قضايا

انحطاط الفكرة القومية العربية في العراق

ميثم الجنابيالعراق - نقد الواقع وتأسيس البدائل (8)

إن المفارقة الكبرى التي عادة ما تلف الأمم الكبرى تقوم في صعوبة نهضتها بالمعنى المادي والمعنوي. وهي مفارقة لها أسبابها الخاصة في ثقل الماضي الذي عادة ما يجثم على رؤية العقل والضمير في استصغاره للكبائر. لكنه استصغار محكوم بدوره بحجم التاريخ الهائل وضغط مكوناته المتنوعة على بلورة معالم الرؤية العصرية. فالمعاصرة تفترض في حالات عديدة التحرر النسبي من ثقل الماضي. وهو تحرر أكثر ما يلوّع العقل والضمير التاريخيين للأمم الكبرى. لأنهما يعانيان دوما من ثقل المراجع والأعلام والأحداث التي يتغلغل كل منها في مسام الذاكرة، بحيث يصعب تجردهما من العيش بمعايير المعاصرة الخشنة.

ويمكن ملاحظة هذا التأثير الفاحش لهذه المفارقة على مصادر المبادرة التاريخية للثقافة العالمية الأوسطية، واقصد بذلك ثقافة أسلافنا العراقيين – السوريين - المصريين، والثقافة الإغريقية. وإذا استطاعت الكينونة العربية أن تصهر أسلافها في بوتقة الخلافة وتبدع على مثالها نموذجا هو الأكثر رقيا بالنسبة للقومية العربية، بمعنى نقلها من حضيض العرقية إلى مصاف القومية الثقافية (غير العرقية)، فإن الإغريقية ذابت في دهاليز الأوربية القروسطية والحديثة. الأمر الذي يفسر في بعض جوانبه سبب الإنهاك التاريخي الذي تعرضت له الثقافة العربية الإسلامية والإغريقية. وفي هذه المفارقة أيضا يكمن أثرهما التاريخي العالمي وواقعهما المزري نسبيا في العالم الحديث، أي الأكثر تخلفا في العالم المتوسطي، اللذين وضعا أسسه ومقومات وجوده المادي والروحي. فكلاهما تعرض لمحرقة التخلف العثماني، الذي سحق اغلب مكونات كينونتهما الثقافية. لكن «القرون المظلمة» التي لازمت السيطرة العثمانية، شأن كل مراحل الانحطاط التاريخي، لم يكن بإمكانها أن تقضي على مصادر المرجعيات الثقافية، التي وجدت صيغتها العملية الحديثة بالنسبة للعرب في المحاولات الحثيثة لاستعادة قوته من تحت ثقل الأنقاض الثقيلة التي جثمت على كيانه وكينونته قرونا عديدة من الزمن.

وقد ظهرت هذه المحاولات في ما نطلق عليه اليوم مفهوم النهضة العربية الحديثة. وهي نهضة كانت تعاني من ضعف بنيوي هائل بسبب غياب تاريخها السياسي والدولتي الخاص. مما جعل اغلب معاناتها جزء من تاريخ الدولة العثمانية وليس عنصرا مكونا من عناصر وعي الذات التاريخي والقومي. لكنها نجحت في استثارة الوعي القومي، ومن ثم إعادة انتباه العرب إلى أصولهم الثقافية الخاصة. وتتمتع هذه الأصول بقدر هائل قد يكون الأوسع والأعمق في التاريخ الثقافي للأمم. وفي هذه المفارقة كانت وما تزال تكمن معاناة الرؤية القومية العربية، أي كل ما جعل منها مولودا كبيرا منذ البدء. لكنه كبر كان يعاني من عقدة نقص هائلة أمام تفوق الأوربيين، تلامذتنا في الماضي القريب.

كان التأثر العربي الناهض بالثقافة الأوربية الحديثة يحتوي في أعماقه على معالم الرغبة والرهبة. وتركت هذه الحالة بصماتها العلنية والمستترة في انشقاق وشقاق العقل والوجدان. وإذا كانت النخبة المتفتحة لم تجد في التلمذة سوى فضيلة التعلم المميزة للعلماء والأدباء، فإن الغالبية العظمى كان يصعب عليها قبول «الاغيار» بسبب تباين التطور الاجتماعي والثقافي من جهة، والانحطاط شبه الشامل للعالم العربي آنذاك، من جهة أخرى. لقد كانت النخبة مستعدة لقبول وتجسيد الفكرة التي قال بها العرب المسلمون الأوائل عندما واجهوا بقايا الثقافة الإغريقية بعبارة «ما كان منا ردّ إلينا». وتفصح هذه العبارة العميقة والبليغة عن موقف ثقافي قادر على تمثل نتاج الثقافة الإنسانية والعمل بمعايير التجربة الفردية. بينما لا تجارب فردية في العالم العربي زمن بداية «النهضة». بل هو مجرد زمن لم يرتق بعد إلى مصاف التاريخ. من هنا كان الاستنساخ هو الطريقة البدائية والأولية لتعلم كيفية النسخ. ومن بعده كان بالإمكان إتقان آلية الناسخ والمنسوخ. بمعنى الانتقال من التشبه إلى المحاكاة ومنهما إلى النظرة المستقلة، أي المتراكمة بمعايير التجربة الفردية وأذواقها.

