قضايا

استجاب الطهطاوي لأفكار الحداثة السياسية (1)

علي رسول الربيعيياتي خطاب الطهطاوي في سياق الحركة الإصلاحية الأسلامية، التي تنظر الى الإصلاح السياسي من مرجعية اسلامية في تناول للحداثة، وفي طريقة تلقيها أو الاقتباس منها. فقد قدم الطهطاوي وصفا وشرحا للأسباب التي أسهمت في تقدم أوروبا، ومنها تلك التي تعود الى سيادة أشكال الحكم التي تقوم على الحرية والعدل.

نهتم في هذه الدراسة بالخطاب السياسي للطهطاوي (1801- 1873)؛ أيً على افكاره السياسية سواء في صورتها المباشرة في " تخليص الابريز" أو في المضمرة في كتابيً " مناهج الالباب، والمرشد الامين"، ولاسيما البنية الداخلية لهذا الخطاب من خلال إجابة عن السؤال. كيف استجاب هذا الخطاب لتحديات الفكر السياسي للحداثة؟

يمثل خطاب الطهطاوي أول حلقة في سلسلة اتصال العالم الإسلامي بالحداثة الأوربية، فهو " أول رواية تطورية في الأدب العربي، تأخذ بنظرية التطور الحضاري وأسباب الرقي والتأخر". (المعوش1998، ص 90) فقد عبر هذا الخطاب عن الوعي باشكالية التأخر التاريخي الإسلامي، وأوضح الفارق بين تقدم اوربا الحداثة وبين تاخر العالم الاسلامي. لهذا جاء يحمل في مطافه الاخير هدفا واحدا هو الجواب على السؤال " كيف السبيل إلى ربط الإسلام بالحضارة الحديثة، " ؟ (شكري 1983، ص190)

لقد عرّف الخطاب السياسي للطهطاوي العالم الإسلامي بقيم ومبادئ الحداثة السياسية ممثلة بالحقوق المدنية، مساواة المواطنين جميعا أمام القانون والقوانين، اشراك الشعب في عملية الحكم، حقه في اختيار ممثليه‏، ومحاسبتهم علي أعمالهم‏، الحكومة يجب أن تكون مسؤولة أمام ممثلى الشعب، وأن تكون العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة بين الحقوق والواجبا؛ فتناول موضوع الحريات العامة بالتفصيل، لاسيما الحرية السياسية‏، وحقوق الانسان ً التي شرعتها الدساتير الأوروبية.

موقف الطهطاوي من الحداثة السياسية

حاول للطهطاوي في خطابه السياسي إيجاد نقاط مشتركة بين الإسلام والحداثة. وهذا نتيجة لما طرأ على تفكيره من افكار جديدة استلمها من الحداثة، يظهر فيما كتبه عن النزعة العقلية المتحررة، التي سادت فرنسا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في جانبيها القانوني والاجتماعي. (محمد حسين 1997، ص 38) انه يعكس اطلاعه على الفكر السياسي لأمثال مونتسكيو وروسو وفولتير، وعلى مبادئ الثورة الفرنسية. فيعتبر خطاب الطهطاوي من أولى محاولات تضمين الإسلام ببعض جوانب الحداثة.

كان خطاب الطهطاوي محاولة لأدخال المبادئ العامة والافكار السياسية للحداثة في اطار النظرية السياسية الاسلامية. فمضمون الحداثة السياسية التي قصدها الخطاب تتعلق أساسا بمفاهيم العدالة والحرية السياسية. يتضمن الخطاب تفاصيل مهمة عن النظم السياسية والحكومة والدستور فهو يعد أول محاولة لتأصيل الفكر السياسي الإسلامي عن طريق الاحتكاك بالحداثة الأوربية وأنظمتها السياسية.

لقد انعكس الفكر السياسي للحداثة في الخطاب السياسي للطهطاوي بدرجات متفاومة من خلال شرحه نظام الحكم الدستوري والحقوق المدنية للمواطنين، وعـرض وثيقة حقوق الإنسان التى نادت بها الثورة الفرنسية. وكذلك من خلال ترجمته للدستور الفرنسى الصادر عام 1814م، والاعجاب بثورة سنة‏1830 فى فرنسا مبينا أسبابها، وبموقف الفرنسيين منها. (سابايارد 1992، ص 28) فقد رسم خطاب الطهطاوي صورة مفصًلة لمؤسسات الدولة الفرنسية وسلطاتها التشريعية والتنفيذية، مدركا أن المقصود من هذا النظام هو تقيـيد سلطة الملك واخضاع الحكومة لرقابة نواب الامة وإلزام الجميع باحترام الدستور‏؛ وأن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد. فملك فرنسا ليس حاكم مطلق التصرف ولكن عليه ان يعمل بالقوانين وتحت نظر مجلس الشيوخ الذي يمثل الارستقراطية الملكية‏، ومجلس النواب الذي يمثل الأمة. (الطهطاوي 1973، ص95)

يوظف الطهطاوي منهجية القياس، والمقارنة، والمماثلة في تناوله مسالة التوفيق بين بين الاسلام والحداثة؛ فيماثل بين طريقة أصول الفقه وبين منهجية استنباط الأحكام في الفكر السياسي للحداثة، فيقارن بين النظام السياسي الإسلامي والنظام السياسي للحداثة في أوربا، ورغم ان الاول يستند الى الشريعة الإسلامية والاخر الى قانون طبيعي، الا انه يرى الاختلاف الظاهر بينهما يتعلق بالتفاصيل لا بالمبادئ الاساسية التى يقوم عليها كليهما. فتنظيم الشريعة لا يتناقض مع اغلب القوانين الطبيعية. فقد نظر الى الفكر السياسي للحداثة في علاقته بالاسلام من وجهة النظر هذه فيقول : " من زاول علم اصول الفقه … جزم بان جميع الاستنباطات العقلية التى وصلت عقول اهالى باقي الامم المتمدنة اليها، وجعلوها اساسا لوضع قوانين تمدنهم واحكامهم، قبل ان تخرج عن تلك الاصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية.فما يسمى عندنا بعلم أصول الفقه يسمى مايشبه عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية، وهي عارة عن قواعد عقلية، تحسينا وتقبيحا، يؤسسون عليها احكامهم المدنية، وما نسميه بفروع الفقه يسمى عندهم بالحقوق او الاحكام المدنية، وما نسميه بالعدل والاحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية " (الطهطاوي 1973،ص469).

ويستعمل هذه المنهجية، ايضا في محاولته وصف وتأصيل مفاهيم الفكر السياسي الليبرالي مثل المواطنة، والحرية، والعدالة، فيقول "وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يُطلق عليه عندنا العدل والإنصاف وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة ". (الطهطاوي 1973، ص 102)

الأقتباس من المدنية الاوربية

قدم الطهطاوي صورة عن الحداثة؛ داعيا المسلمين الى الاقتباس من ثمراتها، مما هو جدير بالاقتباس، باعتبار أن البلاد الإسلامية تحتاج منها الى كسب ما لا تعرفه، وجلب ما تجهل صنعه؛ (الطهطاوي 1973، ص16). لقد نصح المسلمين باكتساب وتبني الحضارة الاوربية الحديثة المتفوقة ليتغلبوا على ضعفهم وتخلفهم. ومن هنا تاتي ضرورة الإحتكاك المباشر بالأوربيين فهي الطريق الوحيد للإستفادة منهم؛ أذ أنً " مخالطة الأغراب، لاسيما إذا كانوا من أولى الألباب، تجلب للأوطان من المنافع العمومية، العجب العجاب". (الطهطاوي 1973، ص398)

لقد شكل خطاب الطهطاوي صيغة ثنائية توفيقية تجمع في مركب واحد بين " الإسلام الصحيح " و" الحضارة الحديثة "، ولم يرى اي تناقض او تعارض بينهما، لانه كان يعتقد ان نهضة اوربا الحديثة قامت في احدى ركائزها على تمثل واستيعاب التراث الإسلامي، وبالتالي من المبرر الأقتباس منها. (شكري 1983، ص 158) وانطلاقا من ذلك اكد على مشروعية الاقتباس من الحداثة فيما يتعلق بالنظام السياسي والقانوني للدولة، لا لانه لا يتناقض مع الاسلام فحسب، ولكنه يجسد قيم العدالة الاسلامية.

لقد حاول الطهطاوي، وفق صيغة التوفيق، البحث عن التشابه بين علم اصول الفقه الإسلامي ومنهج الحداثة في الاستنباطات العقلية كما توصل اليها الاوربيون، لكن لابد من الاشارة الى ان هذا لايعني تبنيً تلك الاستنباطات ولكن ليبين السبق الاسلامي لها. والامر نفسه فيما يتعلق بالحرية فهي موجودة في الإسلام تحت مفهوم العدالة. وهذه هو مستوى تسويغ الطهطاوي لأفكار الحداثة (الطهطاوي 1973، ص469)

إن تمعين النظر في خطاب الطهطاوي، ووضع المفاهيم التي يستعملها في السياق الداخلي لهذا الخطاب يكشف ان الطهطاوي يقدم وصفا للافكار السياسية للحداثة ويوضح ما شاهده من تطبيق لهذه الافكار في اوربا " فقد أظهر حسنات التمثيل الديمقراطي في فرنس، لكنه لم يوجبه بالنسبة الى المسلمين (سابايارد 1992، ص65)، فهو لايتبنى هذا الفكر ولايدعو الى تطبيقه كايديولوجيا في مصر او العالم الإسلامي. فعندما يتناول نظام الحكم الاسلامي يعود الى السياسة الشرعية والفقه السياسي الاسلامي، واقصى مايقوم به هو محاولة التوفيق بين بعض تلك الافكار والاسلام.

لقد مثلت مسالة التقدم نقطة مركزية في اهتمام الخطاب السياسي للطهطاوي، الا أن هذه الاهتمام لم يستدعي معه المفاهيم المرتبطة بهذا المفهوم مثل الحرية، والحقوق الطبيعية، والعقد الاجتماعي بقدر ما اتجه الخطاب نحو مفهوم التمدن، الذي اعتبره الطهطاوي مطابقا للتقدم. فهو عندما يستعمل مفهوم التقدم يترجمه باستمرار الى المترادف في مفاهيمه، وهو مفهوم التمدن. انه يستعمل هذا المفهوم بوصفه تصورا يقدم بديلا لأوضاع الانحطاط السائدة؛ حيث يكون فيه " التنظيم عين التمدن.") الطهطاوي 1973، ص469). فيقوم التمدن عن الطهطاوي على محورين رئسيين يشكلان مجموع اهتماماته النظرية : محور الإصلاح السياسي، ومحور المنافع العمومية ولايمكن الفصل بينهما في خطابه، ولكن مقتضيات الدراسة تدفعنا للتركيز على الجانب السياسي من خطاب الطهطاوي. أيً على الدلالات والابعاد السياسية للمنافع العمومية فقط.

كانت الفكرة المحورية التي توجه خطاب الطهطاوي السياسي، أذن، هي فكرة المنافع العمومية التي لايمكن ان تتحقق الا بتقليد بالاوربيين بوصفهم اكتسبوا اسباب القوة؛ وأن المنفعة الأساسية للممالك الإسلامية هي في اكتساب هذه القوة؛ لذلك الواجب : " هو حث اهل ديارنا على استجلاب مايكسبهم القوة." (الطهطاوي 1973، ص399) يستعمل الطهطاوي، أذن ن مفهوم التمدن الإسلامي ليفكر بواسطته في صلاح العمران، وصلاح الأمة الإسلامية. ان تفكيره في التقدم والتمدن أنتج نصا هاما في سياق الخطاب الإصلاحي الإسلامي في القرن التاسع عشر، يرسم من خلاله نهجا في طريقة التعامل مع اوضاع التاخر وسبل تجاوزها.

رغبته الطهطاوي في اقتباس أفكار الحداثة هذه دفعته للتقريب بين هذه الافكار والاسلام؛ وقد وظّف طريقة التأويل للتوفيق بينهما فيقول: " إنه قد لا تقتضي الأوضاع الشرعية المتأدب بها في المملكة عين المنفعة السياسية إلا بتأويلات للتطبيق على الشريعة." (الطهطاوي 1973، ص265) ويبرر أهمية الأقتباس من الحداثة لأنها كانت فى الأصل إسلامية، استمد الأوربيون أصولها من الحضارة الإسلامية ثم عملوا على تطويرها وإذا تبنى منها المسلمون اليوم، فهم يستردون ما كان لهم فى الماضي. فأوربا قد نهلت من معين التجربة الإسلامية، ولا يوجد ما يمنع من التواصل مع اجدادنا عن طريق الغرب (شكري (1983)، ص157)

لذلك يرى الطهطاوي ان الرافضين للاقتباس من الحضارة الاوربية الحديثة واهمون، لان الحضارة دورات متلاحقة، ومتعاقبة تنتقل من مجتمع الى آخر، فعلى المجتمعات ان تقتبس من بعضها وهذا ما فعلته اوربا وبنت لنفسها حضارتها الخاصة، فالتمدن هو جهد وليس حالة فطرية للانسان. (جدعان، فهمي 1985، ص108) ويحذر المسلمين من اتخاذ موقف رافض للحداثة، قائلا :" إياك أن تجد ما أذكره لك خارقاً عن عادتك، فيعسر عليك تصديقه فتظنه من باب الهذر والخرفات، أو من حيز الإفراط والمبالغات. » الطهطاوي 1973، ص11)

يتضمن خطاب الطهطاوي بعض الافكار الجديدة رغم انها محمولة على مصطلحات من التراث الاسلامي التقليدي مثل: الوطن، ابناء الوطن، الوطنية، فاول مرة مع خطاب الطهطاوي أصبح مفهوم ابناء الوطن يشير الى " أن ابناء الوطن دائما متحدون في اللسان، وفي الدخول تحت اسرعاء ملك واحد، والانقياد الى شريعة واحدة وسياسة واحدة "، (الطهطاوي 1973، ص433) في حين كان الانتماء قبله يعني الانتماء الى الأمة الإسلامية، او الى دار الإسلام مع اختلاف اللغات، وتعدد السلطة السياسية، فهذا الذي يطرحه خطاب الطهطاوي لم يكن متصورا قبله في الفكر السياسي الإسلامي. انه يدل على تاثر هذا الخطاب بمفهوم الدولة القومية. (الدوري 1984، ص143)

ماثل خطاب الطهطاوي بين معنى المساواة في الشريعة الإسلامية ومعناها في الدستور الفرنسي، فاعتبر الشريعة والقانون مترادفين فيقول: "إن المادة الأولى في الدستور الفرنسي تذهب إلى أن سائر الفرنسيين مستوون قدام الشريعة " (الطهطاوي 1973، ص102.) لقد ساوى بين مفهوم العدل، والمساواة، وبين مفهوم الحرية؛ وكذلك بين العدالة في الدستور الفرنسي والعدالة في الشريعة الإسلامية؛ فأعتبر الدستور الفرنسي قائم على العدالة رغم مخالفته للشريعة الإسلامية، وهذ ه العدالة سبب اعمار البلدان؛ فيقول عنه "وغالب ما فيه ليس في كتاب الله ولا في سنته رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولنعرف كيف حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك، وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلادهم، وكثرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهـم." (الطهطاوي 1973، ص95.) لكي يبين ان العقل بذاته توصل أن العدل والانصاف من أسباب تمدن البلدان، وان الحكم بالدستور من قبل الحكام يحقق هدف الحكم وهو رعاية مصالح المحكومين ويقيم أسس العدالة؛ فالعدالة أساس العمران.(الطهطاوي 1973، ص95)

انه ينطلق بخصوص الاقتباس من مبدا مفاده أن الافكار الصادرة عن العقل لاتتنافى مع الشريعة، لذلك فان ما احتوت عليه الحداثة من افكار تتعلق بالدولة والقانون، كما هي مطبقة في الدولة الفرنسية، رغم انها غيرمستمدة من القرآن والسنة النبوية الا انها تـُقيم العدالة التي تعمر البلدان، والعدالة في جوهرها لاتتناقض مع مبادئ الإسلام فيقول عن الفرنسين، بوصفهم يطبقون افكار الحداثة، لقد توصلوا بواسطة العقلانية الى ان العدل والانصاف والحكم وفقا للقانون من اسباب تعمير البلدان فعمرت بلادهم.(الطهطاوي 1973، ص102)

قام الطهطاوي بتبرير الأقتباس من خلال مناداته بإستعارة العناصر النافعة من الحداثة لأنها برايه تساهم في حل المعضلات الإنحطاط التي تواجه الاسلام. فحاول التوفيق بين افكار الحداثة السياسية المتعلقة بانظمة الحكم وبين مبادئ الفقه السياسي الإسلامي، وقارن بين شرعية الحكم التي تاتي من تطبيق الشريعة وبين الشرعية في الفكر السياسي للحداثة التي تستمد من من ارادة المواطنين، ومن تعاقدهم على تقسيم السلط. اذ يرى ضرورة خضوع السلطة الحاكمة للقوانين تطبيقا لمبدأ سيادة القانون، وهذا لايتعارض مع جوهر الإسلام، لانه ليس الا تطبيق حديث لمبدا اساسي في الحكم الإسلامي، وهوخضوع الحاكم للأحكام الشرعية الإسلامية، فالحكم الإسلامي يقيد سلطة الحاكم، مثل الدساتير الحديثة التي تقيد سلطة الحكومة. (حجازي 1974، ص45)

وكان من رأيه أنه لا تعارض بين الشريعة والقوانين الوضعية، فالشريعة يمكن أن تفسر طبقا لحاجات العصر. فعلى العلماء، وهم يفسروا الشريعة، أن يكونوا على دراية وفهم عميق بإحتياجات العصر. وأن يتعرفوا إلى العالم الحديث، ويدرسوا العلوم التي أنجزها العقل البشري.

(Hourani (1983): pp.75)

لكنه أعطى الطهطاوي الأولوية للشريعة الإسلامية على أي قانون وضعي، فهي تتضمن كافة المسائل الصغيرة والكبيرة، والاحكام السياسية ايضا لاتخرج عن المذاهب الشرعية ((الطهطاوي 1973)، ص544). ويرى أن العدل لا يقام الا بقدر ما يكون للشريعة من دور في التنظيمات السياسية؛ لأن الشريعة الإسلامية ساوت بين الجميع في العدل والإنصاف، ولهذا أصبحت معيار السياسة، وميزان السلطنة؛ والحكم وفقا لها يمنح الفوز بسلامة الدنيا والآخرة، ويقيم العدل في صيانة النفس والمال؛ فـمن اسباب التمدن هو تطبيق الشريعة. (الطهطاوي 1973)،ص470)

يتبنى خطاب الطهطاوي العقيدة الأشعرية التي تقول بأن الحسن والقبح تحددهما الشريعة الإسلامية، ولهذا هو يعطي الأولوية لأحكام الشريعة على أحكام العقل، فيقول: "ليس لنا أن نعتمد على ما يحسنه العقل أو يقبحه إلا إذا ورد الشرع بتحسينه أو تقبيحه. " (الطهطاوي 1973، ص467) وأن سـبيل تمدّن الممالك الإسلامية يقوم على التحليل والتحريم الشرعيين دون الحاجة الى العقل في ذلك.

و هذا يعني أن الطهطاوي يحتكم إلى العقيدة الأشعرية في تقييم الأفكار والمفاهيم السياسية للحداثة، ويظهر ذلك جليا عند تناوله مسالة اعتبار العقلانية مقياس الحكم في تفسير العالم والوصول الى الحقيقة "إن الفرنساوية من الفِرق التي تأخذ بالتحسين والتقبيح العقليين، وهم ينكرون خوارق العادات، ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلاً." (الطهطاوي 1973)، ص79) وجهة النظر هذه جعلت خطاب الطهطاوي يضع هوة واسعة تقف حائلا دون انتاج رؤية نظرية متماسكة بين الفكر السياسي للحداثة وموروثه الأشعري. فالقول " كان الطهطاوي " مفكرا " يعتمد التحليل والتركيب. ولم تجئ دعوته تلفيقا وترقيعا، بل " ثنائية توفيقية "(شكري 1983، ص158). قولا يفتقد التماسك لانه ينظر للافكار خارج سياقها الداخلي وبنيتها العامة. أذن ان ما لعب دورا مؤثرا ماثر في طريقة تشكيل خطاب الطهطاوي وهو يتناول الفكر السياسي الليبرالي هو هيمنه العقيدة الإسلامية الاشعرية التي تعطي إعطاء الأولوية للنقل على العقل، وأعطى الأولوية الشريعة في نظرته للحداثة.

فكل ما كان يهدف اليه الطهطاوي من وراء ترجمته أفكار روسو، ومونتسكيو وفولتير، ومواد الدستور الفرنسي، هو وإطلاع اهل الحل والعقد والفقهاء على ما انجزته الحداثة الاوربية لابراز اهمية التجديد في التشريع؛ والأشارة الى أن تقدم أوروبا يعود الى نظامهم السياسي القائم على الحرية، والدليل على الامر لايتعدى الوصف والشرح، نجده في خطاب الطهطاوي نفسه، عندما يرفض طريقة تشريع القوانين الاوربية فيقول: "إن أحكامهم القانونية ليست مستنبطة من الكتب السماوية، وإنما هي مأخوذة من قوانين أخرى أغلبها سياسي، وهى مخالفة بالكليًة للشرائع. (الطهطاوي 1973، ص106. أنه بالنهاية يعود فيغلّب الشريعة؛ اذ إن تحسين النواميس لا يعتد به إلا إذا كان قد قرره الشرع. (الطهطاوي 1973، ص467)

هناك تجاهلاً واضحاً في خطاب الطهطاوي بأن الفكر السياسي للحداثة لم يتقدم في أوروبا إلا بعد الانتقال من اللاهوت السياسي الى الفلسفة السياسية، وبعد فصل سلطة الكنيسة عن سلطة الدولة،، لقد ظل في المطاف الاخير يحتكم الى عقلية معيارية اسلامية تقليدية تقيم كل شيء وفقاً لرؤية المعيار الديني الكفر/الإيمان، والهداية/الضلال.

 

الدكتور علي رسول الربيعي

 

في المثقف اليوم