قضايا

العقل المغيّب. قراءة في فكر علي عبد الرازق

نبيل دبابشفي العشرية الثانية من القرن العشرين كانت البداية مع سؤال كبير، ارتبط بظروف عملية عرفتها منطقة المشرق العربي وجنوب أسيا...بعدما قام كمال أتاتورك بإلغاء نظام السلطنة ''الخلافة'' وطرد آخر سلاطين الدولة العثمانية إلى المنفى سنة 1924 م. حاولت العديد من الشخصيات العربية استغلال ذلك الفراغ ''السياسي'' للمطالبة بإعادة السلطة الروحية إلى مجدها (الشريف الحسين بن علي الهاشمي في الحجاز، الملك فؤاد في مصر..). لم يكن في مقدور المثقف السلطوي في ذلك الزمن أن يفهم عمق الثورة التي أحدثها أتاتورك وظل بعيدا عن فهم صميم الأزمة التي جعلت أتاتورك يختار مثل هذا القرار. لقد كانت النخبة المثقفة ثقافة دينية – بالخصوص - عاجزة عن تصور الممارسة السياسية كمعطى اجتماعي له آلياته المتغيرة والتي ليس من الضروري أن يكون لها مرتكزا في الشريعة.

نتج تاريخيا بسبب الصراع على السلطة مذهبين كبيرين، يختلفان في الاسم وليس في منطق التصور للسلطة وآلياتها (السنة / الشيعة). فالأول، إلى جانب تقديس النص يضفي القداسة على العشيرة ويجعل الحكم وراثيا، والثاني إلى جانب تقديس النص يضفي القداسة على أسرة بعينها ويجعل الحكم وراثيا (نظرية الخلافة/نظرية الامامة). مهما بحثنا في تفاصيل مسلسل التاريخ الإسلامي، بداية من القرن السابع للميلاد وإلى غاية بداية الاستعمار الأوروبي، فإننا سنجد نفس منطق التصور ماثلا أمامنا بمسميات مختلفة. فكل من النظرية الشيعية والسنية يجعل المقدس ثنائي البنية. انه التحول الكبير الذي صار يميز العقل السياسي الإسلامي بداية من تاريخ 661 م. لم يعد المقدس ما انزل الله على نبيه محمد (ص) فحسب، بل هو أيضا ما اختاره البعض كرؤية لبسط سلطانه.

لم يستطع الكثير من الكتاب والمشايخ في ذلك العصر، تقبل القفزة الكبيرة إلى الإمام التي قام بها كمال أتاتورك،فكثير منهم بقي متمسكا بالتصور الموروث للسلطة، ودعي إلى ضرورة تجديد سلطة الخلافة لأنها أصل الدين ومن دونها يذهب إيمان الناس وقوتهم ويزول مجدهم. كان ذلك أهم ما ميز مواقف الشيخ رشيد رضا في كتابه '' الخلافة ''، فهو يرى منصب الخلافة من ركائز الدين والخروج عنه أو عصيانه هو بمثابة الكفر بعد الإيمان.لم يستطع الشيخ رشيد رضا التفكير خارج معطيات الكتب القديمة ومنطق القرون الأولى للتاريخ الإسلامي، فظل عقله بعيدا عن عصره وأحوال زمانه. إذ نجده يشترط إلى جانب عروبة الحاكم نسبه القرشي، ويعتمد على أحاديث موضوعة هي صناعة تاريخية ارتبطت بالصراع القديم على السلطة : '' الأئمة من قريش '' '' الأمراء من قريش ما عملوا فيكم بثلاث – ما رحموا إذا استرحموا،و اقسطوا إذا قسموا،وعدلوا إذا حكموا'' (أحاديث يرويها الشيخ في كتابه الخلافة). انه لا يتوقف عند هذا الحد، بل يضفي الشرعية على أسلوب ولاية العهد الذي جعله نظام الخلافة بداية من سنة 661م تقليدا متبعا.

إن ما يخفيه خطاب الشيخ رشيد رضا أو غيره من الكتاب في زمانه، هو الصدمة العنيفة التي لم تستطع عقولهم التصدي لها أو إخفاءها.. كانت اختيارات كمال أتاتورك- بالنسبة إليهم- صفعة غير منتظرة،هم لا يملكون الأدوات لصدها،فكان الحل التقليدي وسيلتهم الوحيدة ، الفرار إلى الماضي والاحتماء به. إن المقدس السياسي – حسب منظور الشيخ رشيد رضا – في خطر، يتوجب تصحيح ما لحق به من ضرر وإعادة نظام الخلافة لأنه فريضة شرعية.

في ظروف هذا الصراع الفكري والسياسي حول  سلطة الخلافة، ولدت جهود القاضي علي عبد الرازق. لقد كانت بمثابة الطفرة التي تسبق زمنها، أو النبتة التي تنمو في ارض غير التي تعودنا رؤيتها فيها. كان طبيعيا إن يلقى الرفض وقسوة المعاملة وأصناف العقاب الاجتماعية، لان البيئة التي يحدّثها لم تنضج لديها بعد رؤية مستقلة عن الماضي الموروث ولا تملك الإرادة لخوض تجربة سياسية جديدة. إنها حال الغريق الذي يبحث عن قشة ليمسك بها وليس لديه ادني استعداد لسماع ما ينصحه به مرشدوه.

إن جهود القاضي علي عبد الرازق من خلال كتابه '' الإسلام وأصول الحكم ‘‘، هي بمثابة تحد للمقولات المألوفة في عصره وثورة على القاموس القروسطي في موضوع الحكم.إنها ثورة عقل داخل منظومة كبيرة قائمة على البديهيات المتوارثة. لم يشرع القرآن الكريم لموضوع الحكم ولا يوجد دليل في الحديث النبوي الصحيح يثبت ما ذهب إليه أنصار الخلافة. بل هو التاريخ من صنع ذلك..و لو كان لدى أنصار الخلافة دليلا شرعيا واحدا فليقدموه. إن الأمر كان متروكا للناس يتدبرونه بالوسائل التي يرونها مناسبة لحفظهم واستمرارهم.

العقل غير مقيد في مسألة الحكم، ومسائل السياسة لا صلة لها بالإيمان إطلاقا،  بل الخروج على نظام الخلافة لا يلغي التقوى. لقد عاشت المجتمعات الإسلامية ثلاثة أعوام من دون وجود خليفة على اثر هجمة التتار سنة 1258 م على بغداد ، ولم ينس المجتمع دينه ولا أهملت الفرائض والسنن . إن اختيار أتاتورك لا يتنافى ومبادئ الشريعة ،كما أن اعتماد نظاما جمهوريا أو ملكيا قائم على الدستور...ليس فيما انزل من القرآن ما يعارضه، بل كل ما ينبغي الحرص عليه هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لو كان في القرآن أو الحديث الصحيح دليلا واحدا، لما اختلف الصحابة يوم السقيفة وما تخاصموا  فيما بينهم بسبب الأمر. إن الأمر متروك للناس يتدبرونه بما يتناسب وظروفهم وحاجاتهم...فصراع الأجيال حول السلطة هو اكبر دليل على دنيوية المشروع، والذي لم يكن أبدا موضوع إجماع كما يزعم أصحاب النزعة السلفية،بل قامت حروبا طاحنة بين المسلمين لأجله، وكان دائما يؤخذ بحد السيف. إن طاعة الإمام في الحديث النبوي لا تعني وجوب الخلافة كما أن الوفاء بالعهد للمشرك لا تعني الرضا بالشرك.

وفق هاته الطريقة في التحليل، يقوض القاضي علي عبد الرازق كل الأسس التي تقوم عليها نظرية الخلافة ومعها مقولات كل الايدولوجيا السلفية...ليفتح الباب واسعا أمام كل مقترح معقول من شانه أن يجدد روح هاته الأمة بعدما تخلى عنها الأتراك. لكن سؤالنا الأساسي هو التالي: ما السبب الذي جعل فكر علي عبد الرازق يتوقف في الزمن وينتهي، ليستمر في المقابل فكر الشيخ رشيد رضا ويؤسس – لاحقا – ما يسمى بالإسلام السياسي؟ هل يمكن اعتبار السبب سياسيا، أي أن مواقف التيار السلفي كانت هي أيضا مواقف السلطات العربية في ذلك الزمن ، مما جعل فكر رشيد رضا يعرف الاستمرارية في مقابل زوال فكر علي عبد الرازق. ربما يكون سياسيا ولكن بصفة ظرفية، لان المنطقة العربية ستعرف لاحقا ميلاد أنظمة وطنية شبه علمانية.

في تقديرنا، العامل الأساسي هو نفسي – اجتماعي، ارتبط باكتشاف من ينافسنا الغرور والعزة. ولديه من الإمكانات الذاتية التي عجزنا عن تحصيلها... كان ردنا – كمجتمعات خضعت لنظام سياسي تقليدي – هو الفرار واللجوء إلى المخيلة والخوف من المرآة...علي عبد الرازق لم ينجح ولن ينجح أي طرح فكري ينتمي إلى نفس النسق.. لأننا ننتمي إلى وسط اجتماعي مهووس بالحلم والخرافة... ويخاف المغامرة والخروج من الدائرة التي رسمها لنفسه. إننا ننتمي إلى بيئة اجتماعية تضفي القداسة على كل شيء، وتنتظر الحلول دائما.

 

إننا ننتمي إلى مجتمعات لم تتغير كثيرا، منذ عشرات السنين آو أكثر. وليس لديها أي نية لاكتشاف الأخطاء وتشخيصها، بل كل ما يثير الاهتمام- لديها- هو ضرورة رضا الآخر عنها حتى، وإن هي على حافة الهاوية. لم تستطع العقول التخلص من حلم نظام الخلافة والاستعداد لبناء دولة مدنية وفق المقاييس الناجحة في عصرنا، بالرغم من كل الإخفاقات والعيوب التي عرفتها في الماضي.

رفضت – بيئتنا – فكر علي عبد الرازق وبعده فكر محمد أركون وفرج فوده وادونيس وسعيد ناشيد...و احتضنت بفرح كتب المودودي وسيد قطب والعريفي والشيخ فركوس...قد يعترض البعض، ويعتبر السبب في نجاح التيار السلفي واستمراره هو الدعم الذي يلقاه مناصروه من وراء البحار لظروف جيو- سياسية عاشتها المنطقة ..ربما يكون ذلك نصف الجواب.

إننا ننتمي إلى وسط اجتماعي يخاف من الحقيقة، ولا يقبلها إلا في قفاز إيديولوجي..لا يستطيع أن يرى العيب والضعف والتمزق إلا عند غيره...ينفعل لأبسط الأحداث ولا يستطيع أبدا تبني لغة العقل والحوار الصادق. إن جهود علي عبد الرازق، كان يمكن أن ترسم للمنطقة العربية مستقبل أفضل وبأقل التكاليف لو – فقط – تم السماح لها وعدم التضييق عليها بالأساليب التقليدية. من هي المؤسسات – في عصرنا - التي يمكن أن تسند لها مهمة إعادة بعث المسار الذي كرس له علي عبد الرازق حياته؟ للأسف، إن الأيديولوجي اخترق كل المؤسسات العلمية والأكاديمية على صعيد المنطقة العربية، ولا أمل في المنظور القريب لتخطي مستنقع الوحل الذي أمامنا.

إن فكر علي عبد الرازق، ينتمي إلى ظروف سياسية منتهية منذ ما يقارب المائة سنة، ولكن الروح التي كانت تغذيه لا تزال حية..المنطلق عنده هو العقل وممارسة النقد على الموروث الديني، ونزع القداسة عن الأسماء والحقب...الأصل عنده هو الحق واحترام الإنسان والتخلص من التقليد. صوت علي عبد الرازق، كان صوت المتديّن الصادق الذي أحب الحقيقة ورفض خطاب السلطة..المتدين الذي يفكر في الصالح العام ولا يعطي الشرعية لنصوص ميتة.

اجبر على مراجعة أقواله وآراءه، وبعد مضي العديد من السنوات يصدر الأزهر قرارا بتبرئة علي عبد الرازق من التهم المنسوبة إليه...إن جاليله ومارتن لوثر موجودان عندنا فلا داعي لتعليم الناشئة أن أوروبا كانت ضد حرية الرأي وتحارب العلماء ...كفاكم كذبا...إن أراء علي عبد الرازق -لا تزال- غير مرغوب فيها إلى يومنا هذا، وتنتقد مواقفه من قبل بعض الكتاب والخطباء من دون الرجوع إلى نصوصه !.

الأنوار العربية ليست مستحيلة، ولكن أهم ما يعيقها هو استمرار حالة العمى واستئناس العيش داخل الكهف الذي تمر به مجتمعاتنا...آن الأوان لميلاد عقول جديدة جريئة لا تكل.

 

نبيـــل دبابــــش - كاتب من الجزائر

 

في المثقف اليوم