قضايا

الأدمغة المدرّعة!!

صادق السامرائيالدماغ كون عضوي داخل جمجمة صلدة تحتاج إلى قوة لتحطيمها، لكن حقيقة الجمجمة أنها ذات أخاديد وخطوط إرتباط مع أجزائها وفي بعض عظامها هواء، والأدمغة التي تكون جمجمتها صلدة حقا ومغايرة لمواصفات الجمجمة الطبيعية، تكون قاصرة وغير قادرة على التفاعل الحيوي مع الحياة.

وبمعنى آخر أن طبيعة الجمجمة وصلادتها وسمكها وتجاويفها ذات تأثيرات متباينة على وظائف الدماغ، وقدرات إمتلاك العقل المتفاعل المتواصل مع بناء الأفكار وفضاءات الخيال الإبداعي.

ويبدو أن للأدمغة جمجمة أخرى غير عظمية وإنما نفسية، فالأدمغة تتمترس داخل جماجم نفسية، فقد تكون في جمجمة طبيعية لكنها أيضا في جمجمة نفسية صلدة، تتسبب لها بالتداعيات الناجمة عن إصابة الجمجمة بالأوستيوبتروسز، كفقدان الرؤية والسمع والعوق العقلي الشديد.

ترى كيف يضع البشر أدمغتهم في جماجم نفسية صلدة؟

من الملاحظ أن القوة تلعب دورها الأكبر في التمترس الدماغي داخل جمجمة نفسية صلدة، ويكون للكرسي أثر كبير في صناعة تلك الجمجمة.

وكما هو معروف فأن الجالس على كرسي السلطة، وعلى مر العصور لا يرى ولا يسمع ولا يفكر، فيتحرك وفقا لما في ظلمات الجمجمة النفسية التي تمترس في داخلها، وإنقطع عن فضاءات الحياة وأنوار الوجود بأسرها.

والمتتبع لما نسميهم بالطغاة والمستبدين والمدمرين لوجودهم الذاتي والموضوعي، يدرك بأنهم قد أمعنوا بالإنزواء داخل متاريسهم النفسية، وأحاطوا أدمغتهم بالقوى الموانع والمصدات حتى لتحسب أن رؤوسهم أثقل من الجبال، لما يحوم حولها من مصدات نفسية عاتية لا يمكن إختراقها والعبور إلى أدمغتهم.

وهذه الجمجمة النفسية التي حُشرت بها أدمغة المتسلطين على الآخرين، والذين تستعبدهم نفوسهم الظلماء، وتسوّغ لهم أجندات غريبة وتبعدهم عن المنطق السليم والبديهيات الواضحة، إستطاعت بناء ذلك الترس النفسي عبر مسيرة إنفعالية متراكمة العطاءات السلبية، التي تشابكت وتلازمت في مسيرة بناء الجدران التي لا تسمح بنفاذ أي شيئ، ولايمكنها أن توفر منفذا صغيرا لأوكسجين الوجود الإنساني، للوصول إلى بعض معطيات الأدمغة المعتقلة في المتراس النفسي.

وما يجري داخل الجماجم النفسية عبارة عن تفاعلات تعفن وفساد الأفكار،  ومنطلقات مخنوفة مستنقعة تفوح روائحها الكريهة في السلوكيات والقرارات المتخذة، والتي لا تجد فيها مَن رأى أو سمع أو نظر، وإنما هي إنتاج خالص أصيل لأدمغة محجوبة لا تتمكن من التحرر والإنفلات من قبضة جمجمة نفسية قاهرة ماهرة النداءات، والآليات اللازمة لتسخير طاقات السوء والبغضاء والإستثمار فيها إلى أقصى ما يكون الإستثمار السيئ الشديد.

وفي عالمنا المتعاظم التداعيات تجدنا نعيش حالات يومية متفاقمة معبرة عن سلوك تلك الأدمغة ونتفاعل معها بحيرة وإندهاش، ولا نعرف تفسيرا لما يجري سوى أن ننفعل ونحزن ونتألم ونغضب، ونغذي الجمجمة النفسية لأصحاب تلك القرارات والسلطات بمزيد من الصلادة والممانعة، والإمعان بالتصرفات القاضية بما توحي به أدمغتهم المعفرة بالبلاء.

والمشكلة أن هذه الأدمغة حالما تضع خطوتها الأولى على سبيل منهجها المظلم المقطوع، تنزلق في دوامة سريعة متوافدة من القرارات والتفاعلات، القاضية بزيادة متانة آليات الإندحار الأسود في داخل الجماجم النفسية المتزايدة الصلادة والممانعة والإنغلاق.

وفي هذا المحتدم القاسي والتفاعل المشبع بالمآسي تتغير الموجودات على بساط الأيام، وتتحرك بعشوائية وإضطراب يدفعها للدخول في متواليات إنقسامية وإصطراعية، ذات معوقات متنامية لأية حركة ذات قيمة إنسانية.

وهكذا فأن التفاعلات يشفطها ثقب أسود، ويعيد صياغها وتحرير طاقاتها ودمجها بذرات موجودات ساعية إلى الصيرورة والإنطلاق، في عالم تتوازن فيه قدرات الجذب والتنافر والتفاعل اللازم للحفاظ على جوهر الطاقات.

ووفقا لما تقدم فأن معضلة السلطة الأساسية في مجتمعاتنا وعبر العصور الطويلة، تتلخص بقدرات بناء الجمجمة النفسية المعوقة لمهارات التفاعل مع المستجدات، والمنغلقة على موضوعات وثوابت يتم تخمرها وتعفنها، وتحولها إلى نبيذ سوء وبلاء فيسكر به الجاثمون على الكراسي، ولا يستيقظون من سكرهم وغثيانهم إلا وقد تحول كرسيهم إلى تابوت، أو موقد متأجج يحرقهم، أو يكون العشماوي الذي سينفذ قرار ختامهم، وهكذا دواليك، ولا جديد في سوح الإستثمار بالويلات والتواصل في مسيرة التداعيات، التي تحيل موجودات الخير إلى أساطين شر وطوابير شرور.

فهل لنا أن نعمل على فتح نوافذ أدمغتنا لأنوار الحياة؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم