قضايا

العراق.. نقد الواقع وتأسيس البدائل (5): الظاهرة الصدرية

ميثم الجنابيالراديكالية الشيعية المعاصرة (1-2)

لقد أشرت في المقال السابق عن الظاهرة الراديكالية في العراق إلى أن سبب اختيار التيار الصدري بالنسبة لتحليل ودراسة الظاهرة الراديكالية يقوم في كونه التيار الأكثر نموذجية من بين التيارات الراديكالية السياسية العراقية الحالية. وإلا فإن أغلب الحركات السياسية الأخرى تحتوي على أقدار مختلفة من النزعة الراديكالية. بل من الممكن القول، بأن الغالبية المطلقة للأحزاب والحركات السياسية المؤثرة في الحياة العراقية الحالية تنتمي إلى التيار الراديكالي بمختلف أصنافه. وذلك لما فيها جميعا من عناصر الغلو والتطرف ونزعة الإرادة الفجة وسيادة الوجدان وضعف العقلانية والواقعية وغيرها من الصفات المميزة للراديكالية. كما يمكن أن تكون هذه العناصر مكونات مبطنة للهدوء الظاهري والانتماء المفتعل أو المبجل لتقاليد السلف وأصولهم الميتة، كما نراه في التيارات السلفية بمختلف أصنافها. وإذا كان النموذج الديني (الإسلامي) هو الأكثر بروزا الآن، فلأنه النتاج الطبيعي لانحطاط الفكرة الدنيوية القومية. الأمر الذي يجعل من الراديكالية الدينية الصيغة الأكثر تخلفا لزمن الانحطاط السياسي.

فقد استطاع الكبت العنيف والتخريب الشامل من جانب الدكتاتورية الصدامية «عقلنة» الأحزاب والحركات السياسية الدينية والدنيوية. بمعنى «اجبرها» على البحث عن قيم التوازن والاعتدال والشرعية والديمقراطية. وهو تحول يمكن رؤيته في انتقال اغلب الأحزاب السياسية الإسلامية الكبرى مثل الدعوة والمجلس الأعلى وكثير غيرها إلى صوب «الارتقاء» النسبي في مضمار الرؤية الواقعية والنفعية. كما نراه أيضا في تحول الشيوعيين من أيديولوجية الرؤية الكونية والتحزب الطبقي إلى مضمار الموافقة الشاملة والانصياع التام للأعداء الطبقيين بما في ذلك في أتفه الأمور، وفي أكثرها إشكالية. بينما تحولت الحركات والأحزاب القومية الكردية إلى طائع مطيع لإملاء «القوى الإمبريالية» السابقة ونابذة لكل فكرة تمس «حق تقرير المصير» ومصيرها ليس بيدها! والشيء نفسه يمكن قوله عن اندفاع القوى الليبرالية والوطنية والقومية العراقية إلى صف المشارك والمؤيد والمدافع للغزو الأجنبي دون أية ضوابط أو قواعد أو اتفاقات تحفظ الحد الأدنى من إمكانية توسيع الأبعاد اللبرالية والوطنية والقومية في الصراع الاجتماعي والسياسي اللاحق في العراق.

وتجعل هذه المفارقة من الرؤية المنطقية مضحكة «العقل الرزين». شأنها شأن الحكم الذي يجمع بين اليقين واللامعقول كما هو الحال على سبيل المثال في رؤيتنا لخيانة النخب السياسية «الوطنية» للمصالح الوطنية العليا. الأمر الذي يجعل من النخب السياسية في ظروف العراق الحالية كيانات محيرة للعقل والمنطق. فالرؤية المنطقية واضحة المعالم بهذا الصدد، لأنها تنطلق من مقدمات واقعية من اجل الوصول إلى استنتاج مجرد مهمته إدراك أسباب ظهور الوقائع ونتائجها الملازمة. إلا أن مفارقة الظاهرة في ظروف العراق الحالية تقوم في أن الحيرة التي نواجهها بهذا الصدد هي حيرة الانحطاط لا حيرة المعرفة. بحيث جعل ويجعل من العقل الرزين مضحكة، بمعنى جعله كل محاولة ترمي إلى تأسيس البدائل العقلانية محلا لاستهزاء النخب العابرة ومصالحها الأنانية الضيقة. وهي ظاهرة مميزة للراديكالية التي عادة ما تتخذ مشاعرها الوجدانية الأولية صيغة الاندفاع الهائج صوب الغنائم الصغيرة مع أول انتصار سياسي.

 فالمواقف السياسية التي حكمت السلوك النظري والعملي العام والخاص للأحزاب والحركات السياسية في العراق في كل مجرى النصف الثاني من القرن العشرين، كانت مرهونة بنفسية العداء بين الاتجاه الوطني والقومي والإسلامي من جهة وبين معسكر القوى الامبريالية من جهة أخرى. فقد كان هذا المعسكر يحتوي بالدرجة الأولى على كل من الولايات المتحدة وبريطانيا (والدول الشيوعية بالنسبة للإسلاميين). إذ كان هذا الاتفاق الضمني يحكم نفسية وأيديولوجية القوى السياسية في العراق جميعا، رغم خلافاتها الداخلية العميقة والعريقة أيضا. غير أن الإجماع على العداء للامبريالية قد تحول في نهاية القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين إلى إجماع عليها بوصفها «منقذة» العراق وحاملة لواء البديل الديمقراطي. بل وتحولت الولايات المتحدة وبريطانيا بالذات إلى الحلفاء الاستراتيجيين في هذه الرؤية. وهو تحول يفترض فهم مقدماته ونتائجه ضمن سياق تحليل الظاهرة الراديكالية العراقية الجديدة، والإجابة على الأقل على أربعة أسئلة تتعلق فيما إذا كان هذا التحول هو نتاج رؤية واقعية؟ وما هي الحدود العقلانية لهذه الرؤية؟ وما هي أسسها الفلسفية والسياسية؟ وهل يعني ذلك أنها تحولت من تقاليد العداء والراديكالية إلى تقاليد الشرعية والرؤية الاجتماعية؟ وهي أسئلة تتناول صلب الموضوع لأنها تحاول طرح الأسئلة المتعلقة بخصوصية الظاهرة الراديكالية العراقية الجديدة من خلال الإجابة على «مبررات» هذا الانتقال وأسبابه الفعلية، وأثر كل ذلك على تحديد مسار النزوع الجديد لهذه الراديكالية.

إن دراسة مقدمات وشروط «الانتقال التاريخي» في مواقف الأحزاب الدينية والدنيوية، الوطنية والقومية، الاشتراكية والشيوعية، الملكية والديمقراطية، المدنية والتقليدية من العداء المتأصل للامبريالية إلى حليف لها يحتوي على قدر من التغير في الأحكام السياسية النظرية والعملية التي تعطي لنا إمكانية القول، بأن تغيرا قد جرى فيها. ويحتوي هذا التغير على قدر من الرؤية الواقعية. بمعنى إدراكها جميعا، بأن إعادة إنتاج وتأصيل العداء للمراكز الإمبريالية هو جزء من تراث أيديولوجي لا يمكنه أن يؤدي إلى نتيجة مفيدة وبالأخص، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. وهي خطوة إلى الأمام فيما يتعلق بمرونة المواقف السياسية مما جرى من أحداث عالمية مؤثرة على آفاق العملية السياسية في كل مكان بما في ذلك في العراق، الذي كان يشكل (وما يزال) بؤرة ساخنة من بؤر الصراع العالمي الجديد. لكنها واقعية مبتورة، لأنها تفتقد لأي تأصيل عقلاني. بمعنى أنها واقعية بلا إستراتيجية واضحة المعالم في ما يتعلق برؤية المصالح الجوهرية للعراق ومعاصرة المستقبل فيه. من هنا خلوها لأسس فكرية وسياسية خاصة بها. بمعنى إننا لا نعثر في البرامج السياسية والمشاريع النظرية لهذه الحركات والأحزاب والنخب على ما يمكنه أن يكون تأسيسا نظريا يعطي لهذا التحول والانقلاب بعدا عقلانيا يؤكد واقعيته الضرورية. بل على العكس، إن كتابات وبرامج هذه الحركات ما زالت متحجرة بمفاهيمها القديمة، الإسلامي بإسلاميته السلفية أو مذهبيته الضيقة، والقومي بقوميته الجامدة أو صيغتها العرقية، والاشتراكي باشتراكيته المجهولة، والشيوعي بشيوعيته المعلومة. وهكذا الحال بالنسبة للبقية الباقية.

إننا نقف أمام حالة محيرة للعقل النقدي في محاولته فهم سرّ الانتقال المسرور من «جنان» الإسلام والقومية والوطنية والاشتراكية والشيوعية إلى «جحيم» القوى الاستعمارية القديمة والجديدة ونزوعها الامبريالي. وهي حالة انتقال فعلية ترتسم ملامحها السعيدة على محيا القوى والأحزاب والنخب السياسية، بينما مازال فؤادها الأيديولوجي مليئا بمفاهيم العداء والاستعداء للحلفاء الجدد، أعداء الأمس! كما يلازم هذه الحالة بالضرورة انفصاما بالشخصية السياسية. وفي هذا يكمن تناقض، ولحد ما زيف الشعارات المعلنة عن الدولة الشرعية والديمقراطية والعدالة والمساواة والقيم الأخلاقية. ومن ثم استحالة تراكم الرؤية الواقعية العقلانية باعتبارها فلسفة متماسكة في ميدان بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد والعلم والثقافة.

فالفلسفة الواقعية العقلانية للنظام الديمقراطي الفعلي هي أولا وقبل كل شيء منظومة متكاملة ومتوحدة في الظاهر والباطن، ومنسجمة في مواقفها النظرية والعملية. في حين أن ما نعثر عليه هو مجرد تأقلم ونزوع نفعي جزئي، يفصل القوى السياسية عن تاريخها وتاريخ الدولة والمجتمع والثقافة. وذلك لأن انتقال هذه القوى والنخب السياسية من العداء للامبريالية إلى «حليف إستراتيجي» لم يكن تحولا مبنيا على إدراك فلسفي تاريخي متراكم واقعي وعقلاني لضرورة البدائل التي يحتاجها العراق في العالم المعاصر، بقدر ما كان انقلابا وتبدلا. والأتعس مما فيه أيضا هو أن هذا الانتقال لم يكن أكثر من هرولة وركض وراء أعداء الأمس من اجل استرضاءهم لكي يكونوا حليفا إستراتيجيا، بدون إستراتيجية جديدة. والشيء الوحيد الواضح المعالم في هذه العلاقة هو الاستعداد للرضوخ والخضوع غير المشروط!! وقد أثر هذا التناقض ويؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة في إعادة إنتاج واستثارة الراديكالية العراقية الجديدة التي يشكل "التيار الصدري" احد نماذجها الكلاسيكية.

إن مبررات هذا الانتقال وأسبابه الفعلية لا تتمتع بقدر من المصداقية قادرا على تأسيس البدائل العقلانية وروح الاعتدال. من هنا استثارته القوية والمدهشة للراديكالية العراقية الجديدة عوضا عن تحييدها بطريقة تجعلها جزء ضروريا من خميرة الوعي السياسي الفعال. ومن ثم وأد نماذجها الأكثر تطرفا وغلوا. وهي نتيجة تشير إلى عدم الاتعاظ الكلي والدقيق من تجربة الصدامية. ومن عدم تذليل بقاياها المنتشرة في كل مسام الوجود العراقي. وفي هذا يكمن دون شك إعادة إنتاج صداميات جديدة متناثرة مجزأة قد لا تقل تخريبا عما سبقها، لكنها تؤشر في الوقت نفسه على اندثار وحدتها الصلدة. ومن ثم تلاشي قدرتها الفعلية على مواجهة موجة التحدي العميقة في تذليل زمن الراديكالية.

ومن حصيلة هذه العملية المتناقضة المشار إليها أعلاه ظهر التيار الصدري بهذه الصورة المفاجئة. بمعنى أن ظهوره «الاجتماعي» و«الوطني» و«المعادي للاحتلال» و«المدافع عن المقدسات» وما شابه ذلك، هو الوجه الآخر لتقاليد الماضي في منافستها للقوى الدينية والدنيوية التي جاءت مع قوى الاحتلال وبمؤازرته في تسلم زمام السلطة، والمشاركة الوهمية والواقعية فيها. بمعنى أن الظهور المفاجئ والعنيف للتيار الصدري يحمل في أعماقه بقايا وثقل التوتاليتارية والدكتاتورية.

فقد كان «التيار الصدري» الراديكالي الجديد صنيعة الماضي التوتاليتاري والدكتاتوري، سواء من حيث «تاريخه» السياسي في شخصية الصدر (الأب) وهيبتها الروحية التي لم تكن معزولة عن محاولات السلطة الصدامية صنع بدائل «عربية» للمرجعية الشيعية التقليدية، أي المجردة عن «القومية». ومن ثم كانت مهمتها السياسية هي إضعاف المرجعية المذهبية «الخالصة»، أي المناوئة أو التي تحمل في أعمق أعماقها نفسية المعارضة وروح الاغتراب الشامل عن السلطة. وهي خطة عادية بمعايير الدكتاتورية الصدامية لكنها غير عادية بإمكانياتها الداخلية على خلفية التهميش الاجتماعي الهائل الذي تعرض له العراق بشكل عام ومناطق الشيعة بشكل خاص.

فقد كان العراق قبيل وبعد سقوط الصدامية كتلة هائلة مهمشة، أي كيان من الحثالة الاجتماعية الرثة في حياتها ومظهرها ونفسيتها وذهنيتها وعلاقاتها الخاصة والعامة وفكرتها عن الحرية، باختصار في كل شيء! وفي ظل حالة من هذا القبيل كان المزاج الاجتماعي مستعدا لقبول أي شكل جديد للراديكالية المناهضة. لاسيما وأن المزاج الاجتماعي كان محكوما بتراث يتلذذ للنزعة التوتاليتارية. لهذا حالما انهارت التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، فإن الرصيد المكبوت للثأر الراديكالي بين هذه الأحزاب والحركات، الذي لم يبدده ارتباطها بقوى الاحتلال، سرعان ما اخذ يتراكم في حركة شعبية عريضة ومباشرة تلقفها واستحوذ عليها «التيار الصدري». وهو استحواذ لم يخطر على قلب عراقي وباله في حال عدم «إرتقاء» الحركات الدينية والدنيوية صوب التعامل المباشر مع «أعداء الأمس» التقليدين.

ذلك يعني، إن الظهور المفاجئ للتيار الصدري وقدرته الملفتة للنظر على استقطاب «الشارع العراقي» بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية، لم يكن في الواقع سوى الوجه الآخر لتراكم الشحنة الراديكالية المقلوبة في المزاج الاجتماعي. وتراكمت هذه الشحنة بصورة لا مثيل لها في تاريخ العراق المعاصر، وبالأخص في مجرى الحروب الهمجية التي انتهت صورتها المباشرة بسقوط الدكتاتورية عام 2003.

بعبارة أخرى، إن الصعود المفاجئ والسريع والعنيف للراديكالية الصدرية هو الوجه الآخر للسقوط المفاجئ والسريع والعنيف للدكتاتورية الصدامية، بوصفها الصيغة الكلاسيكية للراديكالية العراقية. وهو أمر يعطي لنا إمكانية القول بأنهما كلاهما ينتميان من حيث المقدمات إلى ظاهرة واحدة. وهي ظاهرة نعثر عليها عند جميع الحركات الراديكالية السياسية في العراق المعاصر. وإذا كان التيار البعثي الصدامي قد جسدها بصورة «نموذجية» على مستوى الدولة في غضون عقود، فإن التيار الصدري قد جسدها في غضون أشهر في المناطق التي استطاع «الاستيلاء» عليها أو مصادرتها. وقد كانت الأساليب والنتائج هي هي ذاتها! إذ نرى نفس العبارة تجاه «العدو الخارجي» و«المحتل»، كما نرى نفس العبارة المتشدقة بكلمات «الوطنية» الممزوجة بالدفاع عن «المقدسات» و«الإسلام». والشيء نفسه يمكن قوله عن السلطة والدولة. إذ لا تعني السلطة سوى سلطة الفرد الجاهل أو نصف المتعلم. أما الدولة فهي «الأنا» المتلبسة مرة بصدام وأخرى بالصدر! أما المجتمع فهو كتلة لا تتمتع بغير حق الانصياع وتنفيذ كل ما تريده القيادة والإمامة بأساليب القوة والعنف. إذ لا مجال ولا معنى للثقافة والعقل!

مما سبق يتضح، بأننا نقف من جديد أمام الصعود الخطر للنزعة الراديكالية في العراق، التي شكلت مصدر مأساته المعاصرة. فالتجربة التاريخية للعراق المعاصر تبرهن بصورة قاطعة على أن خطورة الراديكالية تقوم في رفعها قطع العلاقة بالتاريخ والتقاليد إلى مصاف العقيدة المقدسة. بينما يفترض المقدس هوية الثبات. لكننا نلاحظ ممارسة الراديكالية لهذا الفرض بحمية بالغة عبر مطابقته مع التجريب الخشن المبني على احتقار الشكوك والاعتراض. كما أنها تطابق بين فكرة الثابت المقدس ويقينها الخاص عن أن الفعل التجريبي هو المطلق الوحيد. مما يجعل منها في الأغلب قوة مدمرة لا تنتج في نهاية المطاف سوى الخراب والتوغل الدائم فيه. وكشفت هذه النتيجة ممارسات «التيار الصدري» في بداية أمره، كما سيكشف عنه الزمن اللاحق ضمن التيارات السياسية عموما والإسلامية خصوصا.

«فالتيار الصدري» هو الحركة التي تمثلت في ظروف العراق الحالية مضمون الراديكالية بأكثر أشكالها تخريبا وتدميرا. وسبب ذلك يقوم في كونها لم تستفد من تجارب الاضطهاد التاريخي الهائل الذي تعرض له الشيعة، بوصفهم "المكون" الأساسي والرئيسي والأكبر للعراق. كما أن ممارستها التي ترافقت مع ظهورها السريع على خلفية زوال البعثية الصدامية تشابهت بصورة شبه تامة مع ممارسات التوتاليتارية والدكتاتورية. ومن ثم وضعت نفسها بالضد من المجرى العام للتيار الشيعي والوطني والاجتماعي العراقي. أما الحصيلة فهو الانحدار الدائم صوب الانصهار مع الغلاة الجدد من مختلف التيارات السلفية.

ولعل أهم ما يميزها بهذا الصدد هو نظرتها الضيقة المقيدة بنفسية ومزاح أو هوى الحثالة الاجتماعية. مما كان يحد من إمكانية نموها العقلاني، كما يجعلها بالضرورة أسيرة الحدود الضيقة في رؤيتها لآفاق تطوير الدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة. إذ أننا لا نرى ولا نسمع ولا نعثر على برنامج «صدري» له علاقة بمكونات الدولة المعاصرة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة البديلة للتوتاليتارية والدكتاتورية. ويشير هذا الواقع إلى افتقاد الرؤية السياسية الإستراتيجية وفقدان المشروع السياسي وانعدام الرؤية الواقعية والعقلانية عن طبيعة التغيرات التي جرت في العراق. وليست العبارات العامة عن «الدولة الإسلامية» و«المجتمع المسلم» و«الثقافة الإسلامية» وما شابه ذلك سوى كلمات لا معنى لها في حال انعدام تحديدها الدقيق بمعايير الرؤية السياسية والاجتماعية والثقافية، أي في حال عدم وجود برنامج نظري وعملي يحدد بصورة دقيقة الغايات الكبرى ووسائل تنفيذها. أما العبارات التي نسمعها بين الحين والآخر فهي ليست أكثر من صياغة «إسلامية» لأغلب مضامين التوتاليتارية والدكتاتورية.

إننا نعثر في «التيار الصدري» على إدراك ضعيف ومشوه لطبيعة التحولات الجارية في العراق. وقد وجد ذلك انعكاسه المباشر في بادئ الأمر بالتناقض الحاد بين الاشتراك الجماهيري الفعال والعنيف في السياسة، ورفض الاشتراك «الرسمي» فيها. ولم يعن ذلك من حيث المضمون لا من حيث الشكل سوى محاربة الانخراط الفعال في الحياة السياسية الاجتماعية. من هنا بقاءه وبقاء خطابه السياسي ضمن عبارات لا تتعدى في أفضل الأحوال لغة الشعار السياسي المهيج لنفسية الفئات الرثة. وهو توجه لابد وأن يقلّص مع مرور الزمن قاعدته الاجتماعية ويجعلها قوة مناهضة لأبسط مفاهيم الحرية والتقدم الاجتماعي. وهي عملية بدأت ملامحها الأولية في ظاهرة تزايد وتوسع وتعمق الشرخ السياسي والفكري والمعنوي بينه وبين المجتمع. إذ يمكن ملاحظته في الشرخ الهائل بين المؤيدين والمعارضين له في المدينة والريف، بحيث تحولت الظاهرة الصدرية إلى جزر متناثرة لا يربطها سوى الاستعداد للعنف. وهي عملية مستنفذة بالضرورة لأنها غير قادرة على مواجهة العنف الفعلي القائم في ظاهرة التهميش التي تعرضت لها فئات هائلة من المجتمع العراقي بشكل عام والشيعة بشكل خاص. كما نرى ذلك في الهوة السياسية القائمة بين «التيار الصدري» والحركات السياسية العراقية عموما، بما في ذلك الشيعية. بل أن ما كان يميز «التيار الصدري» قبل تعرضه للضربة القاضية في جولته الأولى ضد القوات الأمريكية والعراقية الرسمية، هو استعداءه للحركات والتيارات والأحزاب الشيعية وخذل زعماؤها التقليديين. وهي ظاهرة تعكس الطابع الراديكالي للتيار الصدري، بغض النظر عن نفسية المؤامرة والمغامرة التي كانت القوى المتزاحمة في «مجلس الحكم» والشيعية منها بالأخص تستدرجه لخوض «معركة الشرف» الخاسرة. وفي هذه العملية كانت تتبين مستوى وحدود وديناميكية الاغتراب السريع بين الظاهرة الصدرية وبين المجتمع.

وفي الإطار العام يمكن القول، بأن الظاهرة الصدرية بوصفها ظاهرة راديكالية تبرهن من جديد على أن الحثالة الاجتماعية ليست مستعدة على بلورة رؤية سياسية أخلاقية قادرة على تجاوز مفاهيم الحثالة وتصوراتها وأحكامها لما جرى ويجري. ومن ثم فإن ممارساتها ككل لا تفعل إلا على إعادة إنتاج مختلف مظاهر الإفساد والانحطاط والتخلف والاستبداد. الأمر الذي يشير بدوره إلى الحقيقة التي ينبغي تحويلها إلى بديهة عملية بالنسبة للوعي السياسي المعاصر في العراق، والقائلة بأن مهمة إنقاذ المظلومين بوصفها فلسفة للحرية الفعلية لا تتبلور بينهم، بل بين أولئك الذين استطاعوا تجاوز حالة الظلم، بمعنى ممن هو قادر على رؤية حدود الظلم من موقع البدائل العقلانية. وهي حقيقة تنطبق بقدر واحد على الظاهرة الراديكالية الاجتماعية والقومية والدينية.

فقد استطاع «التيار الصدري» أن يستقطب من حيث قواه الاجتماعية كمية الحثالة الاجتماعية الهائلة في العراق المعاصر، مما جعل منه التيار الأكثر نموذجية لتمركز وفعالية القوى الرثة. وهي قوى اجتماعية عراقية معبرة عن حالة عراقية فعلية. أما في وسائله، فإنه التجسيد الأكثر تخلفا لكيفية إدارة الصراع الاجتماعي والسياسي، وذلك لأن «منطقه» الوحيد هو منطق السلاح لا سلاح المنطق. وهي أيضا وسيلة معبرة عن حالة عراقية فعلية. أما في نيته فقد كان يسعى للهيمنة، وهي أيضا نية معبرة عن حالة عراقية فعلية. بينما لم تكن غايته المعلنة عن طرد الاحتلال وغايته الباطنة عن إحلال النظام الإسلامي، سوى وجهان مكملان للرؤية الراديكالية التي لا ترى ولا تسمع ولا تتذوق حقيقة ما يجري في العراق وحوله والعالم.(يتبع....).

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم