظاً مشتركة ولا تدخلها تاء التأنيث كقولهم: رجل عاقر، وامرأة عاقر، وناقة ضامر، وبكْر ضامر.

وكذلك ظهر فى مقتضب المبرد الذى مهر مصنفه فى فلسفة المسائل وتصريف الكلام وتشقيقه واستكناه ما فيه من الاحتمالات العقلية، والذى انطبع أسلوبه بسمات أساليب المتكلمين على النحو الذى بدا بوضوح من خلال تمسكه بالقياس، فقد اعتمد المبرد القياس وأخذ به ورأى أن المصير إليه ضرورة تمليها علينا أبنية اللغة المتجددة، وتدلُّ أقوالُهُ فيه على أنَّه أوجب في المقيس عليه أن يكون كثيراً، وأنَّهُ لا يؤخذ بالقليل ولا يقاس على الشاذ، وهذا ظاهر في قوله: " القياس المطرد لا تعترض عليه الرواية الضعيفة" . وهذا يُردُّ به على رأي الدكتور " محمود حسني محمود" الذي ذهب (في دراسته عن المبرد)  إلى أنَّ المبرِّد اقترب من الكوفيين بقياسه على الشاذ في بعض الأحيان . ويؤكد بطلان هذا القول أيضاً قول المبرِّد: " إذا جعلت النوادر والشواذ غرضك واعتمدت عليها في مقاييسك كثرت زلاتك" .

ويمكننا القول أنَّ المبرِّد قد عمّق اتجاه القياس، وأنَّ المغالاة فيه قد تُعزى إليه، فقد اهتم به اهتماماً بالغاً، وكان لبصريتِهِ دورٌ بارزٌ في أقيسته في مواضع كثيرة، فهو يقيس على الكثير من كلام العرب، قال: " واعلم أن القياس وأكثر كلام العرب أن تقول: هذه أربعة عشرَكَ، وخمسة عشرَكَ، فتدعه مفتوحاً على قولك: هذه أربعة عشَرَ وخمسة عشَرَ" . ومنه كلامُهُ على ما جاء من ذوات الياء والواو التي ياءاتِهنَّ، وواواتهنَّ لامات وذلك قولهم "في رمية: رميات، وفي غزوة: غَزَوات وفي قَشْوة: قَشَوات، كما تقول في (فَعلة) نحو: حَصاة وقَناة: حصيات وقنوات، لأنَّك لو حذفت لالتقاء الساكنين لالتبس بفعال من غير المعتل فجرى ههنا مجرى غَزَوا ورَمَيا، لأنَّك لو ألحقت ألف (غَزا) وألف (رمى) ألف التثنية – للزمك الحذف لالتقاء الساكنين فالتبس الاثنان بالواحد، فكنت تقول للاثنين: غزا، ورمى فلما كان هذا على ما ذكرت لك لم تحذف" . وكثيراً ما نرى المبرِّد يردد لفظة (الأقيس) كقولِهِ: "أمَّا الأقيس والأكثر في لغات العرب فأن تقول في بيضة: بيضات، وجوزة: جوزات، ولوزة: لوزات" .

وهكذا كان نحو البصرة منذ عهد المبرد متأثراً بالمنطق، وأصبح نحاتها شيئاً فشيئا أهل فلسفة وجدل، وأصبحت أساليبهم فى النهاية متسمة بقدر من الغموض والتعقيد، وكل ذلك كان انعكاساً لتأثرهم بالمعارف العقلية التى سادت مدينتهم منذ عصر مبكر بسبب ما تم فيها من التقاء العرب بالعناصر الأخرى التى اعتنقت الإسلام وأثرت فى علومه وفى علوم اللغة العربية تأثيراً فكرياً عميقاً، وقد ساعد على هذا موقع المدينة الجغرافى على تخوم فارس كما ساعد عليه انتشار أفكار الاعتزال الفلسفية بين نحاتها ومزجهم هذه الأفكار بالثقافة العربية وبالنحو مزجاً دعا إليه شعورهم بالحاجة إلى هذا الخليط الثقافى لمقارعة خصومهم بالبيان الرفيع المتسلح بالمنطق والفلسفة بعد أن أتموا فى الوقت نفسه آلته وأحكموا صناعته النحوية .

وقد حملهم هذا الذى ذكرناه فى نهاية المطاف على الإفراط فى التقنين والحماس فى التقعيد، فانشغلوا بهما عن البحث فى المادة اللغوية نفسها، كما آل بهم الأمر إلى إخضاع هذه المادة لقواعدهم وقوانينهم النحوية التى وضعوها على أسس وطيدة من المنطق ووفق أصول فلسفية محضة وبناء على علل نظرية، فأصبح نحوهم منذ عهد المبرد ميداناً واسعاً ومعرضاً فسيحاً للمناهج الكلامية والاتجاهات المنطقية والمصطلحات الفلسفية لما أمتلأ به من الأسباب والمسببات والمقدمات والنتائج والعلل والمعلولات والتقسيم والتبويب والحد والمحدود والشروط والقيود والداخل والخارج ونحو ذلك، ولما خضعت له أحكامه من ضروب التقدير والتأويل الذى يقصد به إلى التوفيق بين النصوص اللغوية وبين ما يخالفها من أصولهم التى وضعوها ليثبتوا أن كل ما نطق به العرب إنما كان على طرق ثابتة لها أسبابها ونتائجها المنطقية وأصولها الفلسفية، معتبرين أصول اللغة كأصول المنطق لتلك ما لهذه من عموم وشمول، ولما توسعوا فيه من القياس يطبقون على قواعدهم حتى أصبح عاما ومسيطرا عليها بحيث صار  ما يخرج على هذه القواعد شاذاً، ولإكثارهم من قياس ما لم يسمع عن العرب وحمله على القواعد المبينة على المسموع بشكل متعسف متكلف أحياناً من جهة ابتناء هذا القياس فى إجرائهم، ليس على العلة الأولى التى هى مدار الحكم ابتداء، بل على علل وراءها اعتبرت من العلل الثوانى والثوالث مما خرج بالنحو عن فطرة اللغة إلى غموض الفلسفة وتعقيد المنطق فى كثير من مسائله إلي البصرية .

وبعد فإن السبب الحقيقي كما أزعم وراء انصراف الكثير من النحاة علي قراءة المقتضب والأخذ به، إنما يتمثل فى أن المبرد حاول اقتصار النحو على دراسة الإعراب والبناء فى الألفاظ  وتبين أثر العامل بها، وانصرافه عن العناية بالمعنى وأساليب الكلام والموازنة بينها، مما أدى إلى انقطاعه عن مباحث البيان والبلاغة نتيجة اعتماده المنهج المنطقى وتمكينه من أصول النحو وقواعده. وما كنت أظن أحداً من الباحثين المعاصرين يرضى بهذا الانقطاع، إلى أن وجدت الدكتور "شوقى ضيف" يرضاه ويباركه بقوله " والحق أن اللغويين بعد القرن الثالث أخذوا يتوسعون فى المباحث اللغوية الخالصة، منحازين عن مباحث البيان والبلاغة، وكأنهم رأوا – محقين – أنها ميدان آخر غير ميدانهم " .

فلقد رأينا أن هذه المباحث كانت ميدانهم، وكانوا أول الفرسان فيها، وكيف أنها قد خالطت فكرهم وكتابتهم، وكانت السبب في جعل النحو عندهم دراسة حية وهم يتتبعون أساليب العرب في كلامهم وطرائقهم في التعبير في سبيل الاقتدار علي فهمها والتعبير بمثلها . علماً بأن الدكتور شوقي ضيف نفسه يري أن انفراد كتاب سيبويه بالقدرة علي تعليم قارئه دقة الحس اللغوي وتلقينه سليقة العربية والحس بها حساً دقيقاً مرهفاً . والشعور بها شعوراً رقيقا حاداً، إنما كان بسبب كونه لا يقف عند الإحاطة بالخصائص اللغوية والنحوية، بل يمتد أيضاً إلي الإحاطة بالخصائص البيانية والأدبية .

علي أية حال بصرف النظر عن مدي نجاح أو فشل ما قام به المبرد، فإنه لا شك يعد أول نحاة البصرة الذين أدخلوا الروح المنطقية رويداً رويداً في الدرس النحوي، وإن مثله كمثل إمام الحرمين أبا المعالي الجويني الأشعري حين " عُد أول عالم من علماء أصول الفقه الأشعرين الذي أدخلوا المنطق إلي حظيرة علم أصول الفقه ".

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم