قضايا

مشروعية العلاقة بين المنطق والنحو عند نحاة القرن الرابع الهجري (2)

محمود محمد علينحاول في هذا المقال الثاني الكشف عن مشروعية العلاقة بين المنطق والنحو عند نحاة القرن الرابع الهجري ؛ لاسيما، وقد خضعت البحوث النحوية على أيدي هؤلاء النحاة  في هذه المرحلة للمنطق في كلياتها وجزئياتها ؛ أى في مناهجها وأصولها ثم أحكامها، حقيقة لا يرفعها ما حدث في هذه المرحلة نفسها من هجوم بعض النحاة علي المنطق نظرا ونقدهم للنحاة المسرفين فيه فعلا . ولعل أبرز من أسهم في هذا المجال " أبا علي الفارسي"  في نقده لاتجاه "علي بن عيسي الرماني"، الذي يراعي فيه الحقائق المنطقية ويحرص علي الاهتداء بها، إذ يقول " لو كان النحو ما يقوله الرماني لم يكن معنا منه شئ " . ومن قبله أبو سعيد السيرافي الذي يرفض اعتبار المنطق مقياسا صالحا للاستخدام في كافة العلوم، وعلي رأسها النحو.

وهذا الهجوم على المنطق نظرا، وعلى المسرفين في تطبيقه في مجال البحث النحوي خاصة، لا يؤثر في تلك الحقيقة التي أشرنا إليها منذ قليل، وهي خضوع البحوث النحوية للقواعد والأساليب المنطقية لسبب يسير جدا، وهو أن هؤلاء النحاة الذين هاجموا المنطق قد تأثروا به بالفعل في إنتاجهم النحوي، وتحليل إنتاج هؤلاء النحاة يكشف عن أن هذا التأثير بالبحوث المنطقية قد بلغ درجة الخضوع الكامل لاتجاهات المنطق اليوناني، والالتزام الدقيق بشروطه، ومقدماته،وأشكاله، وقضاياه . ونظرة واحدة إلى شرح كتاب سيبويه للسيرافي، ثم إلى المحفوظ من كتب " أبي علي الفارسي "؛ وبخاصة كتابه " الإيضاح"، كافية لتأييد هذه الحقيقة، ففي كافة مجالات الدرس النحوي التي يدرسها " السيرافي " في شرحه،ويتناولها " الفارسي " في إيضاحه، مجد أثر الثقافة المنطقية واضحا في الحدود،والتقسيم،والتمثيل،والتعليل، أي في الأصول والفروع جميعا .

ومن ثم يأتي هذا الفصل ليقدم صورة للتفاعل الإيجابي المثمر مع الثقافة المنطقية اليونانية، مما جسده الفكر النحوي في القرن الرابع الهجري لدى خمس شخصيات من أهم نحاة العربية الكبار: "ابن السراج"، و"الزجاجي"، و"السيرافي"، و"أبو علي الفارسي ".

أولًا : أبو بكر السراج:

يعد ابن السراج من أوائل نحاة القرن الرابع، الذين أفادوا من الثقافات الجديدة، وأفسحوا لها السبيل لكي تؤثر في الدرس النحوي تأثيرًا واضحا وفاعلا ؛ فقد قال عنه ياقوت الحموي : "ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله" ؛ حيث ظلت أبواب النحو ومسائله ردحا من الزمن مضطربة مغلقة، مثار جدل،وأخذ ورد يكتنفها الكثير من الغموض واللبس، إلى أن جاء ابن السراج فأنار دروبها المظلمة، فبوب وهذب وقارن وعقل كل مسألة بأصولها، فاختفي ذلك التداخل في الأبواب، وذلك الاستطراد الممل، وحل محلها حسن الترتيب والتبويب، والنظرة القويمة المبنية علي سلامة النطق والفكر.

وعن كتاب الأصول قال ابن خلكان : " وهو من أجود الكتب المصنفة في هذا الشأن وإليه المرجع عند اضطراب النقل واختلافه"، وقد قال عنه بعض الباحثين إنه رائد الاتجاه المنطقي في النحو العربي ؛ حيث كانت محاولته لتقنين أصول النحو بداية لهذا التحول الفكري في صياغة النحو العربي صياغة منطقية.

ومما يروي في هذا الصدد أن " أبا بكر السراج " كان " يتلقى المنطق علي يدي الفيلسوف " أبي نصر الفارابي " المتوفى سنة 339 هـ، كما كان الفارابي يتلقى عليه النحو، وأنهما اتفقا على ضرورة مزج النحو بالمنطق "، قال ابن أبي أصيبعة :" وفي التاريخ أن الفارابي كان يجتمع بأبي بكر بن السراج، فيقرأ عليه صناعة النحو وابن السراج يقرأ عليه المنطق .."، ولكن ابن السراج لم يكن نحويا فحسب، ولكن كان علي اتصال بفكر المعتزلة أيضا، فقد ذكر أبو حيان التوحيدي، أن مراسلات جرت بين ابن السراج وأبي الحارث الرازي تتعلق بفنون الكلام.

وقد ألف " ابن السراج " فيما ألف كتابا سماه " أصول النحو " وقد وصفه المتقدمون بأنه " أحسن مؤلفاته وأكبرها، وإليه المرجع عند اضطراب النقل واختلافه، جمع فيه أصول علم العربية، وأخذ مسائل سيبويه، ورتبها أحسن ترتيب "، كما وصفه " الزبيدي " بأنه " غاية في الشرف والفائدة " .

وقد قال " المرزباني " في صفة هذا الكتاب " صنف كتابا في النحو سماه "الأصول" انتزعه من أبواب كتاب سيبويه، وجعل أصنافه بالتقاسيم على لفظ المنطقيين، فأعجب بهذا اللفظ الفلسفيون، وإنما أدخل فيه لفظ التقاسيم، فأما المعني فهو كأنه من كتاب سيبويه علي ما قسمه ورتبه، إلا أنه عول فيه على مسائل الأخفش ومذاهب الكوفيين، وخالف أصول البصريين في أبواب كثيرة لتركه النظر في النحو وإقباله على الموسيقى .

وما قاله " المرزباني " يفيد أن "ابن السراج"، كان من الذين ملك المنطق عليهم نفوسهم، فأعجبوا به أشد الإعجاب، وانتصروا له أيما انتصار، لدرجة أنه كان يقحم المنطق في صميم المادة العلمية .

وهذا المعني نستروحه في كتابه " الأصول " حيث نهج فعلا في هذا الكتاب هذا المنطق المنهجي، سواء في التعريفات، أو في الاستدلالات، فعلى المستوي التصوري للمصطلحات النحوية، من حيث تعريفاتها وبيان حقائقها يمكن تلمس أثر المنطق في المقدمة التي كتبها ابن السراج لكتابه " الأصول " ؛ حيث يعمد إلى ترتيب الموضوعات ترتيبا منطقيًا صارمًا تراعي فيه اعتبارات العموم، ثم التقسيم حسب الضرورة المنطقية . يقول "ابن السراج " فقد أعلنت في هذا الكتاب أسرار النحو وجعته جمعا يحصره، وفصلته تفصيلا يظهره، ورتبت أنواعه وخصوصه في مراتبها " .

ومن الواضح أن "ابن السراج" قد أفاد من المنطق، وبخاصة من الناحية الشكلية ؛ حيث دأب في أغلب أبواب كتابه " الأصول " علي استخدام أسلوب المناطقة في التقسيم، والترتيب، من ذلك قوله :" الحروف تنقسم إلى ثلاثة أقسام ... الأسماء التى ترتفع خمسة أصناف ...الأسماء المنصوبة تنقسم قسمة أولي علي ضربين ... الضرب الأول ينقسم إلي قسمين : مفعول ومشبه بمفعول، والمفعول ينقسم إلي خمسة أقسام " .

والملاحظ أيضا أن هذا التأثر بالمنطق في الجانب التنظيمي، أدي بابن السراج إلى استخدام الكثير من مصطلحات وألفاظ المنطق، من ذلك استخدامه مقولة الجنس والنوع، ففي باب الاستثناء يقول :" الاستثناء الصحيح، إنما هو أن يقع جمع يوهم أن كل جنسه داخل فيه، ويكون واحد منه أو أكثر من ذلك لم يدخل فيما دخل فيه السائر بمستثنيه منه، ليعرف أنه لم يدخل فيهم، نحو " جاءني القوم إلا زيد".

ويقول كذلك في باب التمييز :" فالتمييز إنما هو فيما يحتمل أن يكون أنواعًا ". كما قسم الاسم المفرد المتمكن في الإعراب على أربعة أضرب أحدها الجنس قائلا :" الجنس : الاسم الدال علي كل ما له ذلك الاسم، ويتساوي الجميع في المعني، نحو الرجل، والإنسان، والمرأة والجمل ... وجميع ما أردت به العموم، مما يتفق في المعني بأي لفظ كان فهو جنس، وإذا قلت : ما هذا ؟ فقيل لك : إنسان، فإنه يراد به الجنس، فإذا قال : الإنسان فالألف واللام لعهد الجنس وليست لتعريف الإنسان بعينه ".

وإذا ما اتجهنا إلي التعاريف ذاتها،لنتأكد من هذا المعني بدراسة بنيتها، فأول ما نلاحظه أن " ابن السراج " يحرص في الغالب على أن يراعي مقولة المعرف ؛ فيصدر التعريف بلفظ يناسب تلك المقولة، ويدل عليها، ولنأخذ مثالا لذلك تعريفاته لأجزاء الكلام الثلاثة، يقول " الاسم ما دل علي معني مفرد، وذلك المعني يكون شخصا وغير شخص " وإنما قلت ما دل على معني مفرد لأفرق بينه وبين الفعل إذا كان الفعل يدل على معني وزمان، وذلك الزمان، إما ماضي وإما حاضر، وإما مستقل " .

ثم إننا كثيرا ما نجد " ابن السراج "، يشير في التعريف إلي أنه من باب الحد قائلًا ( حده كذا )، يتضح ذلك حين عرف " المضاف إليه " فقال " حد المضاف إليه هو أن يصير مع المضاف بمنزلة اسم واحد هو قولك عبد الملك، ولو أفردت عبدا من الملك لم يدل على ما كان عليه عبد الملك " .

ولما كان تقسيم التعريف بالحد كثيرا  ما يكون بالجنس، والفصل، فإن التزام " ابن السراج " به علي تلك الدقة يظهر مدي تأثره بالتعريف الأرسطي، يتضح ذلك من تعريفه لمقولة الصفة التي يري أن لها وظيفة، مثل الفصل في الحد الأرسطي ؛ حيث يقول " وكل موصوف فإنما ينفصل من غيره بصفة لازمته في وقته " ، وفي نص آخر يشرح " ابن السراج " هذه الفكرة بقوله : " ألا تري أنك إذا قلت : جائني زيد فخفت أن يلتبس الزيدان علي السامع، أو الزيود قلت : الطويل وما أشبه لتفصل بينه وبين غيره ممن له مثل اسمه، وإذا قلت جاءني هذا فقد أومأت إلي واحد بحضرتك، وبحضرتك أشياء كثيرة، وإنما ينبغي لك أن تبين له عن الجنس الذي أومأت إليه، لتفصل ذلك عن جميع ما بحضرتك من الأشياء، ألا تري أنك لو قلت له : ما هذا الطويل؟ وبحضرتك إنسان ورمح وغيرهما لم يدر إلي أي شئ  تشير" .

يتبن من هذا أن " ابن السراج " علي هذا المستوي التصوري، قد تأثر في تقريره لتصوراته للحقائق اللغوية، والنحوية بالمنطق الأرسطي، من حيث قد جري على قواعده في تحرير الحدود، فهل كان كذلك علي مستوى الاستدلالات ومعالجته لقضايا النحو ؟

الحقيقة أننا نجد أن " ابن السراج " إذا قورن بالنحاة الذين سبقوه فإننا نجد لديه اهتماما واضحا بطرق القياس المنطقي، خاصة في معالجته لقضايا النحو، ويمكن أن نسوق بعض النماذج علي ذلك :-

1- يقول " ابن السراج " في تعليله لعدم الابتداء بالنكرة "، وإنما امتنع الابتداء بالنكرة المفردة المحضة، لأنه لا فائدة فيه،وما لا فائدة فيه،لا معني للمتكلم به " .

ويمكن وضع هذا القول في صورة قياس من الشكل الأولي، وذلك علي النحو التالي :-

- كل ما لا فائدة فيه فلا معني للتكلم به .

- والابتداء بالنكرة المحضة لا فائدة فيه .

- إذن فالابتداء بالنكرة المحضة لا معني للتكلم به

2 – ومن الاستدلالات المنطقية الواضحة عند " ابن السراج " استدلاله على " لام المعرفة " في الاسم مع اختصاصها به دون الفعل، فإنه يفترض وجود تشكيك يقوم على الصورة  الاستدلالية :

- الحروف المختصة بالدخول علي أسماء تعمل فيها .

- لام المعرفة حرف مختص بالدخول على الأسماء .

- إذن لام المعرفة تعمل في الأسماء .

وهذا قياس من الشكل الأول يقوم على ما يسمى في المنطق الأرسطي بأغلوطة الجوهر، معناها أن " نطبق حكمًا عاما علي حالة فردية،لا تتوفر فيها شروط الحكم العام "،ووضح ذلك في المثال المذكور أن لام المعرفة تفارق سائر الحروف الداخلة على الأسماء، في أنها من نفس الاسم فيدل بها على غير ما كان يدل عليه قبل  دخولها .... وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم