قضايا

التسامح بين القبول والرفض

علي المرهجلا زال لمفهوم التسامح كثير من المقبولية والحضور في ظل الصراعات الناشبة عن تعددية المعتقدات وادعاء كل جماعة ما بأنها على صواب ومن يُخالفها في الرأي والعتقد، وأن على الآخر المختلف الذي يتبنى معتقداً مغايراً أن يعرف الحق وإلَا فإنه كافر يستحق الحرق والموت، وهذا الأمر أخذ مداه واسعاً مع سيادة المعتقدات الدينية التي لم يأخذ أصحابها بحسبانهم أن معتقدهم الديني هو ليس الدين، وإنما هو وجهة نظر يعتقدها إنسان ما مفكر أو عادي بأنها الطريق الموصل إلى الحق، وليس الحق ذاته.

لم يبقَ هذا الأمر مرتبطاً بالمعتقد الديني فقط، بل أخذ مداه يتسع ليشمل المعتقدات الإنسانية (الايديولوجية) لنجد أتباع كل حزب أو مجموعة تعتقد بفكرة ما أن هذه الفكرة المتبناة عندهم هي الحق ولا حق لأحد للتشكيك بها أو نقدها!، وكل مشكك فيها أوناقد لها مصيره التكفير أو اتهامه بالزندقة، وكأن أقوال هؤلاء هو الحقيقة المطلقة!، لنجد أصحاب الفكر الوثوقي هذا يطرحون رؤاهم وكأنها صيغ لاهوتية دينية "نصية" ليس من حق البشر نقدها!، وصار من ينتقد رؤاهم هذه وكأنه قد نطق بالكفر!.

مع سيادة التفكير الفلسفي في أوربا في ابداية القرن السابع عشر بدأ العقل الإنساتي يكون أكثر فاعلية في البحث عن الحقيقة، فعُرَفت الفلسفة بأنها البحث عن الحقيقة، وليس إدعاء إمتلاكها، لكن فاعلية هذا العقل أصبحت وكأنها تُريد أن تضع خطاً جديداً مناهضاً للدين، وكأن الفلاسفة يريدون وضع العقل مكان الدين، وهذا ما حصل فعلاً في ما سُميَ بعصر الحداثة. ونسيَ دُعاة العقل أن هناك أموراً لم يكن باستطاعة العقل حلها، وعلى الرغم مما حققه هؤلاء (دعاة العقلانية) من انتصارات كبيرة في مجال العلم، والتقليل من هيمنة رجال (الاكلريوس) إلَا أنهم خلقوا سلطة جديدة ووصاية جديدة، فبعد أن كانت الوصاية للدين ورجاله، صارت الوصاية للعقل ورجاله، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش إلَا تحت وصاية يستقيل فيها عقل الفرد المقلد وعقل الجماعة ليرهنوه بما يقول به السيد (المرجع) الذي تستكين العقول وتستقيل لتنطر فتاواه!.

لقد أتقن (المرجع) لعبة (السيد والعبد) فمارس من خلالها الوصاية وأتقنها فأجاد اتقان الدور لتبدو لنا وكأنها علم ودراية، فصرنا كالأنعام تسير على موسيقى الراعي.

لا يفوتنا أن الكنيسة في أوربا، وعلى الرغم من موقفها السلبي من العلم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، إلَا أنها مع حركات الإصلاح مهدت لقبول الأطروحات العلمية، بل كانت ممهدة للحرية الفكرية وحرية المعتقد الديني أيضاً، وما كانت ثورة مارتن لوثر على الكنيسة في بدايتها، إلا تعبير عن الاستياء من هيمنة رجال الدين الذين احتكروا الحق ومارسوا الدمج بين السلطتين الروحية والزمنية، أو الدينية والمدنية، وتوزيع صكوك الغفران على من يشاءون من الناس، وكأنهم ظل الله في الأرض.

لقد مهدت الثورات الدينية في أوربا مثل: ثورة (دسيدريوس أرازموس1469ـ 1536) و (مارتن لوثر 1483ـ 1546) و (جون كالفن 1509ـ 1564) للانفتاح على العلوم الطبيعية والنزعات الإنسانية، والعمل على التخلص من نمط التدين (الأرثوذوكسي) وإعادة ترميم العلاقة بين العبد وربه، عبر نقدهم لسلطة رجال الدين (الإكلوريوس)، الأمر الذي ساعد على تنشيط النزعة الانسانية والتخلص من سطوَة الفكر الغيبي، والتمهيد لشيوع مقبولية فكرة (التعددية الدينية)، واللجوء للانسان والطبيعة بوصفهما أهم مصادر العلم والتشريع للواقع .

هذه الفكرة كانت أكثر وضوحاً كما ـ ذكرنا من قبل ـ مع طروحات جون لوك في فلسفته السياسية لاسيما في كتابه (رسالة في التسامح) الذي أصبح خارطة طريق لفك العلاقة بين الدين والسياسة، وإعادة ترتيبها بما يحقق الاستقلالية للسلطتين ويمنع التداخل بينهما، بما يحفظ لكل منهما وجوده المستقل، في محاولة منه للحفاظ على الدين من أوحال السياسة، وسيعاً لإعطاء الحرية لأصحاب السياسة لإدارة الدولة بعيداً عن هيمنة المقدس، ورغبة في فتح المجال أمام حرية الفكر وتفرعه للقبول بالتعددية والتنوع الثقافي.

 

لقد كان لمفهوم التسامح بعده التطبيقي وأثره الميداني في حل مشكل الصراع الديني والمذهبي في أوربا، لذلك يمكننا القول أنه مفهوم يدخل ضمن مسار الفلسفة التطبيقية لا النظرية المُجردة، لأنه طرح نظرية يستمد قيمته من الواقع ومحاولة فلاسفته معالجة مشكلات الصراع آنذاك، ولكن ليس شرطاً أن تكون لهذا المفهوم صلاحية تطبيقية خارج الزمان والمكان الذي فرض على الفلاسفة إيجاده، فبمجرد حل الصراع الأثني والمذهبي والديني صار المفهوم أقرب لأن يكون مفهوماً وعظياً أكثر منه واقعياً، هذا في أوربا، ولكني أعتقد أنه مفهوم فقد قيمته، إذ لم تعد له مقبولية تداولية بحكم تطور أشكال الصراع ودخول أوربا عصر الصراعات الدولية التي تقتضي إيجاد مفاهيم أخرى أكثر نجاعة منه، لذلك طرح (كانت) مفهوم السلام الدائم، فيما يخص حل مشكل الصراع الدولي ومحاولته وضع قانوناً للشعوب تحتكم إليه في حال حصول خرواقات من دولة على دولة أخرى.

وكذا الحال مع مفهوم "العقد الاجتماعي" الذي طرحه فلاسفة التنوير أمثال (توماس هوبز) و (جون لوك) و (جان جاك روسو)، وقد كُتب الكثير عنه، فلا حاجة لنا بتفصيل القول عنه، ولكن ما نقوله أنه مفهوم نظري أفرزته حاجة مُجتمعية مُلحة، ألَا وهي حل مُشكل الصراع بين المجتمع والسلطة، بعد أن كانت السلطة تستمد مشروعيتها من السماء والسلطة الكنسية أو "رجال الأكلريوس" أو ما يُسمى بـ "التفويض الإلهي" ليكون مطلب الشعوب بعد تمادي السلطة الدينية والسلطات الفردية للملك، صار لزاماً على فلاسفة هذه الأمة الناهضة التفكير بايجاد حل لهذا الصراع، فطرحوا فكرة "العقد الاجتماعي" للفصل بين السلطات، والحد من السلطة المُطلقة للحاكم، فجاءت فكرة الدستور الذي يتفق عليه أبناء الشعب، فيه مجموعة شروط يلتزم بها الحاكم والمحكومين على حدٍ سواء، فكل له حقوق وعليه واجبات، على قاعدة العقد شريطة المُتعاقدين، وعلى كل من وجد حيف أو إخلال بشروط هذا "العقد الاجتماعي" اللجوء للقضاء لأنه الفيصل في حلَ هذه القضايا، كونه سلطة مُستقلة عن السلطة التنفيذية.

وهذا ما يقودنا للقول أن هذا المفهوم "العقد الاجتاعي" يدخل بوصفه مفهوم من مفاهيم لفلسفة الاجتماعية وفرعها "الفلسفة التطبيقية" لذات الأسباب التي بررنا بها مقبولية ، مفهوم "التسامح"، لدورهما في وضع حلول فلسفية لمُشكلات المجتمع مُستمدة من إدراك الفلاسفة للواقع وفهمه للسعي لتغييره لما هو أفضل.

"وليعفوا وليصفحوا ألا تُحبون الله أن يغفر لكم"..

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم