قضايا

علي فضيل العربي: تأمّلات في التقشف والزهد

عرّف علماء الاجتماع والاقتصاد التقشف بأنّه: (مصطلح يشير في علم الاقتصاد إلى السياسة الحكوميّة الرامية إلى خفض الإنفاق، وغالبًا ما يكون ذلك من خلال تقليص الخدمات العامة، في كثير من الأحيان، تلجأ الحكومات إلى الإجراءات التقشفية بهدف خفض العجز في الموازنة، وغالبًا ما تترافق خطط التقشف مع زيادة الضرائب.

التقشف بالمعنى العام يُقصد به صعوبة العيش وخشونته، بسبب عدم كفاية حاجيات الإنسان وهو في الاصطلاح السياسي، برنامج حكومي ذو طابع اقتصادي، يستهدف الحد من الإسراف من زيادة الإنفاق على السلع الاستهلاكيّة وتشجيع الادخار، والعمل على مضاعفة الانتاج، علاجاً لأزمة اقتصادية، تمر بها البلاد) {ويكيبيديا / الموسوعة الحرة}...

فالتقشّف، إذن، مصطلح اقتصادي وسياسي، ماديّ، براغماتي (نفعي)، غرضه المنفعة العامة. بينا الزهد دافعه روحي أو دينيّ ونفسي. غايته المنفعة الخاصة. إنّ التقشّف له منطلق خارجيّ، قد تفرضه مصاعب الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ويعزّزه الخوف من الوقوع في أزمة الجوع ونقص الموارد أو شحها، ممّا يهدّد حياة الإنسان بالفناء، بل وينشب عن ذلك الخوف نشوب صراعات داميّة بين الأفراد أنفسهم وبين الجماعات المتجاورة، وقيام حرب ضروس من أجل الاستيلاء على موارد الغذاء.

أمّا الزهد، فقد عرّفه العلماء والفقهاء، بأنه {النظر الى الدنيا بعين الزوال، وهو عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف} وقال سفيان النووي: " الزهد في الدنيا قصر الأمل ". ويقال: رجل زهيد العين إذا كان يقنعه القليل، ورغيب العين إذا كان لا يقنعه إلا الكثير. وزعم البعض أنّ المزهد هو الذي ليس عنده شيء من الدنيا. وهذا تعريف قاصر، لا يعبّر عن ماهيّة الزهد، إنّما الزاهد هو من يترفّع قناعة عمّا عنده، أمّا الذي لا يمتلك شيئا فلا حاجة له في الزهد. وكيف يكون زاهدا مسكين ومعدم ومترب، لا يمتلك قوت يومه؟

إذن، فالزهد لا علاقة له بالوفرة الماديّة والغذائيّة، ولا علاقة مباشرة له بالفقر أو الغنى، لأنّ مصدره ومنبعه ومنطلقه نفسيّ داخليّ بحت. بل هو رياضة نفسيّة يمارسها بعض الناس لغايات في أنفسهم. لقد حرّم الله على عباده الإسراف في استهلاك النعم تبذيرها، وأمرنا بالتمتّع بها بحكمة واعتدال.

ومن أهم الدوافع النفسيّة للزهد، الإحساس بالقناعة والإشباع والارتواء بالنزر القليل من الحاجيات الماديّة، بل قد تفضي القناعة مثلا إلى عدم الشعور بالجوع المادي، ممّا ينتج عنه طمانينة نفسيّة، وضمور في البطن وخفّة في العقل ونمو في الذكاء والفطنة، وراحة في الضمير. قيل: إنّ البطنة تذهب الفطنة. وهذا حكمة في غاية الصحة. فشرّ ما يملأ المرء بطنه.

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإن تُرد إلى القليل تقنع

فالزهد لا يعني الامتناع عن ما أحلّه الله لنا من الطيّبات امتناعا كليّا، فهذا السلوك الامتناعي مخالف للفطرة الإنسانيّة، ومخالف للعقيدة والشريعة، وهو نوع من " التطرّف المعيشي " والتضييق على النفس، والتجاوز اللامشروع. قال تعالى: " وكُلُوا واشْربُوا ولا تُسْرفُوا إنّه لاَ يُحبُّ المُسْرفين " {الأعراف / 31}، وقوله: " لا تجعل يدك مغلولة إل عنقك ولا تبسطها كل البسط " {الإسراء / 29}، وقوله أيضا: " إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين " {الإسراء / 27} وقوله كذلك: " يَا أيُّهَا الذينَ آمَنُوا كلوا من طيبات ما رَزَقناكُم واشكُرُوا الله إنْ كنتم إياه تَعبدُون " {البقرة / 172}

يلجأ الفرد والجماعة إلى التقشّف في زمن الأزمات، جبرا لا اختيارا، كأزمة الغذاء الناتجة عن الكوارث الطبيعيّة، مثل الجفاف أو تعرّض المحاصيل الزراعيّة الاستراتيجيّة إلى جائحة الجراد الأصفر، او نتيجة الحروب الأهليّة والنزاعات البينيّة. تقوم السلطة الحاكمة، بتقنين توزيع المواد الغذائيّة بوساطة نظام بطاقات التموين، وتكتفي بتوزيع المواد الأساسيّة للمحافظة على استمراريّة الحياة. أما المواد المصنّفة في خانة الكماليّات، فلا تقيم لها وزنا، فهي خارج النظام الغذائي الاستراتيجي. وفي هذه الحالة يشعر الأغنياء والمترفين والمنفقين والمسرفين والمستهلكين والآكلين كالأنعام بتغيّر مفاجيء في حياتهم اليوميّة، ممّا يدفعهم إلى الهجرة بحثا عن الرخاء الذي افتقدوه في بيئتهم المأزومة. أمّا الفقراء والمهمّشون، فلا يطرأ على حياتهم أدنى تغيير، ما عدا شعورهم بالرضا والقناعة وإيمانهم عدالة السماء.

و بالمقابل، لا تزحزح تلك الأزمات والجوائح قيد أنملة من الحياة اليوميّة لمن اعتاد على حياة الزهد. فقد أكسبته تلك الرياضة النفسيّة وعلّمته كيف يروّض نفسه - التي ألهمها الله الفجور والتقوى – في زمن العسر واليسر معا. علّمته الحياة أن الصبر، صبران: صبر على الموجود وصبر على المعدوم، صبر على المكاره وصبر على المحاسن. لقد استطاع الزاهد أن يقمع شهوة اللذات، ويقبض على زمامها بقوّة، لئلا تنفلت، ويوجّهها.

يصبح التقشّف ضرورة اقتصاديّة ومعيشيّة واجتماعية، في حياة الأفراد والجماعات لحفظ النسل، ويأخذ صفة الوازع الأخلاقي، بشرط أن ينخرط في دواليبه جميع افراد المجتمع، دون تميّز بين فقيرهم وغنيّهم، ويتحوّل إلى لون من ألوان التكافل الاجتماعي، والتعاون على البرّ والتقوى. حينها تتكوّن في المجتمع مشاعر الأخوة والتراحم والتشارك في المنافع والأضرار، وتقاسم أعباء الحياة في اليسر والعسر.

و بين التقشّف والزهد علاقة جدليّة، بالمعنى الفلسفي الاقتصادي الروحي، أيّ كلّما أدرك الفرد المعنى الحقيقي للزهد - الذي لا يعني تعذيب النفس بحرمانها من ملذّاتها ومشتهياتها التي شرعها الله لها - قال تعالى: " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " {المائدة / 87}. قاده ذلك إلى التقشّف في حياته، دون بخل وتقتير. فإذا كان الزاهد يشعر براحة النفس والبال، ويمارس طقوس الزهد بقناعة، فإنّ المتقشّف لا يبلغ درجة الرضا والحكمة والتضحيّة والخدمة الجماعيّة، إلاّ إذا ساهم - بفعله لا بقوله - في حفظ التوازن النفسي، وتجسيد الاستقرار والسلم الاجتماعيين.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر  

في المثقف اليوم