تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

اياد الزهيري: هكذا فَهمتُ الرسول في القرآن (5)

الرسول والشورى في القرآن:

الرسول (ص) نقل وبكل حرص ما حَمله الوحي له من أمانة الرسالة، المتمثلة  بالقرآن، هذه المهمة لا تحتاج الى مشاورة أحد، لأن العملية  فقط بين المرسل والرسول، تتلخص بتلقي كلام الله الموحى، من عالم الملكوت الى عالم الأنس، ولكن بعد أن دُون كلام الله بنص عربي، وأنطلق الرسول بمهمة التبليغ في مجتمعه، وبدأ بتطبيق ما أوحي له في عالم الواقع، هنا جاء دور المشاركة مع رفاقه من المؤمنين، في مشاورة بينية، بل وبتوجية من صاحب الرسالة (الله) أن يتشاور الرسول مع أخوانه وأصحابه من المؤمنين (...وشاورهم في الأمر فأذا عزمت فَتوكل على الله)(ال عمران:159) . فالمشورة جاءت بتوجيه من الله الى نبيه، لأن الرسول أذا كان محيطاً وعالماً بالرسالة، فقد لا يكون عالماً ومطلعاً بشكل كبير بشؤون حياتية أخرى، لذا يتوجب فيه أن يشارك الآخرين فيها، وخاصة الذين لهم باع وخبرة في أمر معين كأن يكون أجتماعي أو أقتصادي أو حربي. فالشورى هي تعني مناقشة أمر ما بشكل جماعي، وأستمزاج  رأي كل واحد من المجتمعين، والخروج أخيراً بقرار واحد يقرره الرئيس بعد أستمزاج وتلقي آراء المجتمع بهم  أو الأكثرية، ولكن في الحقيقة هو طريقة يشرك بها الشخص الآخرين في مناقشة قضية من القضايا، منعاً لحصول الخطاً سواء في فهم الشيء أوفي  تطبيقه، وقد قال الأمام علي (ع) (من شاور الناس شاركهم عقولهم) وهو القائل أيضاً (ما خاب من أستشار)، أذن الذي يستشير يعكس الرغبة في مشاركة غيره في التفكير معاً، وأنه بعيد عن رغبة أحتكار التفكير وأتخاذ القرار، وهو مبدأ يفتح آفاق واسعة للتداول في وجهات النظر . فالقرآن مؤسس لمبدأ الشورى، وأول ما دعى في تنفيذه الى حامل القران والمبشر به، محمد (ص)، وهو فتح جديد في أدارة الحكم وأدارة شؤون الدولة والمجتمع (وأمرهم شُورى بَينَهم)(الشورى:38)، حتى نرى أن من صفات المؤمن عدم التفرد بل التعامل على أساس التشاور، وجعلها الله في القرأن علامة له كالصلاة وأنفاقه للمال في سبيل الله (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) (الشورى(36-38). فالرسول أستجاب لما أملاه عليه القرآن، والتاريخ يذكر لنا مواقف كثيرة دعى فيها الرسول (ص) أصحابه الى المشاورة، وهو القائل في بدر (أشيروا عليَّ أيها الناس)، وعلى أساس هذا المبدأ الذي دعاهم الرسول على العمل به، ما دفع بأحد أصحابه في معركة بدر في توجيهه سؤال الى النبي،( قائلاً له يارسول الله مستفسراً عن الموقع الذي نزل به جيش المسلمين، وقد أختاره الرسول (ص)، فقال له أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال يارسول الله فان هذا ليس بمنزل، فأنهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ماوراءه من القَلبُ (الآبار) ثم نبني عليه حوضاً فنملأ ماء، ثم نقاتل القوم و فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله (ص) لقد أشرت بالرأي، فنهض رسول الله ومن معه من الناس، فسار حتى اذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه)(أبن هشام ج2 ص204-205).

 وحدث الأمر نفسه في معركة خيبر عندما عسكر الرسول (ص) تحت صخرة كبيرة قريبه من الحصن، ولكن أحد أصحابه وأسمه الحباب ابن المنذر سأل الرسول فقال له يارسول الله انك نزلت منزلك هذا فأن كان عن أمر أُمرت به فلا نتكلم فيه وأن كان الرأي تكلمنا، فقال له الرسول بل هو الرأي فأشار اليه بتغير المكان، وفعلاً دعا الرسول الى أحد قادته وهو (محمد بن مسلمة الأشهل) ودعاه الى أختيار موقع آخربعيد عن حصون اليهود فأختار مكان أسمه الرجيع فأنتقلوا أليه (المغازي ج2 ص645-646).

ويمكننا أن نذكر حادثة أخرى تؤكد أتخاذ الرسول مبدأ الشورى قاعدة له، وذلك عند حادثة الأحزاب، والتي في حينها تَهيئة بعض القبائل بالهجوم على المدينة المنورة، وكانت واحدة من هذه القبائل قبيلة غطفان، فراودة النبي فكرة يُحَيد بها غطفان من المعركة مقابل أن يمنحهم ثلث ثمار المدينة  أذا أنصرفوا من المعركة، ولكن قبل أن يوقع معهم معاهدة أستشار كل من سعد بن عبادة زعيم الخزرج وسعد بن معاذ زعيم الأوس فكان ردهم (أن كان هذا أمراً من السماء فأمض له، وأن كان أمراً لم تؤمر به ولك فيه هوى فأمض لما كان لك فيه هوى، فسمعاً وطاعة، وأن كان الرأي فما لهم عندنا الا السيف (كتاب المغازي ج2ص478 )، وهناك أحداث مشابه حدثت للمسلمين كما حدث معهم مع يهود بني قريظة وأستشار فيها النبي محمد أصحابه، حيث يذكر الواقدي في كتاب المغازي ج2 ص445 أن النبي كان يكثر من مشاورة أصحابه، وذكر أبي هريرة (لم أرى أحداً كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله)(المغازي ص580)، وهناك كذلك قول لعائشة زوجة الرسول (ص) تقول فيه (مارأيت رجلاً أكثر أستشارة للرجال من الرسول) (من أسلام القرآن الى أسلام الحديث ص63).

من الملاحظ أن الرسول يشاور في أمور خارج دائرة الوحي، وهي أمور تتعلق في الأدارة العامة وشؤون الحرب وغيرها من أمور الحياة العامة، ويشاورهم  بصفته العادية كقائد لا من موقع النبوة، كما يمكننا الأنتقال الى حادثة الأفك، وهي حادثة غاية بالأهمية لأنها تحمل  بُعدين مهمين، الأول هو عدم معرفة النبي للغيب الا ما يعلمه الله، فنراه يعتريه الشك في البداية بعائشة قبل أن تنزل الآية  التي أثبتت براءتها (ان الذين جاءوا بالافك عُصبةمّنكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرِيء منهم ما اكتسب من الأثم ...)(النور:11)، بل وأستشار أسامة بن زيد وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب في تطليقها، وهنا تبرز حالتين، الأولى الشك الذي قاده بالغضب عليها، ولو كان يعلم الغيب لما غضب عليها لأن الله برأها، كما أن النبي أستشار في تطليقها، وهذا دليل على أن النبي لا يستشير فقط بالحرب كما يدعي البعض لأن حادثة الأفك لا علاقة لها بالحرب، وهي قضية ذات بعد مدني خالص. وقد أكد هذا المعنى كذلك أبو علي الجبائي المعتزلي، حيث يقول في آية (وشاورهم في الأمر) بأنها أجازت للرسول أن يستعين برأيهم، في أمور الدنيا بدون حصرها بالحرب وحدها (الطوسي في البيان في تفسير القرآن) ج3ص32 . كما هناك حوادث كثيرة شارك الرسول (ص) أصحابه في الأستشارة، ومنها عندما جيءَ بالأسرى في معركة بدر، حيث وقع بين يدي المسلمين عدد من الأسرى، وكام منهم عمه العباس وزوج بنته زينب أبو العاص بن الربيع، وقال الرسول لأصحابه، ماتقولون في هؤلاء الأسرى؟ يتضح لنا أن الرسول يتعامل كباقي البشر خارج أمور الوحي، أي بدون غطاء النبوة المرتبطة بوحي السماء، وقد ذكر الزمخشري في كتابه الكشاف بأن النبي يردد بلسان حالة (أنما أنا بشر) و(عبد ضعيف) ولو لم أكن كذلك لما كنت (غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب، رابحاً وخاسراً في التجارات، ومصيباً ومخطاً في التدابير)(الكشاف ج2 ص89 ). فالرسول كان قبل البعثة وأستمر بعدها بأنه من نصاب البشر (قل انما أنا بشر مثلكم يُوحى اليَّ) (الكهف:110) وأنه لا يُحيط بكل شيء خارج نطاق الوحي، وأنه بشر ناطق بنيابة الله بطريق الوحي، وناطق بلسان نفسة أحيان أخرى، وأنه يحتاج غيره، كما غيره يحتاجه، وهنا علينا التميز بين الرسول الموحى له، وبين الرسول البشر الذي رأيه من نفسه، وهنا وددت أن أشير الى حادثة تبين أن المسلمين الأوائل يعرفون ذلك سلفاً من خلال معايشتهم للرسول، حيث يفرقون بين ما هو موحى من الله، وبين ما هو أجتهاد شخصي من الرسول، وقد جاء ذلك في قول منهم بعد الأنتهاء من معركة حنين في ثمان للهجرة، وقد أصاب المسلمون الكثير من الغنائم، وحين قسم الرسول الغنائم أستشعر البعض بأن الرسول قد أفاض على المؤلفة قلوبهم من قريش شيء من الزيادة، ما أثار تسائل بعض الأنصار بأن قالوا، أما حين القتال فنحن أنصاره، وأما حين القسم فقومه وعشيرته . ووددنا أن نعلم ممن كان هذا، ان كان من الله صبرنا، وان كان هذا من رأي رسول الله استعتبناه) (المغازي ج3 ص956 ) . فالرسول عندما تحدث شبهه بين أصحابه، في أمر ما، وهي حالة طبيعية لا يستفز الرسول الأمر، ولا يتضايق منه، وهو معروف بالسماحة، بل وأن الله وَجَهَه بالتشاور معهم، عند حدوث مايُثير الريبه والخلاف، فالقرآن يحث الرسول بتسوية الأمر بالمشاورة (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر)(ال عمران:159 ). فالشورى مبدأ متحرك في آلياته، فيكون للزمن وتطور تقنيات المعارف، وتراكم الخبرة الأثر الكبير في أختيار الصيغة الفنية له، مع الأحتفاظ بالمبدأ، بأعتباره مبدأ كلي، فالرسول عمل به بأعتباره أمر رباني مُقر بالنص القرآني، وهو مبدأ بالحقيقة يجنب العاملين به الوقوع بالخطأ، كما يشكل حزاماً قوياً لوحدتهم ولكن من المهم معرفة نقطة غاية بالأهمية، وهي أن الشورى مبدأ يشمل الأمور المتعلة بشؤون المسلمين دون الأحكام الشرعية التي ورد فيها نص ....يتبع.

***

أياد الزهيري

في المثقف اليوم