إلا أن زمن المحاكاة العربية للثقافة الأوربية ضلّ في توجهه العام، وظل حبيسا لما أسميته بشقاق وانشقاق العقل والوجدان، بما في ذلك في مجال الرؤية القومية وتأسيس أصولها. بمعنى أن تأسيسه لأصول الفكرة القومية لم يكن معاناة فعلية على لهيب الرؤية النقدية ومرجعية المنظومة الفلسفية. من هنا كانت معاييرها تحتوي على أوزان متباينة ومختلفة. كما كان يصعب عليها التراكم في منظومة قادرة على مواجهة منظومة التخلف والانحطاط. وفي هذه الظاهرة التاريخية التي لفت في غبارها الأجساد والأرواح، كان يصعب السير بخطى واثقة، كما كان يصعب الرؤية بعيون فاحصة. من هنا كانت عباءة الستر هي الستارة التي تعيق تأمل خطى الجسد العربي في بحثه عن موقعه الذاتي. وهي مفارقة غريبة! فالعالم الذي بقى لقرون عديدة مصدر الإبداع التاريخي للأمم جميعا بدء من العراقيين والمصريين والسوريين القدماء، أي أسلافنا الذين صهروا لاحقا في بوتقة الثقافة العربية الإسلامية، أصبح بين ليلة وضحاها تائها في البحث عن هويته الجديدة! ولم تكن هذه المفارقة سهلة الهضم بالنسبة لمن عاصرها. بمعنى إمكانية إثارتها للانسحاق المفاجئ أو الانغلاق. وفي كلتا الحالتين كانت الآفاق المهملة تقوم في صعود الرؤية الراديكالية المميزة لكل تاريخ القوميات المهزومة والمسحوقة. بمعنى البحث عن هوية ميتافيزيقية تتجاهل التاريخ من اجل الرجوع إليه، وتنفي الخيال لأنها تبحث عن واقع يمكنها الاعتماد عليه، وتحتقر المستقبل لأنها تبحث عن عروة يمكن الإمساك بها. وهو السبب القائم وراء البحث عن «مهمة تاريخية» أو «رسالة عالمية» وما شابه ذلك من صيغ أيديولوجية تعقلن ما يبدو لها منافيا للعقل، وما ينبغي «للأمة» أن تجسّده. مع أن عصب القضية يطفو على سطح وجودها التاريخي، والقائم في عجز أو شلل الأمة عن تنفيذ مهمتها التاريخية ورسالتها لنفسها. بمعنى عدم بلوغها حالة التكامل الذاتي الذي يستجيب لما فيها وفي تاريخها ورغبتها من «تحد» و«مواجهة» لواقع أو عقبات لا تستطيع تذليلها. من هنا تصبح الرؤية الأيديولوجية والأسطورية تعويضا سهلا عن خشونة الواقع. مع ما يترتب عليه من ضياع أو اضمحلال للرؤية الواقعية والعقلانية. وكلما يكون الواقع أكثر انحطاطا واشد تخلفا كلما تكون الرؤية الأيديولوجية اشد تطرفا وأكثر غلوا في تصورها للبدائل. ووجدت هذه الحالة تعبيرها النموذجي في العراق.

فقد كان واقع العراق قبل ظهوره الجديد على خارطة العالم السياسية كيانا هامشيا بالمعنى السياسي والاقتصادي والثقافي. بحيث انسحب من موقعه القديم بوصفه مركز العالم الثقافي لآلاف السنين إلى أطرافه الأكثر هشاشة وخرابا. والشيء الوحيد الذي كان يحتويه هو مكوناته التاريخية الثقافية الكبرى المترامية بين البصرة والموصل مرورا ببغداد، أي عوالم السومريين والبابليين والآشوريين القدماء. مما يشير بدوره إلى انه وحدة لها كينونتها التي لم تفعل قرون الانحطاط العديدة في ظل السيطرة التركية العثمانية إلا على طمسها فقط. لكنها سرعان ما ظهرت ملامحها المختبئة وراء تجاعيد الزمن بعد أول محاولة لإظهاره من طي التاريخ إلى حيز الجغرافيا السياسية. وما بين هذين المكونين الفاعلين في ظهوره الجديد، كانت تكمن عناصر التخريب المحتملة للفكرة القومية.

فقد كان تاريخ العراق الثقافي، القوة التي لم يضعفها الزمن وذلك بسبب ذوبانه أيضا في تاريخ الأمم والثقافات جميعا. فقد كانت هذه القوة وما تزال وسوف تبقى شديدة الفاعلية في بلورة وعيه السياسي النظري والعملي. وذلك لأن أية رؤية قومية عربية سوف تقف بالضرورة أمام مهمة تأمل أو استلهام أو توظيف إرثه الثقافي الهائل. ولا يمكن لهذا الإرث أن يفعل خارج أو بدون بؤرته العربية الإسلامية. فهي البؤرة التي امتصت وتمثلت بطرق ومستويات متنوعة ومختلفة أرثه الرافيديني.

وليس مصادفة أن تتحول فكرة النهضة تدريجيا صوب العروبة الإسلامية بأنماطها المتنوعة من سلفية جامدة حتى ليبرالية مبتورة. وهو أمر طبيعي في ظل عملية لم تتكامل في وجود قومي موحد على مستوى الدولة والثقافة والهموم. من هنا تجزئة هذه المكونات الضرورية للوحدة القومية، التي لم يفعل ظهور الدول العربية الحديثة، بما فيها العراق، إلا على استثارتها في العقل والضمير من خلال تعميق وتوسيع شدة الخلاف وعدم الارتياح والقلق الدفين تجاه تضارب الكينونة التاريخية الثقافية القديمة والوجود الجغرافي السياسي الجديد. ولم تستطع الفكرة القومية العربية الحديثة حل هذا الخلاف بطريقة واقعية وعقلانية. من هنا نمو الأبعاد الطوباوية فيها واللاعقلانية.

لقد كان نمو الأبعاد الطوباوية واللاعقلانية في الفكرة القومية العربية الحديثة وثيق الارتباط بحالة الانحلال والانحطاط التي خرج منها العالم العربي من رحم العثمانية. واتخذ نمو هذه الأبعاد في ظروف العراق الخاصة طابعا مميزا ارتبطت بكونه لم يكن آنذاك سوى نكرة على خلفية إرثه التاريخي الثقافي العظيم. بمعنى هبوطه إلى حضيض التجزئة المروعة، في الوقت الذي كان، من حيث الكينونة والتأثير، مصدر الوحدة الروحية والثقافية والسياسية للعالم العربي (والإسلامي). من هنا لم يكن بمقدور أية قوة سياسية قومية ناشئة ألا تصاب بدوار الرأس من هذا الضغط العنيف الذي يفرضه على المرء والجماعة والحركة ما أسميته بتضارب الكينونة التاريخية الثقافية القديمة والوجود الجغرافي السياسي الجديد. إذ لم يكن في العراق انتماء وطنيا ولا قوميا بالمعنى الدقيق والمعاصر لهذه الكلمات. من هنا لم يكن بإمكان أي تصنيع سريع لهذا الانتماء الوطني والقومي أن يجري خارج أغراء وإغواء الرؤية الراديكالية بوصفها الملجأ الوحيد والفعال للأوهام السياسية الملازمة للفكرة القومية أول نشوءها. فالتجارب التاريخية للأمم عموما وتجارب العراق خصوصا تبرهن على استحالة تأسيس هذا الانتماء الوطني والقومي بمعزل عن البناء العقلاني والتدريجي لمؤسسات الدولة الحديثة

وفي هذا الواقع المشار إليه أعلاه كان يكمن سرّ انتشار الراديكالية في العراق والقومية منها بشكل خاص. وحالما تحولت الفكرة القومية الراديكالية كما تجسدت في فكرة البعث إلى أيديولوجيا «القفزات» السريعة، فإنها أدت إلى صنع مختلف أنماط وأشكال ومستويات المؤامرة والمغامرة ومن ثم التخريب الدائم والعشوائي الشامل لفكرة الدولة والحق والمجتمع. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار طبيعة الارتباط التاريخي بين الهامشية الاجتماعية والمذهبية (السنيّة) وبين الفكرة القومية العربية الجديدة والبعثية منها بالأخص. مما أدى إلى مصادرة الفكرة القومية العربية ورهنها بأيد قوى هامشية بالمعنى الاجتماعي والثقافي والجغرافي أيضا! وجعل هذا الارتباط من الفكرة القومية العربية بصيغتها البعثية (السورية الأصل) أكثر غلوا واشد ابتعادا عن جذورها (اللاعقلانية أساسا). بمعنى تهميشها السياسي التام، ومن ثم دورها الأشد فاعلية في التهميش السياسي للمجتمع والدولة. وفي هذا يكمن سبب تغلغل النزعة الطائفية والجهوية الضيقة للأيديولوجية البعثية (القومية) التي تحولت لاحقا إلى صدامية، بوصفها الصيغة الأكثر تطرفا واستظهارا لمضمون الفكرة القومية البعثية.

فقد كانت الصدامية الصيغة الأكثر راديكالية وهامشية وهمجية للفكرة القومية العربية. حيث جسدت بذاتها وفي ممارستها العملية على امتداد ثلاثة عقود الصيغة «الكلاسيكية» لنفسية وذهنية الانحطاط الشامل. إذ  دمرت هذه النفسية والذهنية بصورة مريعة مضمون الفكرة القومية العربية. بحيث أرجعتها إلى كتلة من الأفعال المخربة للدولة والمجتمع والحق والعدل والعقل والضمير، باختصار أنها لم تبق على شيء ما لم تمسه بأنفاسها القذرة. ولم «تنجح» إلا في تشذيب وشحذ القهر والاستبداد وجميع أشكال الرذيلة. وفي مجال القومية لم يؤد ذلك إلا إلى أن تصبح الفكرة القومية رداء للجهوية والتقليدية، أي الصيغة المركبة لتخلف الأيديولوجيا وانحطاطها العقلاني. من هنا افتقادها التام للرؤية الواقعية. وبالمقابل استفحلت سيادة النزعة الإرادية المنحطة والهمجية المتفاقمة. أما النتيجة فهي التصنيع الدائم للتخلف والانحطاط. وفي هذا كان يكمن شرط سقوطها التاريخي. لكنه كان أولا وقبل كل شيء سقوط احد الأنماط اللاعقلانية للأيديولوجية العربية القومية.

غير أن المهزلة التاريخية الكبرى للفكرة القومية العربية، وقد تكون تلك التضحية الضرورية الجديدة من اجل المرور بما يمكن دعوته بالتطهير الذاتي، هو تحول الفكرة القومية العربية إلى محل استهجان وتجريم. وهو تجريم عرضة للزوال السريع بفضل حقيقة العراق وكينونته التاريخية والثقافية. إلا أننا نعثر في هذه الظاهرة على انتهاك فض وتجاوز لا يمكن القبول به من الناحية الأخلاقية والوجودية. لاسيما وانه انتهاك يعكس أولا وقبل كل شيء طبيعة النمو المطرد لنفسية «الأقوام الصغيرة» التي أخذت تتجسد في ما يمكن تسميته بالطائفية الشيعية الفارسية، أي التيار الطائفي السياسي للقيادات الشيعية الفارسية الهوى والتربية. ولا علاقة عضوية لهذه "القيادات" بالعراق. بمعنى أنها انتزعت عن ذاتها مضمون الفكرة القومية العربية أو أولويتها بما في ذلك بالنسبة لفكرة التشيع السياسي. مما جعل منها قوى مستعدة للالتفاف على فكرة القومية العربية باسم الوطنية العراقية والدين الإسلامي لكنه التفاف قادر على الالتقاء والتفاهم والمساومة مع قوى قومية غير عربية!! أي مع قوى ناصبت ولا تزال تناصب في أعماقها العرب عموما والفكرة القومية العربية خصوصا بعداء قومي وعنصري عنيفين. واغرب ما في هذه الظاهرة مصارعتها العراق على ما فيه، بمعنى مصارعة العراق من قبل قوى لا تتمتع بعلاقة عضوية به. وهو خطأ وخطيئة شاركت فيهما القومية الجوهرية للعراق (العربية) في الماضي القريب وتنهمك فيهما الآن القيادات الدينية والدنيوية الشيعية والسنيّة من خلال جر العرب إلى حضيض الطائفية الدينية والسياسية.

إننا نعثر في هذه الحالة على انحدار مستمر وانحطاط شبه شامل للقومية العربية من حيث كونها فكرة وعمل. وهو انحطاط جرأ الكثيرين، بما في ذلك أكثر القوى تخلفا من الناحية الاجتماعية والسياسية على الشك في عروبة العراق. والقضية هنا ليس فقط في أن الشك في عروبة العراق هو نفي لحقيقته التاريخية والثقافية، بل وفي الاستعاضة عنها بمرجعية الطائفية السياسية والنزعة العرقية!! وتعكس هذه الحالة واقع ومضمون وأبعاد الانحطاط الفعلي للقومية العربية فيه. وفي هذا الانحطاط المادي والمعنوي نعثر على مؤشر خطير عن مستوى الخراب الثقافي والسياسي العربي في العراق، مع ما يترتب عليه من استعادة لجاهلية طائفية وعرقية باسم الإسلام والقومية! وكلاهما وجهان لظاهرة واحدة وهي الانحطاط التاريخي للأمة وروحها المعنوي.

***

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم