قضايا

كيف سقط الاتحاد السوفيتي بحروب الجيل الرابع؟! (3)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في المقال الثالث عن كيفية سقوط الاتحاد السوفيتي بحروب الجيل الرابع، حيث نتساءل فنقول: ما الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية لمقاومة الخطر الشيوعي في أوربا؟

بالنسبة للأمريكيين فإن عدواتهم للاتحاد السوفيتي من وجهة النظر الأمريكية تكمن في النظام السوفيتي الذي تبني النظرية الماركسية – اللينينية التي تنادي أصلاً بالقضاء علي الاستغلال، وهو التعصب الرئيسي للرأسمالية  فعدم التوافق الأيديولوجي يعود لدوافع الحرب الباردة؛ كما أن المصالح الحيوية والاستراتيجية التي يحاول كل طرف تحقيقها تدفع الطرفين  إلي العيش في حالة صراع دائم بغض النظر عن فترة تاريخية محددة نعني بها " التعايش السلمي "، أو " الوفاق الدولي". إن الخلافات الايديولوجية وتحقيق المصالح الحيوية والاستراتيجية لكل طرف هي الأسباب التي تكمن وراء الحرب الباردة وتصعيدها، وهكذا فإنه من هذا المنظور" شرعت الولايات المتحدة الأمريكية في شن حرب أيديولوجية تستهدف وأد الأفكار الاشتراكية والشيوعية والقضاء عليها قبل انتشارها علي نطاق واسع" ؛ خاصة بعد الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشر شل Winston Churchill فـي مارس 1946، وتحدث فيه عما سماه "الـسـتار الحـديدي" الـذي فرضه الاتحاد السوفيتي على دول أوروبا الـشـرقية. وبـعد سـنة مـن هذا الخطاب أعلن الرئيس الأمريكي "ترومان" عن سياسة أمريكية جديدة تجاه أوروبا عرفت  بـ" مبدأ ترومان Truman Doctrine "؛ ويتضمن هذا المبدأ "تعهدا أمـريـكياً صـريحاً والتزاماً واضحاً تلتزم بهما الولايات المتحدة للتصدي للمد الشيوعي والنفوذ السوفيتي في أوروبا وفي أي مكان آخر في العالم بكافة الوسائل بمـا في ذلك الوسائل العسكرية وحتى استخدام ما لدى الولايات المتحدة من أسلحة نووية. ولقد شكل هذا الخطاب نقطة تحول مهمة في التـاريـخ الـسـيـاسـي للعالم المعاصر، فقد كان الخطاب  بمثابة تأكيد رسمي من الولايات المتحدة بأنها سوف تقوم بدور حامي الأمـن والسلام فـي العالم".

وبعد إعـلان "مبدأ ترومان" بثلاثة شهور" أعلنـت الولايـات المتحدة عن "مشروع مـارشال" لإعادة إنعاش أوروبا اقتصاديا، والذي كان يسعـى لـتحـقـيق عدة أهـداف: أولاً: القضاء على الأوضاع الاقتصادية والمعيشـية المتدهـورة فـي أوروبـا، ثانياً: احتواء الحركات الراديكالية والثورية التي تسعى لإقامة حـكـومات اشتراكية متعاطفة مع الاتحاد السوفيتي، ثالثاً: ربط أوروبا بـالاقتصاد الأمريكي وتمهيد تغلغل الشركات الأمريكية الاقتصادية في الأسواق الأوروبية" .

ولم تكتف الولايات المتحدة بإعلان مبدأ ترومان وتطبيق مشروع مارشال The Marshall Plan، بل إنها أعلنت في سنة 1947 عن استراتيجية جديدة لمواجهة الاتحاد السوفيتي مباشرة عرفت فيما بعد "بسياسة الاحتواء"؛ وتقوم "سياسة الاحتواء على فكرة إنشاء سلسلة من القواعد والأحلاف والترتيبات العسكرية، كحلف شمال الأطلسي، وحلف جنوب شرق آسيا، وحلف المعاهدة المركزية،  بهدف تطويق وعزل الاتحاد السوفيتي ومنع انتشار نفوذه وأيديولوجيته المجاورة إلى الدول وإلى سائر أنحاء العالم" .

تعود نظرية الاحتواء إلى المؤرخ والدبلوماسي الأمريكي "جورج كينان George Kennan " (1904-2005) ونظريته في الحرب الباردة في أواخر عقد الأربعينيات في عهد الرئيس " ترومان"؛ وتحديداً في العام 1947 في مقالته الشهيرة في مجلة الشؤون الدولية حول مصادر السلوك السوفيتي، وهي "سياسة تقوم على استقطاب دول العالم حرصاً على عدم وقوعها في النفوذ الروسي آنذاك، وتصنف بالتالي وفق ذلك الفهم بوصفها سياسة دفاعية بخلاف سياسة أيزنهاور في ملء فراغ الشرق الأوسط ذات النزعة الهجومية الهادفة لبسط السيطرة على مناطق النفوذ الاستعماري الأوروبي في افريقيا وآسيا حماية للمصالح الإمبريالية" .

والاحتواء فعل وقائي استباقي وإجراء متبع إزاء الدول المسالمة لئلا يخرج من أصلابها من يلعن أمريكا، وهو بالتالي "فعل مضاد للتوسع الإقليمي بالقوة، يهدف للتغلب على نفوذ الدول المارقة التي تتمتع بنظام شمولي يعطل بقية أنظمة الدولة" .

ولذلك أسهم "جورج كينان" في وضع بلورة الإطار العام لنظرية الاحتواء التي تم احتضانها ودعمها وتنفيذها من قبل الرئيس " ترومان"، وكان الإطار النظري لسياسة الاحتواء يعتمد اعتماداً مباشراً علي تحليل أهداف الاستراتيجية  السوفيتية، وكذلك تحديد الطريقة أو الطرق التي ينظر بها السوفييت للغرب الذي عدوه العائق الرئيسي في وجه الانتشار الشيوعي . يقول كينان :" إن الاستراتيجية السوفيتية كانت في حالة جس نبض دائم، وفي مختلف الاتجاهات للحلقات الضعيفة في مركز الغرب، وتلك التى كانت تشكل فراغات قوي يمكن النفاذ منها واستخدامها كنقطة وثوب نحو إحداث تغييرات تتواءم والأهداف بعيدة المدي لهذه الاستراتيجية، وإن هذه الاستراتيجية تتمتع بخاصية المرونة، كما قامت علي "افتراض أن حركة التاريخ كانت في جانبها، وأنها لم تكن مقيدة بوقت محدد لبلوغ أهدافها، وبالإضافة فإنها لم تكن ملتزمة بوسائل نظرية محددة لتحقيق تلك الأهداف" .

وانطلاقاً من الآراء الفكرية لنظرية الاحتواء، يؤكد جورج كينان  أن إرضاء السوفييت المطلق يضر بالمصالح الأمريكية، والدخول معهم في صراع مفتوح هو أيضاً أمر قد لا تحمد عقباه، والنتيجة هي أنه يجب أن نخلق مساراً ثالثاً لا هو بالسلم ولا هو بالحرب التقليدية؛ مساراً يعتمد على الاقتصاد والتغلغل داخل الحركة الشيوعية العالمية واعطاء صور إيجابية للديمقراطيات الرأسمالية. دعا كينان من ناحية أخرى للتغلغل داخل الحركة الشيوعية، معتبراً أن" المشكلة ليست مع الفكر الشيوعي بقدر ماهي مع السوفييت، كما تبنى الطرح الذي يقول إن العقيدة الاشتراكية يمكن التأثير عليها باستقطاب شخصيات فاعلة ومدارس تكون أقرب للغرب وأبعد عن الشيوعية العدائية الراديكالية، بهدف الوقيعة بين الكرملين والحركات الإصلاحية المتعددة" .

ومن هذا المنطلق قامت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي "إيزنهاور" في وضع استراتيجية أخري لمواجهة المد الشيوعي، وهي الاعتماد علي "الإسلام السياسي"؛ وبالأخص "الإخوان المسلمين والوهابيين"؛ حيث يمكن تعبئتهم بشكل مناهض للشيوعية، والسؤال الآن : هل كان  سعيد رمضان والإخوان المسلمون واليمن الإسلامي حلفاء مفيدين في الكفاح أثناء الحرب الباردة ضد الشيوعية ؟ وهل تستطيع تلك الجماعة مواجهة الكتلة الماركسية القومية؛ خاصة إذا حظيت بتأييد من العائلة المالكة السعودية؟ وهل تستطيع الدعاية الأمريكية التي تركز علي القيم الدينية الأمريكية في مواجهة الاتحاد السوفيتي الملحدة، أن تجذب جماهير المسلمين إلي المعسكر الأمريكي أو علي الأقل بعيداً عن موسكو؟

يذكر " روبرت داريفوس - Robert Dreyfus " مؤلف كتاب " لعبة الشيطان : دور الولايات المتحدة في نشأة التطرف الإسلامي" أن "علاقة الولايات المتحدة بالإخوان المسلمين ليست وليدة الحدث،  بل تمتد لعقود طويلة خلت؛ ففي أواخر 1953م، حين برز "سعيد رمضان" زوج ابنة "حسن البنا" كمسؤول سياسي وخارجي لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وكان لقاء رمضان مع الرئيس " إيزنهاور"، في البيت الأبيض نقطة انطلاقة لرمضان كمسؤول عسكري ايديولوجي للجماعة، والذي قال :" إن عنف الجماعة نابع من إعادة تشكيل المنطقة العربية وفق المواصفات الإسلامية السلفية، وقد كانت الولايات المتحدة تنظر لرمضان على أنه حليف محتمل لها بحربها ضد الشيوعية" .

وقد كان مؤتمر جامعة برنستون للثقافة الإسلامية الذي "تم دعوة سعيد رمضان للمشاركة به، مؤتمراً أمريكياً يهدف إلي التعرف علي قيادات جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وقد كان السفير المصري هو من يقوم بهذا الدور، وبعد ذلك أصبح رمضان حليفاً للسعودية بعد وفاة حسن البنا إلي جانب ارتباطه مع مخابرات عدد من الدول الغربية" .

علي أية حال كان مؤتمر جامعة برنستون، ولقاء إيزنهاور ورمضان بداية لحقبة من الزواج العرفي بين الولايات المتحدة والإسلام السياسي، والملكيات العربية والإسلامية ممثلة في شاه إيران، وملوك السعودية، والأردن، والمغرب، فانطلقت جميع الأجهزة الأمريكية تعمل في كل مكان، وكل اتجاه لتعزيز استراتيجية الكفاح الإسلامي ضد الشيوعية. فما إن نجح الانقلاب الأمريكي ضد "محمد مصدق" (1882—1967) في إيران، وأعيد الشاه إلي السلطة، حتي كان نواب صفوي زعيم منظمة " فدائيان إسلام" التي خانت مصدق، وقد أصبح رجل واشنطن الثاني بعد الشاه نفسه، واستقدم صفوي نفسه لزيارة مصر في عام 1954، والتقي بزعماء الإخوان، وهناك رأي- يرجحه البعض- يقول "إن زيارة الزعيم الإيراني ساهمت في دفع الإخوان لمحاولة اغتيال  الرئيس المصري " جمال عبد الناصر" (1918- 1970 ) المعروف باسم "حادث المنشية" عام 1954" .

وفي ذلك الوقت صدر كتابان مريبان في القاهرة، قيل إنهما صادران من السفارة السوفيتية، ليتبين فيما بعد أن "المخابرات الأمريكية هي التي أصدرتهما، وكان الأول بعنوان " محمد لم يوجد قط"، والثاني، بعنوان " أضرار الصوم في رمضان"، وفي هذه الحرب الدعائية أطلق الأمريكيون ما سمي باسم برنامج "الخنزير الأحمر"؛ حيث تظهر شخصية سينمائية كرتونية في صورة خنزير يرتدي شعار النجم الأحمر الشيوعي، ويحاول افتراس رجل اسمه " الدين"، ليلقي الخنزير مصرعه في النهاية علي يد  الدين" (38).

كما جربت المخابرات الأمريكية وسائل خلاقة إبداعية رغم أنها لم تكتمل للتواصل مع الحركة الإسلامية، بعض تلك الوسائل وردت في كتاب " لعبة الأمم" الساخر الذي كتبه "مايلز كوبلاند" Miles Copeland عميل المخابرات الأمريكية الذي خدم في الخمسينات كضابط اتصال مع عبد الناصر وقضي سنوات عديدة في أروقة السياسة العربية .

تقاعد كوبلاند في وقت مبكر من المخابرات الأمريكية لكنه حافظ علي اتصالات وثيقة مع عدد من الذين يعملون في نفس المجال من السابقين وممن كانوا في الخدمة؛ خاصة "كيرميت وارتشي روزفلت" حفيدا "تيدي روزفلت". واستغل كوبلاند سحره ونفوذه ليدعي فهماً عميقاً بالعالم العربي ليعود من جديد. وقد أشار إلي أنه في نفس الفترة التي تم فيها إطلاق برنامج الخنزير الأحمر، فإن الـCIA  أطلقت "مشروع "بيلي جراهام" Billy Graham المسلم، وفي عام 1951 استعار "دين اتشيسون" Acheson Dean وزير الخارجية "كيرميت روزفلت" من المخابرات  حديثة النشأة ليرأس لجنة عالية المستوي من المتخصصين بعضهم من الخارجية، والبعض من وزارة الدفاع والبعض مستشارون من الشركات والجامعات ( وليس فيهم من هو من المخابرات إلا روزفلت ذاته) وكان هدف اللجنة هو دراسة العالم العربي كما قال كوبلاند وتم إطلاق عملية بيلي جراهام المسلم التي تهدف إلي تعبئة المشاعر الإسلامية، خلال اجتماع اللجنة".

وقال كوبلاند إن " أحدهم روج لفكرة تعبئة المشاعر الدينية في حركة كبيرة باسم " بيلي جراهام المسلم" ضد الشيوعية وذهب إلي حد اختيار رجل عراقي يتمتع بنوع من القدسية أو التبجيل للقيام بجولة في الدول العربية . ولم يتم الكشف عن شخصية الرجل العراقي، لكن كوبلاند اعتبر العملية بالكامل تجربة للتعلم. وقال إن المشروع لم يضر وعلمت إدارته اللجنة المعنية الكثير من الأفكار الخاطئة في تخطيطهم الأصلي، وهي دروس استفادوا منها عندما وضع مستشارو الملك فيصل أمام مشروع مماثل علي أن يكون  فيصل ذاته الرجل المبارك" .

ومن جانبه بشر "برنارد لويس" Bernard Lewis عميد المستشرقين الأمريكيين المشهور باحتقاره للمسلمين وثقافتهم، بأن" أرض الإسلام لن تكون تربة خصبة للشيوعية، وأنه يجب علي أمريكا أن لا تتوقع ديمقراطية علمانية في العالم الإسلامي، ولكن يجب أن تساند مستبداً مستنيراً، لأن العالم الإسلامي لن يقبل طغياناً علي طريقة أمريكا اللاتينية،  أو الطغيان الأوربي القديم" .

وكان برنارد لويس هو الذي ابتدع تعبير صدام الحضارات، وتعتبر مقالته في عام 1953 بعنوان " الشيوعية والإسلام" مثالاً مهماً علي التفكير السائد آنذاك بشأن معركة الأيديولوجيا. أشار برنارد لويس إلي أنه يبدو أن جماهير العالم الإسلامي تعتزم إقامة مجموعة من الحكومات الشمولية، وأن هذا ليس بالأمر السيئ إذا كان هدف الغرب معارضة انتشار الشيوعية، وقال لويس "إذا اضطر المسلمون أن يختاروا بين التخلي عن تقاليدهم لصالح الشيوعية أو الديمقراطية البرلمانية فسوف نكون وقعنا في " حيص بيص" . وكتب يقول: من المفيد لكل من الإسلام والغرب ألا يقتصر الخيار علي هذين البديلين البسيطين لأن هناك إمكانية أمام المسلمين لاستعادة تقاليدهم السابقة، ربما في شكل معدل، أو تطوير شكل من أشكال الحكومة، والذي رغم ما قد يكون عليه من شمولية، أو أوتوقراطية، إلا أنه سيكون بعيداً كل البعد عن الطغيان والظلم في الدكتاتورية الأوربية" .

وبعد اعتماد احتمال الأنظمة الإسلامية راح برنارد لويس يؤكد علي أن الإسلام لن يكون في النهاية تربة خصبة للأفكار الماركسية، وكتب لويس " الشيوعية ليست ولا يمكن أن تكون ديانة، بينما الإسلام، بالنسبة للجماهير العريضة المؤمنة، لا يزال الديانة وهذا هو قلب المقاومة الإسلامية للأفكار الشيوعية، ورغم أن تفكير المسلمين في الحرية ضعيف جداً قد لا يتواصل فإن إيمانهم بالله قد يكون قوياً بالدرجة الكافية. إن الشعوب الإسلامية ما تزال قوية الإيمان دينياً بأعمق وأبسط ما في الكلمة من معني، الإسلام كديانة ليس أقل عداء للشيوعية من المسيحية، والواقع كما قلت من قبل، قد يكون أشد عداء، لكن الإسلام ضعيف كقوة تؤثر في حياة وأفكار من يعتنقونه، المسلمون الورعون، وغالبيتهم من الورعين، لن يتسامحوا مع أفكار ملحدة، أو أفكار تنتهك تقاليدهم الدينية ومبادئهم الأخلاقية. إن الثورة الإسلامية  الحالية في مواجهة  انعدام الأخلاق والانتهازية المتواجدة بينهم وعند بعض قادة الغرب، قد تفيد الشيوعيين مؤقتاً لأنهم يظهرون بمظهر من ينكرون الذات ويخلصون للمثاليات،  لكن الأمور لن تنتهي علي هذا النحو؛ حيث سينقلب المسلمون ضد الشيوعية عندما يرون الواقع الذي تخفيه الدعاية، لنأمل ألا يستغرق المسلمون وقتاً طويلا حتي يكتشفوا ذلك" . وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم