قضايا

عبد الجبّار الرفاعي.. يفكّكُ الفهمَ المغلق في الدين والنزعة الإنسانية

احمد الديباوي"الاستسلام للتراث، واستدعائه بكافة عناصره في حاضرنا"، هكذا يلخّص الدكتور عبد الجبار الرفاعي، بإيجازٍ غيرِ مُخلٍّ، سببًا رئيسًا من أسباب تفشّي نزعات التعصُّب وكراهية ونفْي الآخَـر، والتشهير الدائم به، وما ينجُم عن ذلك من احتراب، وعنف، وإرهاب، وصراعات دينية وعِرقية وطائفية، تأكل في طريقها الأخضر واليابس، وتُغذّي رُوح الانتقام والتشفّي، حتى لتبدو صورة الآخر، المخالف في الدين والعقيدة والمذهب، في المخيال الإسلامي مشوَّهة، مشيْطَنة، تحت وطأة الوقوع في أسْرِ نرجسية دينية زائفة غير واقعية، ومنطق عقائدي أُحادي، وإيمان تقليدي حصري لا يعرف طريقًا إلى النقد أو العقل أو الحُبّ!

في كتابه "الدين والنزعة الإنسانية"، الصادر هذا العام، عن دار التنوير، في طبعته الثالثة المعدَّلَة والمزيدة، يُبحر بنا عبد الجبار الرفاعي في مبحث (من أين تشتق الكراهية مفاهيمها؟)، كما لو كان رُبَّانَ سفينةٍ ماهرًا يعرف تمامًا كيف يدير دفّة القيادة بانسيابية ودِقّة حتى تصلَ بحمولتها إلى برّ الأمان، فيستدعي في أول كلامه أُسّ المشكلة، ومنبع الداء، وهو "هاجس التراث"، ذلك الهاجس الذي تفوق المجتمعات الإسلامية أي مجتمعات بشرية أخرى في الاستسلام والإذعان له، بل تقديسه والتعاطي معه باعتباره شيئا لا تاريخيًا ومطلَقًا ونهائيا وكاملا، كأنهم يطبّقون قول العربي القديم الكسول: "ما ترك الأول للآخِر شيئا"، على الرغم من أنّ عربيًا آخرَ مبرّزًا، هو عثمان بن بحر الجاحظ، قال: "إذا سمعت الرجلَ يقول ما ترك الأول للآخر شيئًا فاعلم أنه ما يريد أن يفلح"، لكنه التقديس والتكاسُل العقلي في آنٍ، حتى أضحى التراثُ قيدًا يكبّل حاضرنا، فيحكم عليه بالفشل، لأننا نرضى بأن يحكمنا الأموات وهم قبورهم، "بل يغدو الأموات هم مصدر الإلهام للكثير من المعاني في حياتنا، وتعلي مجتمعاتنا من مقاماتهم عندما تنصبهم حُكاما على الأحياء، وتعود إليهم في ما تواجهه من تحديات، وتستعير آراءهم في أكثر القضايا والمستجدّات، فيصير مستقبلنا هو ماضينا"، كما يقول الرفاعي.

هذا هو موطن الداء، فعندما نعيش تحت وطأة التراث، ونقبله ككُتلة واحدة، ونسيج واحد دون أن ندركَ أن لذلك التراث سياقات زمانية ومكانية خاصة أنتجته، وأبعادًا سوسيولوجية وأنثروبولوجية وسيميائية وسيكولوجية، تشكل معانيه ومفرداته وخطاباته وأنساقه، دون أن ندركَ ذلك كله فإننا لن نستطيع الإفلات من أسْره وطغيانه على نفوسنا وعقولنا ومشاعرنا، وسنظل نتعامل معه بصيغة تبجيلية ربما تصل إلى حدّ التقديس والعبادة!

يرى الرفاعي أن التراث بمعنى مجموعة الممارسات الدينية والعقائد والمفاهيم السائدة في حقبة معينة من حياة المسلمين، فهو مفهوم ثقافي أنثروبولوجي، كما يرى أن المجال مفتوح لنقد هذا التراث وتفكيكه، "إذ بوسعهم غربلة ونقد المسلمات والمسبقات والميول، والمسلّمات المعرفية لفهم الكتاب والسنة، والتطلعات الدينية الموروثة من عصور سالفة"، وتأتي اللغة – في نظره – متهمة هي الأخرى؛ فهي وسيلة التواصل والاتصال وحمل المعاني، وما دمنا نروم مواكبة إيقاع الحياة، وقبول الآخر، وإلغاء المنطق العقائدي الأحادي، والتخلص مما سمّاه الرفاعي "التعبئة الأيديولوجية"، إذن ينبغي علينا أن نهجر ونستبعد من قاموس حياتنا كل الكلمات والمصطلحات الدينية الموروثة، المشبعة بالكراهية والعنف، منذ أن اشتجر الخلاف واستعر الصراع العنيف بين الفِرَق المختلفة، وهي تلك الكلمات والمصطلحات التي نهجو من خلالها الآخر، ونحطّ من شأنه، ونحتكر بواسطتها مفهوم النجاة!

1014 الدين والنزعة الانسانية

إن اللغة – إذن – ليست بريئة من تفشي الكراهية، ونشر أفكار التشدد والتعصب، عبر الأساليب والجُمَل ذات الحمولة السلبية، التي تفرّق ولا تجمع، لذلك ينادي الرفاعي بأن تُطهَّر المقررات والمناهج الدراسية في سائر مراحل التعليم من كل مفردات ومصطلحات العنف والقدح والتشهير بالآخر، فذلك ضرورة يفرضها الواقع المعيش الذي يغصّ بالعنف والإرهاب والكراهية، ولا يتوقف الأمر عند حدّ تطهير لغة المقررات الدراسية فحسب، بل لا بد من تأهيل المعلمين والمربين تأهيلا لغويًا يطهر اللغة من الكلمات المسمومة، إلى جانب تأهيلهم التربوي المعتاد، وكذا تأهيل الصحفيين والإعلاميين، بحيث يعرفون خطورة الكلمات والأساليب اللغوية ذات الحمولة السلبية، "وما يمكن أن ينجم عنها من تشويه لصورة الشركاء معنا في الإنسانية، فضلا عن شركائنا في المواطنة".

ويجعل الرفاعي من اللغة مدخلًا مهمًا وحاسمًا لفهم طبيعة القراءة السلفية التبسيطية أو الحرفية للنصوص؛ إذ إن قراءة النص بتلك الطريقة يعمل على تحجيمه، ويلبسه معنى واحدًا، ورؤية واحدة، دون أن يسبر أغواره، ويدرك مراميه، ويعرف تأويله، وما يحمله بداخله من عناصر روحية وأخلاقية وعقلانية، وهذا من نتائج القراءة المختزلة البسيطة، ويلاحظ الدكتور الرفاعي أن تلك القراءة، تحديدًا، هي السائدة في خطابات وفتاوى الجماعات الأصولية، التي "تنشد تدينًا مجوفًا، يفتقر إلى استيعاب المضمون التنزيهي المفعَم بالمعنى للتدين"، وهو تدين لا يعرف معاني الانفتاح والتعددية والثراء الجمالي والروحي، التي ترسّخ النزعة الأخلاقية والإنسانية قبل أن ترسخ الإيمان. وقد أجاد الرفاعي حقا في تشريح وتفكيك النظرة السلفية التقليدية إلى النصوص والحياة عمومًا، وهي نظرة لا عقلانية، تنبع من اللاتسامح، وتحض على العنف والكراهية، وتفرغ الدين من معانيه السامية ومحتواه الروحي والأخلاقي والعقلاني. والحال ان استحضار هذا المحتوى والتركيز عليه كفيل بالقضاء على كل مظاهر الكراهية وبُغض الآخر، لكن هيهات؛ فالسلفيون لا يرون الإسلام إلا دينًا مغلقًا على نفسه، وتراثه لا نهائيًا في التاريخ، ويستدعون بحماس منقطع النظير مفردات وتقاليد وثقافات البيئة البدوية القاسية التي نزل فيها الإسلام، دون اعتبار للتطور ودينامية الاجتماع البشري!

وبذكاء الباحث وتمكنه من أدواته، يغوص عبد الجبار الرفاعي في عُمق المشكلة، فيربط بين قساوة البيئة التي شهدت ارتباط الإسلام في نزوله بها، وطبيعة نمط التمدن الحاكم آنذاك، وبين تصورات المسلمين المتوارثة عن مفهوم الإلهيات، إذ "ترتكز الإلهيات الموروثة على بنية تستعبد الآخر، وتكرّس مركزية مطلقة، تجد مثالها الأرضي في الخليفة أو السلطان، وحكومته الشمولية المستبدة"، فصورة الإله التي تتجلّى في مخيالهم وأذهانهم هي صورة الإله المستبد، الأمر الذي جعلهم يلجؤون إلى تفسير النص الديني تفسيرًا قمعيَا أُحادي النظرة، يضج بالكراهية ممن يخالفهم في فقههم ومصطلحاتهم ولغة الخطاب الذي يتبنونه، فيحتكرون رحمة الله، ويحسبون أنفسهم أوصياء على المجتمع، كونهم يمتلكون وحدهم الحقيقة المطلقة، في الوقت الذي لا يكادون يذكرون فيه أي نصوص تتحدث عن الرحمة والعفو والغفران والرفق، ولا يعرفون سنة الله في التعارف وخلق الناس مخلفين: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود:118-119]،  أي أن أولئك السلف يتبنون أفكارًا لا تمت إلى روح الدين وجوهره ومقاصده بصلة أو وشيجة، الأمر الذي يجعل من أفكارهم مباءة خصبة لأي فكر متطرف إرهابي، يتعاطى مع المخالفين بالقتل والإبادة.

ويشير الرفاعي في معرض تفسيرهه للآية: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" [البقرة:256]، إلى حقيقة لطالما تغافل عنها السلفيون، ممن يصرون على أن تلك الآية منسوخة بما سموه آية السيف، رغم أن القرآن كله لم ترد فيه، قط، لفظة (السيف)، هذه الحقيقة هي أن المعتقَد ما لم ينبثق الإيمان به من قناعة وجدانية، وإرادة قلبية، لا يمكن أن يلامس شغاف القلب، لأن النفاق لا ينشئ إيمانًا أو اعتقادًا، ذلك أن المعتقد ليس بمثابة الثوب الذي يُلبس ويخلع بسهولة، على حد تعبير الرفاعي، الذي أخذ في ذكر الآية الكريمة التي يتحدث فيها القرآن عن المشيئة الإلهية التكوينية الحتمية، التي بموجبها يمكن أن يجعل الله جميع من في الأرض مؤمنين قسرا وإكراها، لكن الله لم يفعل ذلك؛ قال تعالى: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" [يونس: 99].

ثم يُنهي الرفاعي هذا الفصل بذكر طائفة متتالية من الآيات البينات، التي تحدد نمط دعوة الرسول الكريم الآخرين إلى الدين، فيصفه تعالى بأنه: مذكِّر، مبشر، منذر، شاهد، سراج منير، رحمة للعالمين، مبلِّغ، ليس على الناس بمسيطر أو بجبار... وما ذلك كله إلا لأن الله تعالى يمنح الإنسان حرية الاختيار، وطبيعي أن لا يكون ثمة حساب في الآخرة ومسؤولية مع سلب الاختيار في الدنيا.

ويختم الرفاعي هذا المبحث بسؤالين إنكاريين لعلّ الغافلين الجامدين يفهمون مغزاهما، وهما: إذا كان النبي، وهو صاحب الرسالة، لم يفوَّض في إجبار الناس وإكراههم، فكيف يفوَّض غيره بذلك؟! وإن كان ذلك ليس من وظائف النبي، فكيف يسوغ لمن يدّعون أنهم من أتباعه سلب حرية الناس ومصادرة حقهم في اختيار المعتقد؟!

إن الإجابة عن هذين السؤالين المهمين كفيل بأن نفهم من أين تأتي الكراهية؟ ومن أين تشتق مفرداتها في محيطنا المعرفي؟ إنها تأتي ممن يفرضون وصايتهم على غيرهم، ويشنّعون عليهم، اعتقادا منهم بأنهم يحتكرون حصريا مفهوم النجاة، ويهجسون بهاجس التراث، دون النظر إلى كونه إنتاجا بشريا، وفهما للدين وليس هو الدين نفسه، لذلك ما على المصلحين والباحثين عن الحقيقة سوى الإعلان عن المهمّش والمسكوت عنه، وفضح السائد والمتغلب في التراث، على حد تعبير الدكتور الرفاعي.

وفي الفصل الأول من كتابه: (الدين والاغتراب الميتافيزيقي) يرى الرفاعي أن (الرحمةَ مفتاحُ فهمِ المنطق الداخلي للقرآن). وكل ما جاء في القرآن معارضًا لذلك يعبر عن ظروف تاريخية خاصة فرضتها الظروف القاسية التي عاشتها الدعوة في مجتمع البعثة النبوية الشريفة. ويخلص د. الرفاعي إلى أن: (السِّلْمَ وليس الحرب هو الهدفُ المركزي الذي يرمي إليه القرآن. القاعدةُ التي أسّسها القرآنُ هي السِّلْم كما تتحدّث عنه كثيرٌ من الآيات، ومنها هذه الآية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" [البقرة، 208]. إذ ورد "السِّلْمُ" والكلمات ذات الصلة به في القرآن بحدود 140 مرة).

 

أحمد رمضان الديباوي، كاتب مصري

 

في المثقف اليوم