قضايا

الشخصية واللاشخصية!!

صادق السامرائيالشخصية نمطية سلوكية مُتعلمة وراثيا أو محيطيا، ولكل مخلوق هناك آليات تفاعلية متحفزة أكثر من غيرها، إنطلاقا من مكنونات الذات ومؤثرات الموضوع والمحيط ، وقد تكون الآليات المتحفزة متقاربة الإستجابات عند الذين يتعرضون أو يعيشون ذات الظروف والمؤثرات.

أي قد يشترك مجموعة من البشر بنمطيات سلوكية متقاربة لكنها لا تتطابق حتما.

ويخضع المنتوج السلوكي لكيفيات تصنيع وبرمجة الأدمغة البشرية ، ولهذا فأن السلوك  يتبدل وفقا للبرمجة وإعادة ترتيب  وتعزيز التواصلية العصبية.

فالشخصية البشرية ذات ثوابت ومواصفات واضحة تتأثر بالتفاعلات القائمة في محيطها، ولا يصح أن تلصق الشخصية بمكانها وخصائصها الجغرافية والإثنية وغيرها، فنقول الشخصية العربية، الروسية، التركية، الهندية، الأمريكية، الأوربية وغيرها.

فالشخصية عموما وبلا إستثناء نتاج محيطها، بمعنى أن معالمها وثوابتها ذات مطواعية عالية وقدرات تكيفية لا محدودة.

وهذا ينطبق على باقي المخلوقات الأخرى.

فالظرف المكاني ينعكس في الذات البشرية  وتتحقق تفاعلية حامية ما بين الإتجاهين للوصول إلى نتائج ذات قيمة بقائية.

وعندما نتحدث عن المجتمعات البشرية والحيوانية أيضا، فأن لكل مجتمع قوانينه وتقاليده وأعرافه التي تحافظ على ديمومته وتفاعله الصالح للمجموع، وهذه الآليات يتم إستنباطها من التجارب والمواجهات والتحديات التي تساهم في تشكيل السلوك الفردي والجمعي، ولا توجد دراسات كافية لتقرير العديد من النظريات والتصورات والأفكار السلوكية، ففي المجتمعات المتقدمة هناك نظام سلوكي محكوم بقوانين راسخة وفاعلة في مفردات الحياة اليومية وفقا لضوابط وأحكام قوية ثابتة، وأي شخص يأتي من أي مجتمع تجده يمضي في سبيله وفقا لآليات الضوابط والقوانين الفاعلة.

ولهذا فأن هذه المجتمعات تستوعب جميع الأجناس بأعراقها وألوانها ومعتقداتها وما تحمله من تراث وخصائص، وفي مجتمعاتنا يتم هدم الضوابط والتقاليد والأعراف، مما أدى إلى تواجد أجيال حائرة عشوائية السلوك مضطربة التفاعلات، لا تعرف إلى أي إتجاه تسير، وبهذا فأنها تمضي متخبطة في مسارات عديمة البوصلة والربان.

ونأتي لنزيد الطين بلة  فنجتهد بالتوصيفات والتوصيمات، ونمضي بهذا المنهج التصوري التدميري الخارج عن الثوابت الواقعية والتفاعلات اليومية، التي تصلح لصناعة الحالة المواكبة لعصرها ومنطلق صيرورتها الأفضل، مما أدى إلى تسويغ الإنهزامية وتمرير الإنكسارية والتوجهات العبثية الخالية من الأبعاد المجدية.

ويبدو أن القول بوجود شخصية عربية ومن ثم قُطرية، لا أساس له من الصحة، وعندما تثبت لنا الأبحاث والدراسات أن هناك شخصية إنكليزية أو أمريكية أو صينية أو هندية، عندها علينا أن نجزم بما نريد توصيفه أو إلصاقه بالعرب.

فهناك سلوكيات متنوعة للشخصية البشرية نابعة من مخزونها المتراكم في موروثاتها، وما يتأثر ويؤثر فيه وبه وهو في وعاء الواقع الذي يكون محكوما بالعيش فيه والتواجد المصيري.

فلو أخذنا أي إنسان من أي موطن أو جنس ووضعناه في نفس الظروف فأن السلوك سيكون متشابها أو متقاربا جدا، وقد شاهدت ذات السلوك الذي كان يحصل في مجتمعنا في مجتمعات أخرى عندما تتشابه ظروفها وما يدور في وعاء وجودها.

ولو خلطنا بشرا من جميع الأجناس ووضعناهم في ربوع البيئة العربية  فأن سلوكهم لن يختلف عن أي عربي آخر يعيش ذات الحالة.

ودليلي على ذلك أن البشر من كافة أنحاء الدنيا يأتي إلى المجتمعات الغربية، وبكل الخلفيات والثقافات والعادات والتقاليد، تجده ملزما بالقيام بذات السلوك العام الذي تمليه عليه البيئة التي عليه أن يعيش فيها ويتواصل.

فإذا قلنا أن هناك شخصيات بأسماء أوطانها وأجناسها فأنها وبلا إستثناء تبدي ذات السلوك المعمول به في البيئة الجديدة.

وهذه أمثلة حية بسببها تستوعب المجتمعات المتقدمة علينا  كافة البشر وتذيبهم في بودقة مجتمعاتها وتبني بهم حاضرها ومستقبلها، وتراني أقود فريق عمل من عدة مجتمعات وثقافات وإثنيات، لكنه يحقق إنسجاما وإنسيابية رائعة في العمل، وكأنه خلية نحل متوقدة النشاط.

إن الإمعان بالتوصيف العربي أو القُطري، هو من إنتاج أدب الإنكسار ومناهج الإندثار وترسيخ الشعور بالهزيمة والسقوط في وحل الإتلاف والإنقراض الحضاري، وهناك العديد من الأقلام والعقول التي تتوهم بأنها تعرف فتنزلق إلى هذه الهاوية الخطيرة المريرة.

ومن المحزن أن معظم رواد الوعي العربي والنهضة العربية قد وقعوا في هذه الحفرة، فإجتهدوا نحو تسويغ وتعزيز وتبرير ما هو قائم، وما تمكنوا من الأخذ بالمجتمع إلى ما هو أفضل، وحتى ما حصل في عام 1967 تم الإستثمار الهزائمي الفجائعي فيه، وتم تصوير العرب وكأنهم ما توا وإنقرضوا ولن تقوم لهم قائمة، وتواصل دفعهم بهذا الإتجاه الإنحطاطي، إنطلاقا من فكر الهزيمة والإمعان بإعادة إنتاجها والإستثمار في تداعياتها، وهذا لم يحصل في ألمانيا أو اليابان أو إنكلترا أو وارسو التي أصابها ما أصابها من الهزائم والدمارات المروعة الفتاكة في الحرب العالمية الثانية.

فديدن المفكرين هو الإجابة العقيمة على لماذا الحال على هذا الحال ، فيأخذون بتنضيد  ما يحلو لهم، لكي يبرروه ويعززوه ويحسبون أنهم قدموا شيئا جديدا نافعا.

وعلى سبيل المثال الإزدواجية  التي تم لصقها بالمجتمع العراقي من قبل رواد علم الإجتماع، هي فرية كبيرة ومحاولة لتطبيق نظرية التنافر الإنسجامي (كوكنتف دسّونّس) التي جاء بها ( ليون فستنجر عام 1957)، وهو يدرس ظاهرة تنافر السلوك مع المعتقدات ويحاول تعليلها والتنبيه إلى تأثيراتها وما ينجم عنها من تفاعلات.

وخلاصتها أنك تعتقد بشيئ وتؤمن به لكنك تأتي بسلوك يتقاطع معه، فتعمل على تسويغ ما تفعله وتوائمه مع ما تعتقده بأساليب متنوعة، وهي ظاهرة سلوكية معروفة ترجمها هولاكو بإجرامية فائقة.

أما ناقلوا هذه النظرية والذين كانوا يدرسون في أمريكا عندما ظهرت أخذوها ليطبقونها على الواقع العراقي، ويلصقون به تهمة الإزدواجية، وهذا ظلم وبهتان، لأن السلوك البشري يحتمل أكثر من الإزدواجية بعشرات المرات،  إذ تجد الشخص يتقلب في سلوكه وفقا لإرادته المصلحية البقائية بعيدا عن أي إعتبار، ولا يمكنك أن تجد شخصا في المجتمع المتقدم وفيه إزدواجية وحسب، لأنه يتصرف وفقا للمصلحة، وهذا ينطبق على التفاعل مع الآخرين في عالم السياسة والإقتصاد والمال والحرب، بل أن هناك ما يمكن تسميته بالسلوك الزئبقي، الذي أوجدته العولمة وتفاعلات البشر المتسارعة على شبكات التواصل الإجتماعي.

وعليه فأن هذه المفاهيم لا أساس  لها من الواقع ولا رصيد يعززها، ويبدو القول بوجود شخصية عربية، فرنسية، أمريكية  وغيرها، نوع من الإجتهاد الظالم الذي علينا أن نبتعد عنه ونرفضه بقوة وحزم.

ترى ما هو المقصود بالشخصية العربية؟

أي ما هو التعريف العلمي الذي تبنى عليه الإفتراضات  والتصورات، وهل توجد شخصية مقرونة بالعنصر والجغرافية والتأريخ؟

كيف نستسهل التوصيف والسقوط في حفر المسميات التي تعني الإستهداف؟

فلكي تقضي على أي موجود عليك أن تسميه وتلصق به  أقبح التوصيفات التي تتقاطع مع حق الحياة والبقاء وتسويغ الشروع بسلوك الفناء الذاتي والموضوعي.

فالعرب اليوم تحت مطرقة التسميات المذمومة . التي تبيح للآخرين إخراجهم من آدميتهم وإستهدافهم، والنيل من وجودهم أو السعي لمحقهم وإتلاف ما يشير إليهم.

والخلاصة أن لا توجد شخصية بهذه المواصفات، ومن المتعارف عليه أن الكيان البشري واحد، وما فيه ناجم عن تفاعلات متبادلة ما بينه وواقعه الذي يترعرع فيه، وكلما تواصل وجوده عبر الأجيال إختزن قدرات تزداد إنتماءً للمحيط الذي توالدت فيه مرتكزاتها وموروثاتها.

ويمكن القول أن الشخصية متشابهة المفردات وذات تعبيرات سلوكية متنوعة، وعند التفاعل مع مختلف الأجناس البشرية تكتسف أن الكيان واحد والإستجابات متشابهة، ولا بمكن فصلها عن أرشيف الذات البشرية وظروفها المحيطية، وما مرت خلاله من تحديات ومواجهات وما تعلمته من آليات أعانتها على البقاء والتطور والنماء.

وما علينا إلا أن نتنبه للتفاعلات النكيدة، أو النكداوية التي تسود العالم العربي  وتساهم في إنتاج الأدب النكيد!!

فلا عيوب ولا مثالب في شخصياتنا، وإنما العيوب الحقيقية في التصورات والتوصيفات الجائرة التي تريد إخراجنا من وعاء الدنيا ونهر الحياة، وتحسبنا على غير البشر!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم