قضايا

وهبة طلعت أبو العلا ونظرية الوجود المقلوب (4)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الرابع عن وهبة طلعت أبو العلا ودوره في صياغة نظرية الوجود المقلوب، وفي هذا يقول وهبة طلعت: المهم أن الحرب العالمية الثانية قد بدأت، أو لنقل أن الحرب العالمية الأولي قد اشتعلت مرة أخري، بنفس أطرافها الرئيسية أعني الدول الأوربية ومعها باقي دول العالم النائم، واستمرت الحرب لسنوات عديدة كما يقول وهبة طلعت وكل طرف من الأطراف الرئيسية كان يحدوه الأمل في أن يتمكن من حسم الحرب لصالحه إما بما لديه من أسلحة تقليدية، أو عن طريق اختراع السلاح المأمول أعني وسائل التدمير الشامل وقصرها عليه . غير أن الاختراع المنتظر لم يحدث خلال هذه السنوات، ولهذا استمرت الحرب معتمدة علي الأسلحة التقليدية، الأمر الذي أدي إلي استحالة حسمها لصالح أي طرف من الأطراف، فتوازن ميزان القوي التقليدية بين الأطراق قد حال دون ذلك . وقبل انتهاء الحرب بقليل لم تكن هناك سوي نتيجة واحدة للحرب مشتركة بين الجميع هي: اندحار جميع الأطراف الرئيسية التي كانت تحلم كل واحدة منها بالانفراد بحكم العالم .هذا يصدق علي ألمانيا وإيطاليا، مثلما يصدق علي إنجلترا، وفرنسا، واليابان، وغيرهم . لقد دمرت أوربا بكامل دولها كما لحق الدمار بالعالم أجمع.

لهذا يخطئ من يظن كما يقول وهبة طلعت أن الحرب العالمية الثانية التي هي امتداد للحرب الأولي قد انتهت بانتصار إنجلترا وفرنسا وحلفائهما علي ألمانيا وإيطاليا، ومن دار في فلكهما . فالحرب لم تعلن قبل نهايتها بقليل إلا عن حقيقة واحدة يستحيل علي أي فكر ثاقب أن يتغافل عن إدراكها،ويستحيل علي أي إنسان طمسها دون أن يخدع البشرية جمعاء، أعني، أن الدمار قد حل بجميع الأطراف وبنفس القدر . فقبيل انتهاء الحرب بقليل كانت أوربا كلها، وكذلك دول الشرق التي شاركت في الحرب بصورة فعالة – كاليابان – لا كمجرد توابع، دولا محطة أو شبه محطمة علي أقل تقدير . فحرب الكل ضد الكل قد افضت إلي تحكيم الكل للكل . ولكن في وسط الدمار والتحطيم الذي شمل سائر الأطراف قبيل نهاية الحرب حدثت حادثة فريدة قلبت موازين العالم رأسا علي عقب كما يري وهبة طلعت.

فالدمار والخراب الذي ألم بجميع الأطراف الرئيسية في الصراع قد حفز دولة شابة فتية، تملك كافة مقومات حكم العالم، عل الدخول في الحرب من أجل حسمها لصالحها والانفراد بحكم العالم . هذه الدولة عي الولايات المتحدة الأمريكية .

فقبل نهاية الحرب العالمية الثانية كانت هذه الدولة هي الوحيدة التي نأت بنفسها عن الدخول في حلبة الصراع ؛ غير أن هذا الابتعاد لم يكن ابتعادا كاملا، أو حتي ابتعاد الغافل، بل ابتعادا كما يري وهبة طلعت مصحوبا بالترقب والانتظار والصبر والأمل، فالدولة كانت تضم خيرة العلماء والمفكرين في العالم أجمع، والذين طرد معظمهم من أوربا بسبب أفكارهم التقدمية التي كانت تدعو إلي الثورة علي التقاليد وعلي التراث والأصولية المفرطة في التفكير والسلوك، وعلي كل ما كان – ولا يزال- عقيما في أوربا في ذلك الحين، وذلك من أجل استبداله بالجديد الذي هو مغامرة ويتسم بالمخاطرة ولا يقيم وزنا للقيم والمعايير . وعندما ذهب هؤلاء المطرودون – الذين كانوا خيرة علماء الأرض !- إلي أمريكا أو إلي العالم الجديد – كما سمي في ذلك الحين – توحدوا جميعا علي شئ واحد هو، أن يجعلوا من منفاهم بلدا يملك سائر المقومات التي بفضلها سوف يتمكنون من حكم العالم فيما بعد .

ولهذا انغلقوا علي أنفسهم وعيونهم كانت مفتوحة في نفس الوقت ترصد ما يجري علي الساحة في العالم الخارجي . وبدأوا العمل في صبر وصمت، وانطلقوا بكل ما لديهم من طاقة وقوة في اتجاه تحقيق الحلم الذي راودهم مثلما راود أي دولة أخري . وبعد حين من الدهر تمكن هؤلاء العلماء – المفكرون

وذلك عندما تمكنت الولايات المتحدة من اختراع وسائل التدمير الشامل وقصرها علي نفسها الأمر الذي مكنها من حسم الحرب العالمية لصالحها ومن فرض سلطانها علي العالم أجمع بمئات بل وبآلاف وربما بملايين من السنين، وخاصة علي الصعيدين التكنولوجي والعسكري .

فالمطاردون بنوا لأنفسهم ترسانة عسكرية تقليدية تكفي لمواجهة العالم أجمع إذا لزم الأمر، والشئ الأهم من ذلك كما يقول وهبة طلعت هو أنهم تمكنوا من اختراع أول نوع من أنواع ذلك السلاح الذي حلمت به سائر دول العالم، والذي مكنهم لأول مرة في التاريخ من تحويل الحلم إلي حقيقة واقعة أعني وسائل التدمير الشامل أو القنبلة الذرية .

كل هذا الحدث والعالم الخارجي لا يعرف عنه أي شئ لأن أمريكا كانت كما يري وهبة طلعت، منغلقة علي نفسها من ناحية، ولأن سائر دول العالم كانت مشغولة، من الناحية الأخري، بحربيها التقليديتين أملا في أن تنفرد إحداها بحكم هذا العالم .

ولقد كان بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية الدخول في الحرب العالمية التقليدية منذ بدايتها، غير أن عبقرية علمائها ومفكريها – الذين أصبحوا حراس العالم فيما بعد كما يري وهبة طلعت – حالت دون ذلك . لقد قرروا الانتظار حتي تنهك سائر الدول بعضها البعض، لأن هذا سيجعل الطريق ممهدا أمامها لتحقيق حلمها وبأقل قدر من الخسائر علي كافة المستويات . وعندما أحسوا أن اللحظة قد حانت، أن الخراب المنظر قد عم الجميع، دخلت أمريكا الحرب كي تجهز بنفسها علي ما تبقي من فلول العالم .

ولهذا يقول وهبة طلعت: مخطئ من يظن أن أمريكا دخلت الحرب ضد هتلر والهتلريين ولصالح  من سموا باسم الحلفاء . صحيح أن أمريكا صرحت في العلن – وأقول في العلن لا في الخفاء – أنها دخلت الحرب ضد هتلر وأتباعه ولصالح الحلفاء . غير أن الحقيقة في اعتقادي مخالفة لذلك تماما . فهذا التصريح العلني ليس في رأيي سوي دليل قاطع علي ذكاء العبقرية الأمريكية ودهائها المنقطع النظير . لأنني لا أستبعد علي الإطلاق أن تكون أمريكا قد فعلت نفس الشئ مه هتلر والهتلريين إن لم يكن في العلن ففي الخفاء علي الأقل . فمن المحتمل أن تكون قد أمنتهم علي أنفسهم وعلي شعوبهم مثلما فعلت مع الحلفاء تماما، وما ذلك إلا لكي تكسب ود الحلفين من ناحية، وتجعلهما يهلك بعضهما البعض لصالحها هي نفسها من الناحية الأخري .

هذا يعني أن أمريكا دخلت الحرب وهي تعلن في العلن أنها مع الجميع، في حين أن حقيقة الأمر الخفية أو المقلوبة هي أنها ضد الجميع؛ بمعني أنها سوف تحكم العالم أجمع . لهذا كما يري وهبة طلعت رحب بها العالم أجمع لانخداعه في الثغارات التي رفعتها في العلن، والتي تعد بالحرية والمساواة والخير لكافة الشعوب، ولم يدر بخلد العالم آنذاك أن هذا الترحيب ليس في حقيقة الأمر سوي ترحيبا بوضع نفسه في سجن لن يخرج منه أبدا وبتكبيل نفسه بأغلال لن يكون هناك سبيل إلي الخلاص منها . من هذا المنظور لا أستبعد علي الإطلاق احتمالية أن تكون أمريكا قد أمنت هتلر نفسه علي حياته لقاء مساعدتها علي إلحاق الدمار التام ب الحلفاء . وهتلر نفسه قد يكون لا يزالل حيا يرزق، أما ربما يكون قد مات ميتة طبيعية، أو ربما تعرض للغدر بعدما أدي الدور الذي رسم له أجبر علي اتباعه بعدما وجد نفسه علي وشك أن يقع في قبضة الحلفاء . هذا يفسر السر في عدم وقوف أحد علي حقيقته، ولا علي حقيقة موته، ولا حتي علي جثمانه . فالسر كان ولا يزال في يد الأمريكان وحدهم الذين سيصبحون فيما بعد حراسا للعالم أعني حكاما له .

إذا كان كما يقول وهبة طلعت:تحليلي هذا تحليلا صحيحا، فإنني أستطيع أن أقرر أن أمريكا لم تدخل الحرب إلا لكي تحقق حلمها الذي ظل يراودها إلي أن تمكنت من جعله يصبح حقيقة، ولهذا فهي لم تدخل الحرب لصالح أي طرف من الطرفين، ولا حتي ضد أي طرف من الطرفين . لقد كانت مع الطرفين، وضدهما معا في نفس الوقت   . فهي لم تحارب ضد هتلر فقط كما يقال في العلن، بل حاربت معه وضده معا وفي نفس الوقت . ونفس الأمر يصدق علي الحلفاء أعداء هتلر والهتلريين . فهي حاربت معهم وضدهم في الآن عينه، وذلك علي النقيض تماما مما أشيع ولا يزال يشاع في العلن . لقد كانت أمريكا تقدم التسهيلات للطرفين الرئيسين في الصراع – وهذا هو منطق حراس العالم السائد حتي الأن والذي سيتضح بصورة أكثر فيما بعد – من أجل جعلهما يسرعان في القضاء علي بعضهم البعض . هذه التسهيلات عسكرية أساسا، بل كانت تسهيلات تكنولوجية – تجسسية أكثر تقدما من تلك التي كانت لدي الأطراف المتحاربة في ذلك الحين . فبواسطة هذه الأجهزة التجسسية رصدت للهتلريين مواقع تحرك قوات الحلفاء حتي يتمكنوا من عمل أكمنة للإطاحة بها بنجاح ساحق، والعكس صحيح أيضا . فهي زودت الحلفاء بالمعلومات عن المواقع الهتلرية الخطيرة الأمر الذي سهل عليهم إبادتها .

هذا يفسر السر في تأرجح الانتصارات بين المعسكرين خاصة قرب نهاية الحرب، فإذا حقق الحلفاء نصرا علي هتلر هنا، سرعان ما كانوا يندحرون أمامه وبصورة بشعة هناك كما يري وهبة طلعت. ونفس الأمر يصدق علي قوات هتلر والهتلريين . وأمريكا هي العميل المزدوج الذي كان وراء ذلك، والذي يجعلهم يدمرون بعضهم البعض ويخسرون معظم – إن لم يكن كل – قواتهم علي كافة المستويات، دون أن تخسر هي شيئا يذكر . هكذا أدت الوساطة الأمريكية إلي الإسراع في إجهاز جميع الأطراف علي بعضها البعض وأصبح الطريق أمامها مفتوحا تماما لإملاء إرادتها علي سائر هذه الدول . غير أن أمريكا استبقت دولة واحدة بعينها لبعض الوقت لغرض في نفس يعقوب .

....وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم