قضايا
المرجعية والاحتجاجات..

يمكن البدء بملاحظة أن الديمقراطية منذ بزوغها الأول كانت مصحوبة دوماً ب(ديانة مدنية) بتعبيرٍ آخر: كلما تمتعت الديمقراطية بالثقة بنفسها تعي أنها بحاجة الى تحييد (الثيوقراطية) ليس عن طريق علمنتها بالطبع بل عن طريق اختراع معادل وظيفي - وليس وكيلاً- للقانون المقرر من أعلى سلطة قانونية في البلد تطلبت الديمقراطية ديانة يمكن - دون أن تضع اساسا للقانون- ان تبارك خلقه السياسي في قبال تصورات مرجعية أخرى للقانون مثلتها مرجعية ولاية الفقية في نسختها الشيعية ومرجعية مرشد الاخوان المسلمين في نسختها السنية، بينما المرجعية الاساسية في الدولة المدنية تتجلى في الدستور، فضلا عن مركزية مفهوم (المواطنة) الذي تنظر إليه الادبيات الدينية بوصفه مفهوما قاصرا وعابرا، ويبدو أن القلق الكامن في تعرض التجربة الشيعية إلى الفشل والنكوص وصيرورة الوصف التأريخي بعدم قدرتهم على إدارة الحكم إلى واقع مُعاش هو السبب الحقيقي الذي وقف حائلا دون نفض المرجعية يدها تماما عن جماعات الاسلام السياسي، فالتحفظ الجاف هو الموقف الذي تبناه السيد السيستاني مع عدم الرضا، غير أن الاحتجاجات وضعت المرجعية أمام سؤال حقيقي بشأن الموقف الذي ينبغي أن تتخذه في هذا الظرف التاريخي في تأريخ العراق وتأريخها على حدٍّ سواء.
- ٢-
- هناك شعور مضمر ومتبادل بين المرجعية وجمهور الشارع العراقي مفاده مسؤولية المرجعية الضمنية عن وصول هذه الطبقة السياسية إلى مقاليد السلطة في البلاد، فطبيعة الدعم الذي قدمته المرجعية لجماعات الاسلام السياسي والقوائم الانتخابية التي تشكلت تحت أنظارها مكنت هذه الطبقة من بثّ الخطابات المحتكرة لصوت المرجعية بوصفها الممثل الطبيعي لأفكارها وتطلعاتها، بغض النظر عن مدى صدقية هذه الادعاءات من عدمها.لتفضي التجربة عن طريق المسؤولية التضامنية - ولو بصوت ٍ خافت - إلى تحميل المرجعية الفشل الذي رافق الأداء السياسي، لتكتشف المرجعية بعد سنوات طوال أنها وقعت ضحية للأحزاب الدينية الحاكمة لتتحمل الانتكاسات والأزدراء والأخطاء.
- يخوض السيستاني معركة مصيرية للدفاع عن فلسفة النجف ورؤيتها التاريخية لطبيعة العلاقة بين الدين والسياسة أمام زخم نظرية (ولاية الفقيه) التي تتدخل في الوضع العراقي بآليات وصور متعددة، فمطالبة السيستاني ب(دولة مدنية) تحتكم إلى القوانين والدستور في العراق كانت من أبرز المؤشرات إلى حجم تلك التحديات، وهي أشارة نادرة وشجاعة لا يمكن تصور صدورها من غير السيستاني، بل لا يمكن توقع صدورها حتى من خلفاءه، فالخلاف بين النجف وقم له جذر تاريخي قديم، فضلا عن الخلاف في تقديم رؤية للتعايش السلمي بين المكونات المختلفة، ويبدو أن هذا الأمر شكل هاجسا عند السيستاني منذ وقت مبكر عبر إجابته لسؤالٍ طُرح عليه :ما الأكثر أهمية عنده: وحدة الشيعة أم حماية الديمقراطية؟ أجاب بأن حماية الديمقراطية لها الأولوية عنده.
- شعور السيد السيستاني بأن فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها عند سقوط الموصل قد اُستثمرت سياسيا من قبل أطراف سياسية لا تلتقي مع الخط العام لمرجعية النجف، فقد وُجهت الفتوى بخلاف المسار المؤقت الذي أراده السيستاني منها، مما جعل العلاقة معقدة ومتشابكة بين السياسي والديني وطريقة تأطير كل منهما على حده، لاسيما أذا تذكرنا ديدن المرجعية بعدم الخروج بشكل مباشر والتواصل مع الجمهور وطرح الأفكار والرؤى عبر المسارات المسموعة او المكتوبة.
د. مؤيد عبد صوينت