قضايا

النزعة العنصرية لدارون ونظريته وما نشأ عنها

منى زيتون﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].

شتان بين نظرة الإنسان لإنسان من سلالة أو شعب أو قبيلة تختلف عنه على أنه أخيه من أمه وأبيه؛ من حواء وآدم، وبين أن ينظر إليه على أنه من سلالة أو عرق أدنى منه وأقل تطورًا.

كان لأفكار الباحث السكاني والاقتصادي الإنجليزي الشهير "توماس روبرت مالتوس" عن "التكاثر السكاني" أثرها الكبير على تشارلز دارون صاحب نظرية النشوء والارتقاء.

في كتابه "مقالة في مبدأ السكان" وضع مالتوس مبادئ نظريته، التي قارن فيها بين معدلات تزايد السكان ومعدلات زيادة الإنتاج الزراعي، وبينما قرر مالتوس أن عدد السكان يزيد وفق متوالية هندسية (2، 4، 8، 16)، فإن الإِنتاج الزراعي في المقابل يتزايد بمعدلات أقل، وفق متوالية حسابية (2، 4، 6، 8)، وأوضح في نظريته أن استمرار هذه المعدلات على صورتها التي هي عليها سيتحتم معها نقص الغذاء عن كفاية جميع البشر.

جاء في كتابه ما نصه: "إن الرجل الذي ليس له من يعيله، والذي لا يستطيع أن يجد له عملاً في المجتمع، سوف يجد أن ليس له نصيبًا من الغذاء على أرضه، فهو عضو زائد في وليمة الطبيعة، حيث لا صحن له بين الصحون، والطبيعة تأمره بمغادرة الزمن".

ونجد تلك الأفكار عن نقص الغذاء المتاح أمام أفراد الأنواع الحية ماثلة بوضوح في كتاب "أصل الأنواع"؛ حيث يحدثنا دارون عن الصراع من أجل البقاء، وانتخاب الطبيعة للأفضل! وهو كلام يبدو مغريًا بالتصديق للوهلة الأولى!

وقد أدت نظرية مالتوس للسكان -التي سادت فترة- وابنتها نظرية دارون إلى حدوث العديد من الكوارث الإنسانية التي تمت دون أن تطرف عين لمرتكبيها بعد أن وجدوا المبرر الذي يريح ضمائرهم، فأبيدت شعوب إبادة جماعية، وتم تعقيم عرقيات من تلك التي اعتبرت أقل تطورًا كالهنود الحمر والسود في أمريكا؛ لمنعهم من الإنجاب، لأنهم ليسوا الأعراق الأفضل لاستمرار مسيرة البشرية، وقتل النازيون المرضى في غرف الغاز، كما تمت إبادة ملايين في روسيا لتقليل الوقت اللازم لأجل الوصول للتقدم والتنمية.

فهل حقًا يعتبر الصراع لأجل البقاء أساسًا لاستبقاء الحياة على سطح الأرض؟

إن مراجعة بسيطة للتاريخ الإنساني تجعلنا نقرر أن البشر خاصة لم يتقاتلوا على الغذاء كغذاء، والله تعالى حين خلق الأرض ومن عليها، قدّر فيها أقواتها، فهو لم يخلقنا من أجل أن نتصارع من أجل البقاء، وموارد العالم تكفي كل الخليقة التي خلقها الله وأعطاها عمراً لتعيش، إن أُحسن توزيع تلك الموارد. الصراع نحن من خلقناه وأوجدناه، وليس ضرورة لاستمرار العالم.

كما إن ذلك التوازن بين أعداد السكان والموارد تم الحفاظ عليه من خلال آليات عديدة مثل الكوارث والأوبئة والحروب، وقليلًا ما لعبت المجاعات دورًا مشابهًا في تاريخ البشرية، وآلية مثل الكوارث –على سبيل المثال- لا دخل لها بصلوحية الأفراد للحياة.

أما الحديث عن تكاثر نوع حي واحد والأعداد المهولة التي يمكن أن ينتجها في فترة زمنية محدودة، وماذا لو بقيت كلها دون أن يكون هناك صراع، وأمثال ذلك مما يسوقه التطوريون، هو حديث مبالغ فيه، فالكائن الحي الضعيف الذي ينتج أعدادًا هائلة في دورة التكاثر الواحدة، لم ينتج كل تلك الأعداد إلا للحفاظ على النوع؛ لأن ما ينجو منها ويبقى أعداد قليلة، وذلك بفعل عوامل كثيرة، وكلما كانت عوامل التهديد أكثر أنتج أعدادًا أكثر، والعكس بالنسبة للأنواع الأقوى فنراها لا تنتج سوى أعداد قليلة في دورة التكاثر الواحدة، وفي الإنسان يتم إنتاج طفل واحد فقط، على الأغلب.

وفي حال الأنواع الضعيفة، فموت صغارها أو عدم بلوغ الأجنة الميلاد من الأساس، ليس هو الصراع الذي تحدث عنه دارون بين الأفراد البالغة على الغذاء، فهذه مغالطة واضحة، وطالما نتحدث عن الغذاء، فمن المعروف أن سلاسل الغذاء في البيئة الطبيعية لو تُركت تعمل دون محاولة للإخلال بها -كما يحدث عادة من قِبل الإنسان- فإن ذلك كفيل بالحفاظ على التوازن البيئي.

فهل كان دارون عنصريًا؟!

في ضوء ما سجله دارون من آراء في كتابه "رحلة البيجل" عن سكان أرض النار "الفوجيين"، وهي جزر قبالة الساحل الجنوبي لأمريكا الجنوبية، تتضح لنا نزعته العنصرية التي جعلته يراهم جنسًا بدائيًا لا يمكن أن يرتقوا أخلاقيًا وعقليًا لمستوى الإنسان المتحضر! وأنهم همجيون، ولا شك أن أسلافه كانوا يشبهونهم! ووصل الحد إلى أن قارن هؤلاء البدائيين بالإنسان المتحضر، وقال إن الفرق بينهم كالفرق بين الحيوان المستأنس المدجن ونظيره المتوحش!

ويمكن تفسير هذه النزعة العنصرية لدى دارون بنشأته؛ فهو من عائلة أرستقراطية مكنته من انتحال دور أكبر بكثير مما هيأه الله لأمثاله من ضعاف العقول. وتاريخه التعليمي الفاشل قبل رحلة البيجل يظهر مستواه العقلي المنحدر.

فحقيقة تشارلز دارون أنه ليس هو الإنسان الطيب الخلوق كما حاول كثيرون ممن تعرضوا لحياته أن يصفوه. دارون هو من صاغ العنوان الفرعي لكتابه "أصل الأنواع" ليكون "الاحتفاظ بالأعراق المفضلة في أثناء الكفاح من أجل الحياة"!

إن عنوانًا كهذا يظهر إلى أي حد كانت لدى الرجل نزعة عنصرية واضحة، أنتجت نظرية عنصرية، جرت على البشرية أهوالًا، فعلاقة نظريته واضحة بكل من الداروينية الاجتماعية وادعاء سيادة أجناس على أخرى، وما استتبعها من صهيونية ونازية وإبادة لبعض الأجناس في أفريقيا.

وقد وصل الأمر في أوائل القرن العشرين أن كتب البيولوجي إدوين كونكلن المعروف بآرائه العنصرية أن الإنسان الأسود أكثر شبهًا بإنسان نياندرتال من الإنسان الأبيض أو الأصفر، وهذا يثبت أنه أقل تطورًا. ويمكن القول إنه كان –وربما لا زال- هناك تصور عام لدى التطوريين  أن الإنسان الأسود يمثل السلف المشترك المفقود بين الإنسان والقرد، أو على الأقل إحدى تلك الحلقات المفقودة.

ومن أشهر الفضائح التي حدثت في ذلك الصدد ما عُرف باسم فضيحة "أوتا بينجا"، ووفقًا لموسوعة الويكيبديا: "هو قزم من الكونغو (1883 – 1916)، تم تقديمه في المعرض الأنثروبولوجي في سانت لويس (ميزوري) عام 1904، بوصفه أقرب حلقة انتقالية للإنسان، ثم عُرض في حديقة الحيوان في برونكس عام 1906 في قفص مع بعض القردة على أنه السلف الأقرب للإنسان".

كان ما حدث لهذا الإنسان البائس الحلقة الثانية من حلقات ظلمه، حيث سبقتها الحلقة الأولى عندما تم أسره بعد قتل المستعمرون البلجيك زوجته وطفليه وسائر أهل قريته، وكان من حظه السيء أن بيع إلى صامويل فيليبس فيرنر Samuel Phillips Verner الذي وصل أفريقيا في مهمة قذرة، وهي شراء أقزام أفارقة؛ ليتم عرضهم في حدائق الحيوان في أمريكا على أنهم سلف الإنسان الأبيض، والأقرب للقرود، وذلك بغرض إثبات صحة نظرية دارون!

وهنا قد يقول قائل مدافعًا عن دارون ونظريته إن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان مستمر ودائم منذ بدء الخليقة، وإنه حتى وفقًا لقصة الخلق التي ذكرتها الكتب السماوية فإن أول جريمة قتل على ظهر الأرض قد حدثت من أخ طوعت له نفسه قتل أخيه.

وهذا كلام بلا شك صحيح، فالتمييز العنصري والاستعمار وخلافه من أشكال الظلم الجماعي الذي تقوم به قوميات تجاه أخرى لم يكن وليد منتصف القرن التاسع عشر، لكن التطور هو أيدولوجية تحمل أفكارًا عنصرية، حاولت إعطاء مبرر علمي للتمييز العنصري والصراع بين الأعراق البشرية؛ أي أنه لأول مرة في تاريخ البشرية صار ذلك الظلم مبررًا، بل ويخضع لحكم الطبيعة التي اقتضته!

وقطعًا فإن هذا الاقتناع بنظرية التطور التي هي ليست علمًا؛ إذ لا تستند إلى أدلة علمية موثوقة -رغم كل دعايات التطوريين- قد استتبعه الرغبة في الحفاظ على نقاء ذلك العرق الأبيض المتفوق، باستمرار التمييز والفصل بين الأعراق، حتى وصل الأمر في أوائل القرن العشرين لقتل وسرقة عظام جثث سكان الأعراق التي اُعتبرت أقل تطورًا، وبيعها للمتاحف في الغرب، ليتم ملء المتاحف بعظام ما سُمي زورًا بالحلقات الانتقالية لأشباه البشر! كما لا يخفى على ذي بصيرة كيف استمد الاستعمار دعمًا قويًا من نظرية دارون.

ولا زال التمييز العنصري ماثلًا في الغرب ضد الهنود الحمر والسود في أمريكا، وضد سكان أستراليا الأصليين، الذين لا زالوا يعتبرون وفقًا للنظرية أيضًا من الأعراق البدائية، وتؤخذ أراضيهم –حتى اليوم- بغير وجه حق لصالح المستوطنين البيض. وهناك الآلاف من الحالات الموثقة لتلك الجرائم العنصرية في تاريخ البشرية، من منتصف القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، ولن يكون آخرها أحداث شغب بالتيمور 2015.

إن الفرق بين الظلمة من مدعي التحضر في زماننا والبشر البدائيين أن البدائي كان أكثر وضوحًا واتساقًا مع نفسه؛ فلم يكن يختلق مبررات كي يتصرف وفقًا لقانون الغاب!

 

د.  منى زيتون

 

في المثقف اليوم